| الناس | الثقافية | ذكريات | صحف ومواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. محمد شطب

 

 

 

 

                                                                                                 الأثنين 28/2/ 2011

          

ما هي اللُغَة؟
(1)

د. محمد شطب

(اللُغَة)، هذا المصطلح الذي يجري تداوله يومياً على ألسِنَة الملايين من البشر له العديد من المعاني، حتى صار التفريق بينها ضرورة لغرض تبيان الفروقات في مضامينها.

فمصطلح (لُغَة)، كمفردة غير قابلة للجمع، يُقْصَد بها القابلية على النطق، أي قابلية الإنسان بشكل عام على إمتلاك ناصية اللُغَة، بمعنى إمكانيته على النطق والتفاهم مع الآخرين من بني جنسه، وذلك لإمتلاكه الأعضاء الصوتية اللازمة، أي لجهاز نطق متكامل إنفرد به دون غيره من الكائنات الحيَّة، وبالإعتماد على ما إستطاع الإنسان إمتلاكه من ثروة لُغَوية ضمن منظومة لُغَة بشرية معينة وُلِدَ وَتَرَعرع بين الناطقين بها، فإنه يقتنى بذات الوقت القابلية على إطلاق الصوت المفهوم، وبما أَنَّ الصوت وحده لا يعني اللُغَة، حيث إنَّه لا يُحْدِث اللُغَة لوحده، فالصوت ما هو إلا أداة للفكر ولا يوجد من أجل ذاته. ورغم ذلك ففي حالة تعرض شخص ما إلى مرض ما أو صدمة معينة فإنه يرتبك ويتلعثم ويعجز أحيانا عن النطق، فيقال عنه إنه فقد اللُغَة، أي أنه فقد الإمكانية على النطق بسبب هذا المرض أو هذه الصدمة.

وبين مصطلح (لُغَة)، الذي يقصد به منظومة محددة تتكون من مجموعة أصوات، يمكن ضم بعضها إلى البعض الآخر لتتكون المفردات والعبارات والجمل، وضمن هذا المضمون يجري الحديث عن تمتع مفردات اللُغَة البشرية بقابليتها على التقسيم والتفكيك الى وحدات أصغر، إما أن تكون حاملة لدلالات صوتيَّة وهي الفونيمات أو تكون حاملة لدلالات معنوية وهي المونيمات، كما إنها تتمتع بقابلية إعادة تركيب وبناء كلماتها من جديد، وهذه الخصائص تتمتع بها فقط لغات البشر، فالإنسان كونه كائن عاقل يمتلك القابلية على تعلم لُغَة المجتمع أو الجماعة التي يولد ويترعرع فيها، كما يمكنه إنتاج وإعادة إنتاج هذه اللُغَة أو تلك وبشكل مبدع.

