| الناس | الثقافية | ذكريات | صحف ومواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. محمد شطب

 

 

 

 

                                                                                                 السبت 5/3/ 2011

          

ما هي اللُغَة؟
(2)

د. محمد شطب

إختلف علماء الإجتماع واللُغَة على مرّ العصور على أمر تعريف اللُغَة وعلى ماهيتها،
وهل هي، أي اللُغَة، ظاهرة بيولوجية، أَم نفسية، أم إجتماعية؟
هل هي شيٍء فكري أم مادي؟

فقد ظَنَّ بعض العلماء بأن اللُغَة ظاهرة بيولوجية، يتعلمها الصغار بالفطرة، مثلها مثل إمكانية البشر على الحركة والضحك والبكاء، أو إمكانيتهم على تناول الطعام أو الشراب، لا بل ظَنَّ البعض الآخر بأنها شيء يولد مع البشر، وهي صفة وراثية يمكن توارثها عبر الأجيال.

لم تصمد هذه الإعتقادات والأوهام أمام الإنتقادات والتطورات العلمية وخاصة تلك التي إهتمت بدراسة نمو وتطور الكائنات الحيَّة منذ الخلية الأولى إلى صيرورة الإكتمال والنضج، وذلك ليس على الإنسان كفرد بل على مجمل العائلة البشرية التي ينتمي إليها هذا الإنسان، وتم من خلال هذه الدراسات تفنيد هذه الظنون. فقد أثبتت التجارب والبحوث التي قام بها علماء اللُغَة، بأنه لا يمكن بأية حال من الأحوال النظر إلى هذه الظاهرة كونها ظاهرة بيولوجية كما هو الحال في توارث لون البشرة أو العين أو الشعر وغيرها من الخصال وإنتقالها من جيل إلى آخر، فالمولود الجديد لا يتكلم بالإلزام لغة والديه، أي إنه لا يرث هذه الصفة كما ورث لون شعره وعينه وبشرته، بل إنه تعلم اللُغَة التي يتكلم بها والديه وربما أقربائه ومن يعيشون في محيطة لأنه نما وتربى بينهم وتم تلقينه هذه اللُغَة أو تلك التي كانوا يتكلمونها، فهو بإختصار يتعلم ويتكلم لغة المحيط الذي ينمو فيه. وقد أكد الواقع كيف أن الأطفال العراقيين من أب وأم عراقيين تعلموا لغة البلدان التي ولدوا فيها وترعرعوا بين شعوبها، فكانت نشأتهم بين أطفال شعوب الدول التي حلّوا فيها، وتربيتهم من قبل القائمين على دور رعاية الأطفال كالحضانه ورياض الأطفال، كذلك تواجدهم في مدارس تلك الدول وبين أطفالها جعلهم يتكلمون لغة هذه البلدان ويتقنوها أكثر من لغة الأبوين العربية أو الكردية أو غيرها من اللغات المتداولة في العراق. ومن جانب آخر فإن التجارب التي أجراها آخرين على أطفال رضَّع، تم تركهم منذ الولادة يترعرعوا في مجتمع حيواني فكانت النتيجة إن هؤلاء الصغار أصبحوا عاجزين عن الكلام رغم أن أعضاء جهاز النطق لديهم كانت متواجدة وناضجة بشكلها الكامل والطبيعي.

كذلك لم يصمد أمام النقد لا بل أمام الحقائق العلمية الإعتقاد الذي تبناه علماء آخرون ، ممن ظنّوا بأن اللُغَة ظاهرة نفسية، فهي بالنسبة لهم إنعكاس لشيء إسمه الروح، الروح البشرية، أو ربما روح الله التي يَظِنّون أنَّه نفثها بين البشر، فلو كانت اللُغَة كذلك لنمت وتطورت بشكل مختلف من فرد إلى آخر، كما عليه مسألة التطور الحَيّ لهذا أو ذلك من الأفراد بغض النظر عن المحيط الذي يتواجدون فيه، وهذا عكس ما يقدمه لنا الواقع، فالأطفال يتعلمون ويتكلمون لغات الشعوب التي يترعرعون في أحضانها.

