| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

مديح الصادق

 

 

 

 

الأثنين 14/6/ 2010

 

قصة قصيرة

قاب قوسين أو أدنى من جهنم

مديح الصادق

قد لا يكون هو المقصود بابتسامة عريضة كشفت عن صفين من اللؤلؤ ناصعين, وأفصحت عن محيَّا فتاة في العشرين اكتملت أنوثتها بصدر ناهد, وقامة ممشوقة, بخصر إسطواني كشفت عنه قليلا برفعها طرف القميص, وأنزلت البنطال الضيق حدَّ الوركين, ومالت جانبا بجلستها, بوضع مثير تقابله في المقعد الآخر في عربة مترو الأنفاق, يومين في الأسبوع عليه أن يمر برحلة من بيته للجامعة النائية أطراف تورونتو, خليط بشري منوع الألسن, والأجناس, والأشكال, والأعمار, بمختلف الأزياء أو بدونها في بعض الأحايين, في كل محطة يستقبل جيلا بعد أن يغادره جيل؛ لكنها لم تغادر المقعد كأن همَّها أن تعد المحطات, وظل مبسمها شاغلا صاحبنا الذي على مضض غالب الاتزان, بسذاجة تظاهر أنه لم يلق لها أي اهتمام, بأطراف أنامله عدَّل ربطة العنق ودبوسها الذهبي, حدّق في زجاج النافذة المقابل مستطلعا تناسق ألوان بدلته والقميص والرباط, على تسريحة شعره مرَّر مشابك الكفين, لم يَغزُهُ صلع بعد, ولمَّا يزل غالبا على بياضه السواد رغم وداعه الخمسين مما ورطه في مراهنات الأصدقاء على أنه يصبغ الشعر؛ وبعدها يكسب الرهان عندما يُصار إلى زوجته الاحتكام

على استحياء, بطرف عينه اليمنى, نظرة على عجل, مزيج من الخجل والخوف من ألا يكون هو المقصود, فتفسد عنده نشوة رجولية مثل زرع فارقه الغيث, وقاربت تذروه الرياح, حتى لاحت تباشير مزنة من بعيد, فعاودته الحياة, أو نهر جفت منابعه فانتابه اليأس, استطلع هيئتها من جديد, البسمة لم تفارق ثغرها, اتقد البريق بعينين واسعتين, سواداوين, رموش طويلة, تقاسيم وجهها السومرية اهتزت طربا,ارتفعت قليلا مقدمة أنفها الأخنس فزادها على ما هي عليه من عذوبة وجمال, كم هو غريب جنسكنَّ - أيتها النساء - حين تبتسمنَ, فإما هي رقصة انتصار على الأشلاء, أو هو خلق جديد لكون جديد جميل. أيقن الآن أنها له, لا منافس في الساحة على الإطلاق, فمَن حوله كهول يمارسون لعبة التجوال يوميا عبر محطات الأنفاق, وطلاب من كلا الجنسين أخلدوا للنوم فهم متعبون من يوم دراسي طويل, ليسوا بحاجة للحب وقد أتخموا منه كما الطعام والشراب, في أي زمان, أو مكان شاؤوه, دون خشية من رقيب, أو صولجان عقاب

حقيبة حمَّلتها كتبا, كراريس, مطبوعات, مستلزمات لهو, علب الطعام, عدة المكياج والعطور, عن كاهلها ألقت بها على المقعد المجاور, بللت شفتيها الحادَّتين برشفة ماء, رفعت سروالها قليلا للأعلى كي تكشف - عن عمد - عن ساقين مكتنزين أخفا بياضهما شتاء قد مرَّ قارس البرد, ثقيل الثلج, فتحت الإزرار الثاني من القميص كاشفة نصف الصدر, دارت عجيزتها للخلف نصف استدارة وهي تنظر بنصف عينها لقامتها الرشيقة خلال الزجاج, بدلال امرأة شرقية هزت رأسها إلى الجانبين بغية انسدال شعرها الفاحم الطويل على الكتفين. ياللهول, كم غريب هو هذا الكون, أليست تلك { أميرة } الطالبة العربية الأصل ؟ قبل ساعات, في الحرم الجامعي كانت في أقصى درجات الاحتشام, في المظهر, واللباس, والكلام, صوتها الرخيم المستحي بعاطفة وانسياب تقرأ قصائد { السياب } حتى أبكت الحضور في غربة الخليج, لابد إذن أن هناك مَن يعد عليها الخطى, وحينما يشعر المرء بانعتاقه من قيود الرقباء فإنه قد يفعل ما يظن أنه هو الصواب, أهي على موعد مع { البوي فريند } كما يسمونه في تلك البلاد ؟ أم أنها تكسب رزقها من مهنة ليست في مصاف العيوب على النساء, في بلد تحكمه النساء ؟