يجري التعبير عن *اللُغَة* من خلال الأصوات التي ينطق بها البشر إما بشكلها الإعتباطي كما هو الحال عند الأطفال الرُضَّع في الأشهر الأولى من الحياة، أو بشكلها النظامي حيث يتفنن الكبار بإختيارها للتعبير عن الكلمات التي يُراد لفضها والمعاني المراد التعبير عنها، فلُغَة البشر هذه إبداعية في مضامينها وغنية في دلالاتها، فيطلق الإنسان الموجات الصوتية اللازمة ك (دَوال) لتعكس (مَدلولات) ما، أو من خلال الإشارات التي يرسلها عبر يديه وبعض أجزاء جسده وملامح وجهه، والتي تخضع لنظام معين ومجموعة قواعد محددة مستمدة من هذه أو تلك من اللُغات البشرية، كما هو الحال في اللُغَة المستخدمه عند الصُمْ أو من يتعامل معهم، أو من خلال نصوص مكتوبة بإختلاف أشكال الكتابة المتعارف عليها، البسيطة منها والمتطورة، بدءً بالكتابة الصوريَّة/ البيكتوغرامات ومروراً بالكتابة بواسطة الإيديوغرامات واللوغوغرامات، كما كانت عليه الإشارات المستخدمة في اللُغَة السومرية التي عكسها خطها المسماري، ولُغَة مصر القديمة، لُغَة الفراعنة وخطها الهيروغليفي ولُغات أخرى على إمتداد دول العالم كلُغات المايا في أمريكا اللاتينية وغيرها، حيث تم إستخدام النقوش التي أُطلق عليها لاحقاً الإيديوغرامات واللوغوغرامات، وإنتهاءً بالكتابة بواسطة الحروف الأبجدية، أي انواع الكتابة بالحروف منذ الأبجدية الأوغريتية، أولى أنواع الكتابة بالحروف الأبجدية، وإنتهاءً بالأبجديات المتداولة في عصرنا الحالي، مثل الأبجدية العربية واللاتينية والسلافية وغيرها من الأبجديات المستخدمة في لُغات العالم المتعددة، ومن خلال النوع الأخير يمكن محاورة الآخرين دون اللقاء بهم أو مشاهدتهم. ومن خلال ألأشكال المتعددة لِلُغَةِ، المنطوقة بأشكالها المختلفة المباشرة والمرسلة، أوالمكتوبة بمختلف أنواع الكتابة، والتي تتضمن جميعها المفردات التي من خلالها يتم التعبير عن المعاني وبواسطتها يجري التحاور والمناقشة والتفاهم بين البشر.

ويضيف علماء اللُغَة باباً ثالثاً لتعريف *اللُغَة*، وهو النشاط اللغوي للإنسان ذاته، أي إمكانيتة على صياغة وإستخدام النصوص اللُغَوية وتبادلها مع بني جنسه، هذه الإمكانية التي إغتناها الإنسان بالإعتماد على مجموعة من العمليات المعرفيَّة المرتبطة بمجمل التطورات الضرورية تأريخياً، حتى تمكن من توظيفها، أي توظيف اللغة، وإستخدامها كوسيلة للتعبير وتبادل الأفكار والتصورات وتبادل المعلومات وكذا في التدوين ونقل التراث وتسجيل ما أنجزته التجارب الميدانيَّة المختلفة والعلوم من تطورات. كما يشير إلى ذلك العالم اللغوي فرديناند دي سوسير في كتابه المشار اليه أدناه.(1)

وإلى جانب ذلك يجري الحديث عن لغة الجسد ولغة الموسيقى ولغة الطبيعة ولغة اللوحة وما يماثلها، أي ما لهذه أو تلك من الأشياء والموجودات المحسوسة والملموسة من امكانيت للتعبير عن شيء ما. واللُغَة تعتبر أكبر وأفضل وسيلة للتحاور بين البشر على الأطلاق، وعلى مضمون هذا التعريف أو التحديد لماهية اللُغَة يتفق غالبية علماء اللُغَة المعاصرين.(2)

لِلُّغَةِ البشرية علمها الخاص بها، الذي يسمى علم اللُغَة، وتقع تحت تصرف هذا العلم ثروة كبيرة من المفردات التي تُعَبِّر عن مضامين محددة، ولها مجموعة من القواعد التي تتحكم في كيفية صياغة المفردات والتراكيب التي تنتج عنها، كما إنها تتحكم في علاقات هذه المفردات والتراكيب مع بعضها البعض، ويدرس هذا العلم النحو والصرف والبلاغة والإملاء والإنشاء وغيرها من العلوم المتعلقة باللُغَة البشريَّة، كما يدرس علاقات هذه العلوم مع بعضها الآخر ضمن حدود هذه اللُغَة أو تلك بالإضافة إلى دراسات مقارنة بين العلوم المختلفة لمختلف اللغات أو العوائل اللغويَّة التي تنتمي إليها. ولا توجد منظومة قواعدية للُغَة الحيوان أو لُغَة الجسد، وتعتبر المفردة أصغر وحدة لغوية في منظومة اللغات البشرية، ويمكن تفكيك المفردات اللغويَّة إلى وحدات صوتية وأخرى دلالية قابلة للتأليف وإلى إعادة التأليف عن طريق صياغة تراكيب جديدة إلى ما لانهاية، يضاف إلى ذلك الإيماءات والإشارات وحروف النداء، ومن خلال هذه الوحدات اللغويَّة يصار إلى عملية التفاهم بين البشر.