لكن اللُغَة وإنطلاقاً من كونها نتاج لظهور وتطور الإنسان والمجتمع وبالتالي لظهور وتطور وعي الفرد بل الوعي الإجتماعي، كونها ظهرت وتطورت نتيجة الحاجيات الملحة لحياة المجتمع البشري وبخاصة الحاجيات التي تتولد نتيجة العملية الإنتاجية المستمرة في المجتمع، والتي لا تنقطع بل تستمر وتتعمق بتطور المجتمع وقواه المنتجة، فهي التطبيق العملي الملموس للوعي وإفرازات هذا الوعي، وهي تنمو وتتطور كلما يتطور المجتمع وتنموا قابليات وإمكانيات أبنائه في مختلف المجالات وعلى مختلف الأصعدة، وهي كونها أهم وسيلة للإتصال بين البشر كما تم التطرق إلى ذلك، ما هي إلا ظاهرة إجتماعية، بمثابة الوعاء الذي يستوعب أفكار الناس والشعوب والأمم وثقافاتها، وما اللُغات البشرية إلا تعبير حي عن مجمل الثقافات البشرية وإن لُغات الشعوب المختلفة تعبر وبصدق عن التنوع الكبير للتجارب التي خاضتها شعوب البشرية المختلفة على مرّ العصور.

عرّف كل من كارل ماركس وفريدريش انجلس في مؤلفهما الشهير الإيديولوجيا الألمانية، الذي تم تأليفه في الأعوام 1845ـ1846 اللُغَة كما يلي: *اللُغَة قديمة بقدم الوعي، اللُغَة هي الوعي الفعلي، العملي، الموجود لأجل الناس الآخرين أيضاً، والذي لا يوجد بالتالي إلا بالنسبة لي كذلك، وهي أيضاً للناس الآخرين الشيء العملي، كما هي لي أيضاً الوجود الأولي الفعلي للوعي، واللُغَة مثل الوعي، لا تنبثق إلا من الحاجة، من الضرورة الملحة القاضية بالتعاشر مع الناس الآخرين.*(3)

فاللُغَة والوعي منذ ظهورهما التأريخي عند الإنسان وبني جنسه وعلى إمتداد التأريخ يشكلان وحدة لا تنفصم عراها كما أن وظائفهما متداخلة ومكملة لبعضها الآخر.

وفي نفس الإتجاه يسير عالم الإجتماع واللُغَة السويسري فرديناند دي سوسير، الذي اهتم بدراسة اللُغَة منذ نهاية القرن التاسع عشر، كونها نظام إجتماعي ، وهو أوّل من أتى على التفريق بين اللُغَة كونها منظومة من الإشارات، أو مجموعة أصوات وإشارات ورموز، بل نسق من العلامات التي تخدم عملية التواصل، وبين الإستفادة من اللُغَة كمنظومة للتكلم والتفاهم بين البشر، وهو بهذا يفصل بين المنظومة اللغوية وبين إمكانيات الإستفادة من اللُغَة كمنظومة للتكلم.(4)

وعن العلاقة بين التفكير واللُغَة فإنه يرى بأنها علاقة وثيقة ولا وجود لأي منهم بدون الآخر، ويشبهها بوجهين لعملة ورقية واحدة، لا يمكن إحداث قطع في الوجه الباطن دون إحداث قطع في الوجه الظاهر لها. ولا يجوز عزل الفكر عن الصوت أو عزل الصوت عن الفكر.(5)

