نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مالوم أبو رغيف

 

 

 

 

الأربعاء 9 /8/ 2006

 

 


العجوز والمقاومة

 

مالوم ابو رغيف

يوما ما حاولت ان اقطف وردة برية نبتت صدفة في غابة ما، مدفوعا بالاستحواذ والتملك، غير مكتفيا لا بمنظرها الجميل ولا برائحتها العطرة، اردتها لي او لشخص ما، لم تكن وحيدة صنفها، ولم تكن فريدة في نوعها،كانت ضمن مئات الورود المنثورة في حقل روته السماء واورقه اديم الارض. ما ان مددت يدي حتى اجفلني صوت غاضب، ذكرني باني لست في وطني الذي لا يُحترم فيه شيئ، نظرت صوب مبعث الصوت، كانت امرأة عجوز تتكئ على عصا، عكازة، رطنت بكلمات لم افقه منها شيئا، ليس مهما ان افقه القول لكي اعرف التعبير، فالغضب يفهم من غير لغة، ولا مفردات. كانت عجوز قاربت الثمانين من العمر، ربما لن ترى موسما اخر للورد، ربما لن تأتي الى هنا مرة اخرى، ربما سيقعدها المرض في البيت وستلازم النافذه ان استطاعت الوقوف. فكرت، ترى ما سر هذا الحب للورد، هل هو حقا حب وعشق للورد، ام حرص على جمال الارض، ام حفاظ على الملكية العامة، الوردة البرية ليس لها مالك، وعندما لا يملكها احد فأن الجميع له حق فيها. ليس حق بالاستحواذ، ولا بتقطيعها، ولا بتوزيعها، ولا بالاحتفاظ باي حجة باطلة، بل ان تكون كما هي، جميلة عارية للجميع ـ عطرة زاهية لا تخفي جمالها احدا.

ومع ان الزهور توائم، ان قطفت زهرة ستنبت اخرى، نفسها، شكلا ولونا ورائحة وحتى مكانا واسما. ومع هذا، يغضب الانسان ان حاول اخر قتل حياتها بالقطف. كل ما في هذه الطبيعة توائم، او على الاقل هي بالنسبة لنا توائم متشابهة حد التطابق الكامل، ان اشرف نوع ما على الانقراض، هب الانسان المتحضر للحفاظ عليه وادامة حياته وحراسة نوعه. وانشأ محميات خاصة يمنع فيها كل شئ من شأنه ان يمس النبات والحيوان بأذى ولو كان طفيفا.

نعم كل ما في الطبيعة توائم الا الانسان، فليس من توأم له، حتى وان تشابه شكلا. لكنه يختلف عقلا وفكرا وعملا، وقيمة وتجربة وموهبة، ان مات انسان لن يعوضه او يشغل مكانه انسان اخر، ، سيبقى مكانه شاغرا، فارغا الى الابد، فزيد ليس هو زيد الذي يليه وعمر ليس عمر الذي يتبعه. كنوع، نعم لن يستطيع احد ان ينهيه الا مجنون يملك قنابل بمقدورها انهاء الدنيا والاخرة. لكنه سينهي نفسه ايضا.

هذه العجوز التي اجفلني صوتها، وعاش في دواخلي غضبها، لم تتعلم احترام الورد في مسجد او جامع، وما كانت تصغي لخطب الوعظ والايمان المصطنع، ولم تنضم لقطيع مقاوم، او لجيش يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، يأمر باقتلاع الورد وينهي عن زراعته. رغم صوتها كان غاضبا، محتجا، قل عدائيا، لكنه ابعدني والى الابد من المساس بأي وردة. كانت مقاومة فريدة من نوعها، ولدت احترام في نفس الجاني لها ولارضها ولموقفها و لشعورها ورأيها ولغضبها.

في العراق، مع ان الجميع يأمر بالايمان، يكرر حديث المرأة التي دخلت النار لقطة حبستها، وامرأة دخلت الجنة لقطة سقتها، رغم احاديثهم المكررة عن التسامح الديني، وعن حب لاخيك ما تحب لنفسك، وعن الامة الواحدة، وعن الدين الواحد والنبي الواحد والاله الواحد وصلاة الجمعة، ورمضان الصيام والحج والتعبد..رغم من قتل نفسا فانه قتل الناس جميعا ومن احيا نفسا احيا الناس جميعا..رغم كل خطب الايمان ومواعظه، رغم العمائم والطلاسم والجباه المشوهه من اثر السجود..فأنهم لا يقتلون الزهور فقط ، ولا يغتصبون الارض فقط ، ولا يحتكرون المناصب فقط ، ولا يدمرون ويخربون فقط ، ولا يفجرون البيوت والمساجد والجوامع والمعابد والمراقد فقط .. ولا يكتفون بقتل احدهم للاخر فقط ، انهم يخطفون زهرة الحياة.. يقتلون الحياة، يغتصبون الحياة.. فهل من يقتل الحياة، من ينهي انسانا لا تعويض له يمكن له ان يبني ، ان يعمر، ان يتصالح ، ان يتعلم ، ان يفهم ، ان يكون رحيما مهذبا متحضرا.؟

انظرو الى سكاكينهم حمراء من دماء الابرياء ، انظروا الى ملابسهم مثل ماضيهم مثل حاضرهم مثل وجوههم سوداء متجهمة حقدا وغلا وبغضا على الاخرين ، اسمعوا تصريحاتهم كأنها وخز العقارب. فأي فكر ولد فيهم هذا التوحش، واي ايمان شلهم عن الالتحاق بمواكب الرحمة والانسانية ، واي جنة يبغونها وهم يقيمون جهنم على الارض واي مقاومة تلك التي يدعونها وهم يقتلون الاطفال والنساء والشيوخ والرجال..اي وردة ستتفتح وهم يخنقون زهرة الحياة.