ومصطلح *اللُغَة* هذا، يُقصد به نظام للإتصال يخدم عملية التفاهم بين البشر، وبهذا المعنى يجري الحديث عن اللغات البشرية فقط مثل اللُغَة العربية والألمانية والإنكليزية والفرنسية وغيرها من اللغات الحيَّةِ منها والميته، بالإضافة إلى ذلك يمكن ضم لُغات الإختصاص مثل لغة القانون ولغة السياسة ولغة الفلسفة وما شابه ذلك من أنظمة التفاهم. ولهذه اللغات علومها الخاصة بها، والتي تقوم بمهام دراسة الخصائص العامة للغات البشرية وأنواعها وصلاتها ونشوئها وإرتقائها وإضمحلالها، أي كل ما يتعلق بتأريخ ظهور وإرتقاء وإضمحلال وإندثار هذه الظاهرة الإجتماعية.

وإرتباطاً بذلك يجري التمييز بين لُغَة ... ولغة أخرى ... كأن يكون ذلك على أساس لغة وَطَنِيَّة وأَجْنَبِيَّة، أُحادِيَّة المَقْطَع، أساسِيَّة، اِشتِقاقِيَّة، الأَدَب، الإِشارات، التعليم، التفكير، التكنيك، الجُمل الإسمِيَّة، الجُمل الفِعْلِيَّة، الدِّين ، الطَبيعَة، القانون، القبيلة، الكلام، المزّاحة، النحو، اندِماجِيَّة، بائِدَة، تَرْكيبيَّة، تَصريفِيَّة، ثانويَّة، تَصْنيفيَّة، ثانِية، ثقافِيَّة، حّديثة، حَيَّة، خارِجِيَّة، خاصة، داخِلِيَّة، دَولِيَّة، رَسمِيَّة، رَفيعَة، سوقِيَّة، طَبَقِيَّة، طَبِيعِيَّة، عادِيَّة، عالميَّة، غالِبَة، فُصحى، قياسيَّة، لاصقَة، مِثاليَّة، مَحكِيَّة، محَلِيَّة، مختلطَة، مَدروسة، مزدوَجَة، مزيج، هجين، مساعِدَة، مشتركَة، مصاحبة، مصدر، مقارَنَة، مَكْتوبَة، مكسَّرة، منتصِرة، مَنْطوقَة، مَنقوشَة، مَيْتَة، ممَيَّزة، مُيَسَّرة، هَجين، هَدف، وسطى، وَضْعِيَّة و... الخ.

وتتوزع اللُغات البشرية الحَيَّة منها والميِّته بين العديد من العوائل اللُغَوية، ولم ينتهِ علماء اللغات من وضع تصنيف نهائي لهذه اللغات وعوائلها، وكثيراً ما يصعب التفريق بين اللغات واللهجات وذلك إرتباطاً بطبيعة ظهور وتطور اللغات نفسها، وبما يترتب على ذلك من تداخل يتزامن مع عمليات الظهور والتطور المختلفة هذه.

يتراوح عدد اللغات البشرية المعاصرة وبتقدير معظم علماء اللغات بين ال 3000 و 6500 لغة، وإن أكثر من 50% من هذه اللغات مهددة بالإنقراض خلال القرن الحالي، وذلك لأسباب عديدة في مقدمتها قلة عدد الناطقين أو كبر سنهم وعدم توفر إمكانيات التواصل في إستخدام البعض منها أو عدم إستمراريتها وذلك لعدم إمكانية نقلها عبر المدارس أوغيرها إلى الأجيال القادمة لكون معضم هذه اللغات غير مكتوبة، وإنَّ حصة اللغات غير المكتوبة، أي تلك التي لا تملك أبجدية لتدوينها، هي الأكبر بين اللغات المهددة بالإنقراض.