أما العالم اللغوي الهنغاري فولفجانج كيمبلن Wolfgang von Kempelen (* 23. Januar 1734 in Pressburg; † 26. März 1804 in der Alservorstadt, heute Wien)
فإنه يُعَرِّف اللُغَة كما يلي: *اللُغَة بالفهم الواسع هي ثروة الإنسان للتعبير للآخرين عن أحاسيسه أو أفكاره من خلال الإشارات. *كما جاء ذلك في كتابه الصادر عام 1971 تحت عنوان:*ميكانيكية لغة البشر إلى جانب وصف ماكنة متكلمة.*(6)

فاللُغَة لا تقوم فقط بوظيفة تبادل أفكار ومشاعر ومشاهدات ومعايشات الناس بين بعضهم البعض، بل تقوم بتسهيل إمكانية تدوين وحفظ هذا الخزين الرائع من المعلومات التي إستحصلهتا البشرية على مر السنين وتناقلتها عبر الأجيال.

يشير العالم اللغوي ادوارد سابيير (Edward Sapir 26.01.1984 In Germany – 04.02.1939 in USA) في كتابه المعنون *اللُغَة* الصادر عام 1921(7)
إلى أنَّ *اللُغَة وسيلة إنسانية خالصة، وغير غريزية إطلاقا، لتوصيل الأفكار والمشاعر والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية.* أي أنها ظهرت وتطورت مع ظهور وتطور الفرد والمجتمع وحاجاتهم الماديَّة.

وفيما يخص العلاقة بين الدال (الكلمة المنطوقة) والمدلول (المعنى المطلوب التوصل اليه)، فيرى عالم اللُغَة السويسري فرديناند دو سوسير في كتابه المشار اليه بأن الدلالة اللسانية لا تجمع بين الشيء واللفظ، بل إنها تجمع بين صورة سمعية وتصور ذهني لها، أي ان العلاقة بين الدال والمدلول ما هي إلا علاقة بين تصورنا للشيء المعني وبين فكرة هذا الشيء وليست علاقة بين تصورنا وبين الشيء نفسه، فالكلمات المنطوقة لا تعبر وبشكل مباشر عن الأشياء المادية الملموسة، بل إنها تعبر عن تصوراتنا لهذه الأشياء، أي لأفكارنا بخصوص هذه الأشياء وليس عن الأشياء ذاتها، وهذا يعني بأن العلاقة القائمة بين الدال والمدلول إنما هي عبارة عن علاقة إعتباطيَّة، ولا توجد أية علاقة طبيعيَّة، ويستدل بذلك من خلال عدم التمكن من التوصل الى مدلول محدد من خلال إستخدام سلسلة صوتية معينة، فلو إستخدمنا مثلاً مجموعة الأصوات التالية ط . ف . ل.، فهذا لا يعني بالضرورة إننا نستخلص من وراء ذلك معنى "طفل"، فمعنى طفل يمكن أن نستخلصه من سلاسل مجموعات أصوات أخرى مختلفة إرتباطا بإختلاف اللغات والألسن المستخدمة. وهذا يعني في النهاية بأن العلاقة بين الدال والمدلول إنما هي علاقة مواضعة وإتفاق لا غير. ومن جانب آخر فإن الكثير من الكلمات المكتوبة تتغير مضامينها (مفاهيمها) بتغير الزمان والماكن والعلاقات الإجتماعية السائدة بينما تبقى ألفاظها (نطقها) ثابته، هذه من مسلمات الأمور المرتبطة بدراسة لُغَة النص وإستنباط دلالاتها، فهي متحركة ولا تقبل القوالب الجامدة.