لا تطلق العنان للظنون - يا حضرة الأستاذ الشاعر الفنان - فمثلك أولى أن يكون منفتحا مستقبلا لحاجات الجديد من الأجيال, ألم تكتب يوما أن غدا أحسن من أمس ؟ أم أن تقدم السن, وكثرة الأهوال أنساك ما تشرَّبَه منك الذين على يديك تتلمذوا من فكر علمي ؟ { أميرة } ليست من هذا الصنف أو ذاك, والدليل القاطع اهتمامها الفريد بك, لاحَقتك اليوم طول الطريق, أمَامَك استعرضت كل ما بوسعها من مغريات النساء, النساء المحنكات في صيد الرجال, غير طامعة منك في مال أو جاه, ليست مبالية لفارق السن الكبير, مع علمها المسبق أن لك زوجة وعيال, فقد تكون نزوة عابرة, أو وهما بأن الحب الصادق يمكن أن يقفز فوق فوارق السن ولا يبالي بارتباط الآخر بزوج, وقد تكون حاجة لسد نقص عاطفي, فاستهواها حضن رجل متزن يعوضها حنان أب أو أخ أو صديق أو زوج جفت عنده منابع الحب والوفاء, أيَّ حب كان ؟ فهو بالنتيجة حب, وهل هناك في الكون زاد يعين المرء على البقاء حيا كما شعوره بأنه محاط بالحب ؟

خطوتين باتجاهه تقدمت, ثالثة, تمايلت بدلال, ابتسامتها أوسع من ذي قبل, كاد قلبه يقفز من جنبيه, توردت وجنتاه, ساقاه بعضهما البعض تضربان, ارتعشت شفتاه, نعم إنه هو الحب, هكذا يفعل العشاق عندما تشتعل شرارة الحب, اللحظة هذي جيدا يعرفها, فيها له شعر جميل كان من وحي الخيال؛ لكنه اليوم غارق لا محالة في عباب هذا البحر. أغمض الجفنين خلف نظارة سوداء, قادمة هي إليه, ستأخذه بالأحضان كما يفعل هنا الناس, في المغطى والمكشوف من المساحات, بعد الحَضْن على خده ستطبع قبلة أول الأمر, ثم يلتهم الحريق الشفتين وكل المشتملات, ولتفعل ما تشاء, ممَّ خائف أنت ؟ أمِن قوم يُقبِّل بعضهم البعض في الشارع, في المقهى, في الباص, في البار, وحيث يقضون الحاجات, وبعد ذلك يعملون بجدٍّ, ويبدعون ؟ أم أن خيال زوجتك التي خاصمت فراشك مذ عامين بادعاء اعتلال الصحة أو كبر السن مازال مطاردا إياك حيثما فررت, منغصا عليك أهنأ اللحظات, لا, لا, ليس الأمر كذاك, فأنت لم تتخلص بعد من عقدة الخوف من حديث منفرد مع النساء, أنت لم تنس قط يوم استدعاك عميد الكلية في ذلك البلد العربي مهددا إياك بفسخ عقدك الجامعي إن تكررت جريمة تناقلتها الطالبات والطلاب والموظفون والحراس الليليون والمنظفون, حين تم ضبطك بالجرم المشهود وأنت تحادث طالبة في المكتبة على انفراد

لا تخف من أحد في هذه البلاد, حتى من نفسك لا تخف, كثير منا يفعل في الخفاء ما ينهى عنه على منابر الخطباء, أما إن شاء أن يكون عسيرا معك الحساب مَن بيده القضاء فلا تتوجس, لقد أفتى كل أنبيائه بأنه غفور رحيم, هلمي - أيتها الفاتنة - هلمي, بعطرك, بكل مالديك من سحر, هلمي فالساعة قد دنت ولا مكان بقلبي مطلقا للخوف, تحت أقدامك أحرق أعوامي الخمسين, أقلع ما غزا مفرقي من أبيض الشعر, وكلكامش هذا ليذهب للجحيم فقد عثرت اليوم على السر الذي أفنى عمره - دون جدوى - في البحث عنه, الليلة أكتب ملحمة للأجيال بأن الحب بعد الخمسين لهُوَ بعينه سر الخلود

عن قرب لامسته, ساقا على ساق, تحول الظن إلى يقين, ليس ككل مرة من شاعرٍ خيال , أو من محموم هذيان, أيعقل أنها ساعة موت أم ولادة حين تفقد اتصالك بالأشياء ؟ وتعتريك ارتعاشة الخريف, أم أن كارثة على الطريق ؟ فما من كارثة إلا وكان الأساس فيها لحظة الضعف, فتبا للضعف. على نهج المتحضرين للأمام مدَّ الشفتين مستقبلا أنفس القبلات, أنفاسه تكاد تشعل النار في العربات, ثقيلة مرت الثواني وهو لها على أحر من جمر بالانتظار, فتحَ الذراعين مستقبلا حضنها الدافئ ليضغط على ظهرها الضغط المتحضر الخفيف, منها يستمد القوة والعزم كما استمد العظماء ذلك من خيِّرات النساء, وهل في العالم سر عجيب مثل قوة حب تمنحه امرأة مَن تحب وتهوى بسخاء ؟ توقف القطار, أعلن المذياع, احتكت الأجساد بالأجساد, والحديد بالحديد, حقيبة أوراقه تدحرجت بين فخذيه, نظارته السوداء على الأرض, على وسعهما فتح المقلتين, ألا لعنة الله على القطارات فهي تفسد الأحلام.
{ أميرة } انحنت بلطف, كفُّها الرقيقة مدَّتها, فراشة جميلة على كتفه الأيمن, كانت تغازلها طوال رحلة القطار, تناولتها برقة وحنان, طاب يومك يا أستاذ؛ فإن مَن حطت عليه فراشة مؤكد بأنه سعيد الحظ

تركت في المكان عطرها فكان كافيا لتشغيل القطار من جديد
 


June - 2010


 

 

free web counter