تتميز العديد من اللغات المعرضة للإنقراض بميِّزات خاصة، قد لا تتوفر في غيرها من اللغات، لذلك ينصب إهتمام المسؤولين في الجمعية الدوليَّة للغات المعرضة للإنقراض إلى تدوين هذه الخصائص للإستفادة منها ولمحاولة إدخالها على لغات أخرى قريبة منها أو تنتمي إلى نفس العائلة اللغوية.

هناك مجموعة كبيرة من اللُغات التي ظهرت، نمت وتطورت حتى النضج، ثم هلكت وإندثرت على مر العصور، مثل اللغات السومرية والأكدية والآرامية واللغات اللاتينية والرومانية والعبرية القديمة، وهناك أخرى حيّة، ينمو ويتطور البعض منها، ويتسلق البعض الآخر مراحل النضج والتكامل بينما يتآكل البعض أو في طريقه إلى الإندثار.

يجب التفريق بين لغة الإنسان ولغة الحيوان، ففي الوقت الذي تنحصر فيه قابلية الحيوان على النطق بوتيرة واحدة مثل عواء الكلاب أو مواء القطط أو رغاء البعير، وربما يتمكن بعضها الآخر من نطق كلمات محددة مثل الببغاء والدلفين، تعلمها من البشر المشرفين على تدجينها، فإن لبعضها الآخر قابليات أضعف على النطق كالنمل والنحل، إلا أنَّ لغة الحيوان، أياً كان، لا تتعدى كونها مجرد بعث أصوات غريزية ترتبط غالبا بوضع معين يتعرض له الحيوان، وهي بهذا تبقى بسيطة بمفرداتها وفقيرة بدلالاتها ولا تمتلك القدرة على التطور ولا يوجد فيها أي شكل من أشكال الإبداع.

إلا أنَّ قابلية البشر على النطق وتلقي كلام الآخرين وإعادة إستخدامه وقابليته على إختيار الكلمات الملائمة وبنائها وإعادة تركيبها وربطها بما لا نهاية له من الدلالات والمعاني، ومن ثم بناء العبارات والجمل تبقى غير محدودة، كما هي قابلية اللُغَة نفسها على تقديم أنواع وتراكيب مختلفة وغير محدودة من الجمل والعبارات بالإعتماد على عدد محدود من المفردات والوحدات اللغوية التي تمتلكها هذه اللُغَة أو تلك، وهذا يرتبط بلغات البشر التي تتمتع بأنظمة معرفية مفتوحة على العكس من لغات الحيوانات، التي تكون أنظمتها المعرفية مغلقة.

إنتشرت منذ منتصف القرن الماضي منظومات جديدة من اللغات للتعامل تم وضعها بشكل صناعي من قبل البشر، أطلق عليها لغات الحاسوب أو الكومبيوتر، وهذه اللغات ظهرت وتطورت إرتباطاً بتطور العلوم المختلفة، ولم يكن هذا الظهور وهذا التطور إعتباطياً كما كانت عليه لغة البشر، بل كان بشكل واعٍ ومدروس ومخطط له للإيفاء بأغراض محددة يمليها تطور هذا الفرع أو ذاك من فروع العلم، وتم إشباع هذه اللُغات بالكثير من الإشارات والرموز والمعادلات والجداول التي تمليها تطورات الفرع العلمي المعني، ولهذه اللغات أصولها وثروتها ومفرداتها التي تختلف عن مفردات لغة البشر من حيث الإعداد والبناء والإستخدام، ويستطيع الإنسان من خلال إتقانه لهذه اللُغات برمجت الحاسوب كما يمكنه التعامل معه وتوظيفه لإنجاز المهام المطلوبة في مجالات مختلفة.

وتبقى اللُغات البشريَّة كأنظمة من الأصوات والرموز والإشارات والحروف يتم بالإعتماد عليها إنتاج تراكيب لغوية معينة للدلالة على مضامين معينة توظَّف لغرض الأتصالات أهم وسيلة لتبادل المعلومات بين البشر.

(يتبع الجزء الثاني)
 

 

free web counter