"واللُغَة كالكائن الحيّ، تنمو وتترعرع وتشب وتشيخ وقد تموت إذا لم تتوفر لها عوامل الديمومة والاستمراريَّة، مرهونة في ذلك بتنوع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية. فعندما يتطور المجتمع حضاريًا وإنتاجيا تتطور معه اللُغَة وبالعكس تتعرض اللُغَة إلى التدهور والإنحطاط عندما يتعرض المجتمع لذلكَ، فهي في الطور البدوي تختلف عنها في المدنية والحضارة، وهي في أهل الصحراء خلافها في الجبال والسهول."(8)

لم يقم علماء اللُغَة العرب القدامى وكذا المجددين الذين إعتمدوا على النصوص الدينيَّة بدراسات معمقة ومستفيضة للُغَة وعلاقتها الوثيقة بالوعي كونها ظاهرة إجتماعية، تظهر وتنمو وتتطور، لا بل تنحسر وتضمحل وتندثر إرتباطاً بحاجة البشر اليها، وذلك بسبب إغفالهم لدور العقل وركونهم إلى طاعة النص والخضوع لشموليته، حيث منحوا هذا الأخير الأولويَّة ووضعوه فوق القوانين التي تتحكم باللُغَة كونها ظاهرة إجتماعيَّة. إلا أنهم قاموا بدراسة علوم اللُغَة بشكلها المعياري الذي كان ولا يزال يهتم بوضع الصيغ الإعرابية الصحيحة وتمييزها عن تلك الخاطئة خوفاُ من اللحن والدخيل وأسباب ذلك كله، أي التعامل مع اللُغَة وكأنها بنية عضوية ثابته وما التطور الذي يجري عليها إلا تطوراً تلقائياً يجري بشكل ذاتي، بالإضافة إلى إهتمامهم بموضوع فقه اللُغَة لأسباب تتعلق بالدرجة الأولى بدراسة نصوص القرآن وتحليل مضامينها خوفاً من أن يصيبها الفساد، لكنهم كانوا يتعاملون من الجانب الآخر على كون اللُغَة هبة من رب العالمين، أي كونها ظاهرة بيولوجية لا غير، وإنَّ تناولها بطرق أخرى خلافاً لذلك إنما هو إساءة لما جاء في كتاب الله، فهي نعمة منَّ الله -عزّ وجل- بها على الإنسان كما مَنَّ بها على بقية الحيوانات التي تمتلك نظامًا من الرموز والإشارات للتفاهم فيما بينها، وتَمَّتْ الإشارة إلى اللُغَة في أكثر من موقع في القرآن كما ورد في الآيات التالية:(9)
*وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.* سورة إبراهيم/ آية 4
*ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف السنتكم والوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين.* سورة الروم/ آية 22
*وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضها على الملائكة فقال إنبئوني بأسماءِ هؤلاء إن كنتم صادقين.* سورة البقرة/ آية31
 

المصادر:
(1)  محاظرات في علم اللسان/ فرديناند دي سوسير/ ترجمة أحمد قنيني/ دار نشر أفريقيا الشرق 1987
(2)  لينين/ المؤلفات الكاملة/ المجلد 20/ الصفحة398/ حق الأمم في تقرير مصيرها
(3)  كارل ماركس وفريدريش انجلس/ الإيديولوجيا الألمانية/ منتخبات في ثلاث مجلدات/ المجلد 1 الجزء 1 ص 30
(4)  ميكانيكية لغة البشر إلى جانب وصف ماكنة متكلمة/ 1971
Wolfgang von Kempelen: „Mechanismus der menschlichen Sprache nebst Beschreibung einer sprechenden Maschine“ 1791
(1921), New York: Harcourt Brace. [Deutsche Übersetzung und Bearbeitung: Homberger, C. P. (1961)
(5)  المصدر الأول ص 142
(6)  1972 Die Sprache, München: Hueber/ اللُغَة
(7)  محاظرات في علم اللسان/ فرديناند دي سوسير/ ترجمة أحمد قنيني/ دار نشر أفريقيا الشرق 1987
(8)  اللُغَة العربية .. التحديات والمواجهة
 http://www.quranway.net/index.aspx?function=Item&id=918&lang
(9)  القرآن
 

ما هي اللُغَة؟ (1)
 

free web counter