| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. محمد شطب

 

 

 

 

الخميس 10/6/ 2009

 

نتائج الأنتخابات في ميزان المزايدات

د. محمد شطب

بعد قرابة نصف قرن
من سيطرة الحكومات المتخلفة، الجاهلة، الشوفينيَّة، المتطرفة، المتزمتة،
من سيطرة الأفكار اليمينيَّة، وإنتشار الشعوذة والخرافات، وشيوع الأفكار الظلامية،
من سيطرة أنظمة الفكر الواحد، والحزب الواحد والقائد الواحد، والرمز الواحد،
من سلب الحريات العامة، وإنتهاك الحرمات، والتلاعب بإرادة المواطنين،
من فرض ثقافة الموت، والرعب، والخوف، والتهديد، والتشريد، والمطاردات والملاحقات،
من إعتماد سياسات كم الأفواه، وغمض العيون، والتجويع والترويع والترهيب والتغييب،
من التضييق على فرص التعليم، وإحتقار العلم، وإذلال المعلمين والمربيين،
من الهجرة الإلزامية، المفتعلة والمبرمجة والمنظمة للعقول العلمية والتربوية والوطنية،
من تغييب المنطق والعقل والحجَّة والعبرة والخبرة والتجربة،
على سياسات سلب الإرادة، وهدر الكرامة، وطمس الإستقلاليَّة،
على سياسات الإقصاء والتهميش والإزدراء والإحتقار والتحجيم والتقزيم.

بعد كل هذا، وبعد سنوات الحروب العبثية مع الأخوة والجيران، وما تبع ذلك من غزو مُدَمِّر شمل البلاد والعباد وما رافقه من إقتتال طائفي، وما ترتب على ذلك كله من دمار عشوائي وهدر للطاقات المادية والبشرية، وما لحقها من سنوات عجاف لم يجن وطننا منها سوى الخراب والدمار وإنهيار المؤسسات العامة والعزلة الدولية، ولم يستنشق فيها المواطن سوى رائحة الموت، ولم يسمع سوى زمجرة الرصاص ودوي الإنفجارات، ولم ير سوى جيوش من الأيتام والأرامل والثكالى والعاطلين عن العمل، تأكلهم اللوعة وتلهب ثناياهم الحسرات وهم يلهثون من أجل تأمين أبسط مستلزمات الحياة، يشعر الواحد منهم بالإنكسار والإندحار والخنوع والمذلة، فقد غدر به من منحهم ثقته، ونكثوا بعهودهم وتعهداتهم، وإنساقوا وراء مصالحهم ورغباتهم الخاصة. سنوات كالحة وقع فيها المواطن تحت سطوة من إستحوذوا على زمام الأمور بقدرة قادر، أو بغفلة من الزمن وأذاقوه مُرَّ العذاب.

لقد منح الناخب صوته لرموز لم تصنعها قناعاته، ولم تتوفر له فرصة إختبار مصداقيَّة ولائاتهم، هل هي له، أم لِمَنْ سَخَّرَ لهم كل أسباب النجاح ومكَّنهم من الوصول إلى ما هم عليه، ولم يتمكن من الإطلاع على برامجهم، والتأكد من كونها تضمن له العيش الكريم في بلد آمن ومعافى من حراب المحتلين وخراب المفسدين، فهؤلاء لا يملكون أصلاً مثل هذه البرامج.

لقد تمكنت القوى التي وجدت نفسها، بدون علم أو دراية في مقدمة الصفوف، بعد إن تقدمت لها المساعدات اللامحدودة عبر الحدود ومن جهات لا يعنيها لا العراق ولا العراقيين، من إستغلال كل هذه المعطيات حتى فرضت رأيها وإرادتها وموقفها، وتمكنت من السيطرة بهذا الشكل أو ذاك على إرادة الناخب وسرقة صوته، رأيه، أحلامه، تطلعاته، آماله، توقه إلى الخلاص والإنعتاق والحريَّة، وإلى مسقبل أفضل له ولأطفاله ولأبناء عائلته، وتمكنت من إنتزاع ثقته رغم أنفه، وتجييرها لخدمة مآربها الشخصية والقبلية والطائفية والحزبية تارة، ولمصلحة من بارك لها ودفع بها إلى هذه المواقع تارة أخرى.

لن يقوى هذا الناخب تحت هذه السلسلة من الإمتهانات المتتالية والمختلفة الأشكال والوجوه والمصادر، التي ألقت بظلالها عليه وعلى عائلته، وتحت هذه القساوات التي لا تطاق، أن يتدارك وضعه ويحزم أمره، ويراجع نفسه، ويوازن قناعاته كي يتمكن من إختيار من يمثله ويعبر عن طموحاته ويحقق له أحلامه وآماله في الدورة الإنتخابية التي سينبثق عنها مجلس "ن و ا ب ن ا" للسنوات القادمة.

