| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مديح الصادق

 

 

 

الأحد 11/4/ 2010

 

اخلع جلبابك ، يا مشحوت

مديح الصادق

حدَّثني عميد المسرح العالمي { بريشت } قال : لا تبتئس إذا وضعوا إنسانا لأربعين يوما بين أربعين من الفاشيين؛ فهو يبقى في الداخل حاملا لأسمى مبادئ الإنسان, فقلت مستدركا : لا يا معلمي, أما استثنيت مَنْ اعوجَّ طبعهم مثل ذلك الذي به تُضرَب الأمثال ؟

علَّمَني أن الثورة تنبع من داخل الإنسان, لأجل أن تكون قويا , قادرا, مؤهلا لتقويم اعوجاج الآخرين, وأن الثورة لاجتثاث ظلم, أو فساد تقتضي الصدق, ووحدة الأخيار أساسا لباقي المقومات, وبعدها قرأت عنها ما أبقى تنور أمي في اشتعال دائم ليومين بعد انكشاف فخِّهم اللعين, أولئك الأوغاد؛ فأحببت { مدينة الثورة } من ذلك, ليس لأن الذي جمع المساكين فيها الزعيم عبد الكريم فحسب؛ بل لأن حيثما يوجد الفقر يولد العظماء, والمتعبون , ومنهم المبدعون, والمغرر بهم, كلهم مظلوم يصطف مع الثوار .

صديقاي شاعر وفنان من أهلها, كما هم أهلنا العراقيون الكرام, لا يتركون ضيفهم إلا بعد أن يطمئنوا أنه في أمان؛ بل حاولا هضم غداء من النوع الثقيل { خبز الطابك, والسمك المسكوف } لم تنفع معه أقداح شاي مع الهيل, أو علبة ببسي من التصنيع المحلي, والثلاثة نحن لا نملك من الدنيا سوى معين لا ينضب من الهموم نجترها حين نطمئن أن الغابة قد خلت من الذئاب .

لمحته عن بعد, كبير السن يبدو, ضخم الجثة, مربوع القامة, يتقدمه قليلا كرش متوسط, جلباب أسود فضفاض, عمامة خضراء, يشماغ مثلها تدلى على الكتفين, يمسك باليمنى مسبحة طويلة سوداء, وباليسرى عصا يستدل برأسها يمنة ويسرة معالم الطريق, ونظارتاه الكبيرتان بلون بني تنبئان الناظر أنه بصير واقف بانتظار ابن الحلال, الدليل الذي يجتاز به الشارع نحو الجانب الثاني حيث يقام مجلس للعزاء, تعالت من جانبه مكبرات الصوت بما يشغل المعزين .

تأبطتُ ذراعه الأيمن بعد أن تلقيت منه {عليكم السلام ورحمة الله} ردا على سلام ألقيته عليه, من أنت, أيها الطيب ؟ همست بأذنه خافتا أسماني والداي { شرهان الصادق } ولما كان الأوباش يكرهون الصدق والصادقين اكتفيت - مضطرا - باسمي الأول { شرهان } هل أعجبتك يا حاج ؟

باركك الله, يا بني, وجازاك بخير جزاء, لك قصر في الجنة فيه من الطعام والشراب ما لذ وطاب, ومن الجواري الحسان حور العين, لا ليل فيها فكلها نهار, تأمر فأمرك مستجاب, ولتقر عينك فأنت هناك في أمان, أبشر بالجنة أبشر, أيها الكريم .

لا أخفيكم أن قد سال لعابي على قدر ما سمعت من مغريات باتت في حياتنا اليوم رؤى تراودنا في الأحلام؛ فبادرته السؤال كي أكون على يقين بأنني مشمول فعلا بهذا الكنز الموعود : أتسمح لي بالسؤال, يا حاج ؟ سل ما شئت فأنت من الآن من الأطهار : ما نصيبي مما وعدتني به إن أخبرتُك أني { لست من المسلمين } ؟

استدار دورة كاملة كأن قد مسه طيف من الجنون, انتزع كفه من كفي وأبقى على الخنصر عالقا لئلا يفقد الدليل, لن ينالك من هذا نصيب سوى { حسنة طيبة } قد تسجل لك يوم الحساب, لا تطمع بالمزيد, ما زلنا منتصف الشارع فيما يسمى { جزرة الوسط } التي يكون فيها المرء مضطرا - حتى يجتازها - إلى المزيد من التنازلات, سحبت كفي من أصبعه, سامحني ياعم فأنا لا أطمع إلا بالقصر الذي وعدتني به, لهذا فليس بإمكاني أن أكمل معك المشوار .

ألقي بجثته علي حتى خلت أنه هجوم مباغت مثل الذي يقوم به دعاة الدين الفاسقون؛ لكن ضحكة طويلة, أعقبها عناق حار, افترش الأرض على التراب, أجلسني بجانبه, لا عليك يابن أخي { إحنا والله مخابيل نوزع الجنة طابو بكيفنا, ونودي بكيفنا للنار } هل هذا إغراء منك كي أعبر بك الطريق ؟ إن كان ذلك ما تبغي فانزع جلبابك وما وضعت على الرأس, والبس { غترة وثوبا أبيضين } حملتهما معي في الكيس, وحدثني عنك, عن المخفي عندك والمستور .

إن سألت عن اسمي فقد أسماني خلق الله ب { مشحوت } لكثرة ما نالني من طرد من محاضر الشر قبل الخير, مارست دور الرقيب على الأغراب والأهل حتى ابتلاني الله بفقد الدليل, وأكرمني الناس الذين ظلمتهم بأن نادوني {البصير} وكي أحظى بالنصيب الأكبر  .

مما يمنح من بيت المال للمعاقين فقد مثلت دور { المجنون } إلى أن صدقت كذبتي, مثل جحا, فلم تعد تسعني مجالس العاقلين, وعندما ادعيت أني من نسل أهل البيت لأجني نصيبي من { الأخماس } طولبت بما يثبت ذلك ولم تسعفني قائمة الأنساب, صدقني لقد طاردني المتسولون الذين زاحمتهم على موائد الأغنياء, أما صدقت بأنني فعلا ذلك { المشحوت } ؟ فالويل لهم مني هؤلاء الأسوياء, لقد صبغت لحيتي, واعتممت بما يعتم به الصالحون, وتحت جلبابي هذا أخفي صكوك الغفران, أثمانها تدفع طوعا من مغفلين يجهلون أن تحته آلاف الشياطين, وأن جبهتي التي كويتها بالنار جواز به أتخطى محطات الفضوليين, واليوم, على يديك أعلن توبتي, ألا تتعدى بي المحطات, فتوصلني العزاء المقابل حتى أقول قولي في الحق .

شكرا جزيلا لك ياولدي فقد أنرت لي من نورك ما تبقى من مجاهل الطريق, لامَست رصيف الجانب الثاني قدماه, انتزع كفي من كفه بعنف, طرف العصا الغليظة في صدري, انكفأت إثرها على ظهري إلى الخلف, سيل من الشتائم مما سمعت أو لم أسمع به من قبل, صاح بأعلى صوته : لا تصدق أبدا { مشحوتا } على الأرض .
يا { شرهان } فنحن - معاشر المشاحيت - نكرهكم مثل كرهنا للدم في أسناننا - يا معشر الشراهين - لأنكم أوفياء بعهدكم صادقون .




العاشر من نيسان 2010
 

 

free web counter