لذلك كله لا يمكن ولا يجوز، وفق حسابات العقل والمنطق والحق والعدل، التبجح بهذه النتائج والتزمير والتطبيل والتهليل لها من قبل "الكتل الفائزة"، حيث لا توجد في واقع الحال كتلة فائزة فعلاً، فالكتلة الفائزة هي الكتلة التي تحصل على أكثر من 50% من الأصوات التي يدلي بها الناخبين بشكل واع، ولم يحصل هذا، كما لا يجوز إعتماد الأرقام الحسابية المتمثلة بأعداد الأصوات التي حصلت عليها هذه الكتل مصادر للإعلان عن كونها تعبر بشكل حقيقي عن رغبات الناخبين الفعلية وإنحيازاتهم لهم، فالأصوات التي أفرزتها هذه الإنتخابات غير الناضجة وغير العادلة وغير الموضوعيَّة في الظروف التي تمر بها البلاد حاليا، لا يجوز الركون إليها والإستسلام لمعطياتها، فما هي إلا نتيجة غير طبيعية لظرف غير طبيعي، ولو تأملنا الظروف الأمنية والإقتصادية والإجتماعية العامة، التي سبقت ولازمت هذه الإنتخابات، والإجراءات والتحضيرات التي رافقتها، بدأً بالقانون الإنتخابي المجحف والمتضمن الكثير من التناقضات، والذي وضع وفق مشيئة قوى الإحتلال وبالتناغم مع مصالح القوى المهيمنة، بالإضافة إلى غياب قانون لتنظيم عمل الأحزاب المشاركة في العملية الإنتخابية، وصولاً إلى إخفاق أجهزة الرقابة، المتعددة الإنتماءات والولاءات، في السيطرة على المنافذ التي سمحت بتدفق المال العام تارة أو وصول المال الإنتخابي عبر الحدود تارة أخرى، هذه الأموال التي سُخِّرَت لشراء ذمم الناخبين بأشكال وألاعيب مختلفة، ساهمت في صنعها ووضعها أمهات الشركات العالمية وعقول أجهزة المخابرات العربية والدولية، لتبين لنا هشاشة الإعتماد على نتائج هذه الإنتخابات والإستسلام لإفرازاتها.

لا يجب التعامل مع الكتل " الفائزة " بشخوصها ورموزها وتجمعاتها الآنيَّة وتسليم أمور البلاد والعباد بأيديهم وبشكل مطلق من جديد، فالكل يعرف مدى الفشل الذي عانته هذه الرموز، ومدى الإنهيار الذي أحاط بنا جراء سياساتهم الرعناء، الجاهلة، غير المتَّزنة، والمبنية على أسس المحاصصة البغيضة، والمصالح الشخصيَّة والطائفية والقوميَّة والحزبية من جهة، وإلى كون ولاءات هذه الكتل ورموزها لن تنطلق من مصلحة الشعب والوطن بل لها إمتداداتها خارج الحدود، وهذا ما إنعكس بوضوح من خلال جملة الصراعات وكثرة التعقيدات، ليس فقط داخل صفوف كل واحدة من هذه الكتل، بل أيضاً لما يجري بين بعضها البعض. ومعلوم أيضاً بأن من مجموع ال 325 عضواً في البرلمان المزمع تشكيله لم يتمكن، رغم توفر كل أشكال الدعم، ورغم المستلزمات التي تمت الإشارة اليها، إلا نفر قليل منهم من إجتياز العتبة الإنتخابية والحصول على ثقة الناخب بشكل مباشر، أما القسم الآخر منهم فقد حصل على موقعه نتيجة للأصوات التي إنتزعتها كياناتهم، والتي كان قسم كبير منها أصوات تمت سرقتها بفعل بنود قانون الإنتخابات المجحف، التي وضعت وبسبق الإصرار للوصول إلى هكذا نتائج. هذه الأصوات التي تم الإلتفاف والإستحواذ عليها عنوة، ومنحت لمن لا يستحقهات، أصوات سُلبت من قوى وُضِعَت عمداً خارج الحلبة، وهي بعيدة عن الكيانات "الفائزة" وعن نهجها وسياساتها وقناعاتها.

يجب إلزام "الفائزين" على تقديم برامج واضحة، وربطهم بتعهدات صارمة للقيام بتنفيذ هذه التعهدات قبل التهاوي على تشكيل حكومة شراكة، أو حكومة محاصصة جديدة، يتولى كل طرف فيها التغطية على أخطاء وزلاّت وعيوب بل وجرائم الطرف الآخر، أي حكومة على شاكلة حاميها حراميها، لا فيها معارض ولا رقيب ولا حسيب، لحمتها أناس همهم وغمهم الوحيد تقاسم مراكز السلطة والثروة والمال والجاه، غير مبالين بوقف النزيف ودمل الجراح.

كما يجب على المواطنين التمسك بضرورة قيام هذه الكتل بتقديم البرامج التي تعني بإنقاذ الوطن من محنه وتمكينه من ضماد جراحه، وإستعادة سيادته وتأمين إستقلاله وإسترجاع عافية مؤسساته السياسية والإدارية والأمنية والإقتصادية والتربوية، وتمكينه من القيام بدوره اللائق على المستوى العالمي، وتخليص المواطن من آلامه وهمومه وويلاته وتوفير الخدمات الضرورية له، وتثبيت ذلك في عقد يُنْشَرْ على جميع المواطنين ليكونوا شهوداً عليه، يشرفوا على تنفيذه ومراقبة ومحاسبة المخلِّين به.

المطلوب من القوى الخيرة إستخدام إرادة سياسية وأخلاقية ومبدئية قوية لمواجهة ما أفرزه هذا الواقع وفضح الواقفين وراء ذلك كله، والوقوف بشكل جاد ومسؤول بوجه مزوريّ الإنتخابات ومختلسي أصوات الناخبين والمتلاعبين بحقوقهم، وفضح ألاعيبهم، وأن لا يقفوا مكتوفي الأيدي، مسلوبي الإرادة، بل يجب تفعيل المنظمات الجماهيرية وتنشيط منظمات المجتمع المدني، وتحريك القوى المتضررة لمواجهة ما يجري في مواقع المسؤلية.

أن لا يتم الخضوع لهذه أوتلك من الضغوطات الداخلية والمحلية والدولية وتحت أي مبرر كان للسماح من جديد بعودة المتعطشين للقتل والموقع والسلطة والمال والجاه والمتنكرين للأخلاق والأعراف والمبادىء والقيم للسيطرة على مقاليد الأمور والعبث بمقدرات المواطن والوطن.

العراق والعراقيون بحاجة إلى أناس لن تتلطخ أياديهم بدماء المواطنين، ولن تتوسع أرصدتهم من سرقات المال العام وغذاء الملايين، ولن تمتلأ قلوبهم بالأحقاد القومية والطائفية والحزبية والشللية والعشائرية والمناطقية، بحاجة إلى قادة متنورين تغذوا بالعلم والمعرفة وتربوا على حب الوطن والإنسان والحياة وعلى العمل من أجلهم، وليس إلى من عميت الأحقاد عيونهم وغَلَّف الظلام عقولهم وأنشغلت أياديهم بجمع المال الحرام، بحاجة إلى من يهمهم مصلحة المواطن والوطن وليس مصالح الممولين والمتربصين والمخططين والمنفذين للأعمال البشعة التي عانى ويعاني منها المواطن، والتي تسببت في هدر طاقات الوطن.

وأخيراً فإن على قوى الخير التي وُضِعَتْ قسراً، وبشكل مُتَعَمَّدْ وبسبق الإسرار خارج اللعبة، "ليبقى البيت لصبيحه"، وليبقى "الفائزون" يسرحون ويمرحون، دون مسائلة، دون رقيب أو حسيب، دون إعتراض، دون منغصات ودون دوخة بال، يتلاعبون بمقدرات الوطن وشؤون المواطنين، يجب على هذه الجموع التي شملتها إجراءات "الحسر والإبعاد والإقصاء الجماعية المبرمجة، هذه الإجراءات اللاوطنيَّة واللاإنسنيَّة واللاقانونيَّة واللاشرعيَّة"، أن لا تركن إلى الإستسلام والقنوط والإنكماش والإنعزال، وأن لا تتخذ موقف المتفرج أو تنصاع لمشيئة الدخلاء، بل يجب عليها فضح ذلك كله، بعد البحث عن قصورها الذاتي، وإخفاقها بجس نبض الشارع وتلمس مصلحة المواطن، وأن تستخلص العبر والدروس مما حصل ويحصل وسيحصل، وتوظف ذلك بشكل مبدع وفعّال في معارك المستقبل، وأن لا تكتفي بصب جام غضبها على الظروف الموضوعيَّة ومسببيها فقط، فالوطن لمن يخدمه والمواطن مع من يرعاه ويتحسس آلامه.
 

 

free web counter