| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مالوم أبو رغيف

 

 

 

 

الأربعاء 18/10/ 2006

 

 

مذبحة الشخصية الشعبية العراقية

 

مالوم ابو رغيف

ما نراه الان من مذابح وخراب ودمار هو نتيجة للتردي والانحطاط الذي شهده العراق طول مدة حكم البعث. هو نتيجة للانهيار الكامل للمؤسسة الاجتماعية الفطرية التي تربط الناس ببعضهم بنوع من الالفة والانتماء الى الوطن، هو غياب الرابط العام الذي يربط المواطنين ببعضهم البعض وان بعدوا جغرافيا واختلفوا قوميا ودينيا، لكن الاختلاف مهما كان لم يكن ليتغلب على الملمح العام، ذو النكهة العراقية التي تميز العراقيين عن غيرهم وان كانوا من نفس القومية او الدين او الطائفة.

لقد عمل البعث طوال مدة حكمه على ذبح الثقافة العراقية العامةـ الثقافة الشعبية، العادات العراقية الاصيلة، الشهامة، الكرامة، روح المساعدة، احترام المرأة، الوقوف مع الضعيف، الاقدام ، انتقاد الظلم، شرف الكلمة، احتقار اللصوص والمزورين والفاسدين، بوزاع شعبي، اخلاقي، لا يرتكز على الدين ولا يحتاج لواعظ ليبين الصح من الخطأ، ولا الى اشارة طريق لتشير الى الاتجاه الصحيح، ولا الى عقاب او ردع، فالمخطئ تعاقبه الناس قبل ان يعاقبه القانون، تعزله عن محيطها وعن بيئتها حتى يستطيع اصلاح نفسه. هذه الثقافة الشعبية العامة التي تحكم مجتمعات العراقيين، اكانت فقيرة او مجتمعات مدقعة او متوسطة، هي التي ربطت الكوردي مع العربي، المسلم مع المسيحي مع الايزيدي مع المندائي، هي التي غيبت السؤال عن الانتماء الطائفي، الذي لم يعرفه العراقيون، ليس لان الحكومة غير طائفية، وليس لعدم وجود ممارسات طائفية، وليس لغياب العنصرية القذرة.. فاغلب الحكومات العراقية كانت مميزة بتحيزها وعصوبيتها وعروبيتها الشوفينية، وانجرارها الى نوعية عشائرها، انما بسبب ان الثقافة الشعبية، الاحساس الوطني، الشعور الانساني، الاتجاه العلماني المتأصل بالنفس العراقية، كان اقوى بكثير من كل ممارسات السلطات الطائفية العنصرية والتفريق الديني والعشائري.

لم يكن البعث ليستطيع الاجهاز على الثقافة الشعبية العامة لولا عاملين، الاول الحروب، والثاني الحملة الايمانية التي قادها جبان القرون الرقيع صدام.

الحرب، لا تقضي على الاجساد فقط، بل على الاخلاق، على المشتركات العامة، وتقوي الاتجاه الفردي، الانانية وحب البقاء على قيد الحياة مهما كان الثمن، الحرب هي المجزرة العامة للثقافة، حتى المنتصر فيها لا يخلوا من جراح تدمي ليس الجسد فقط، انما التركيب الفكري والاجتماعي والاخلاقي والانساني والديني له، مهما كان ادعائه، اكانت حرب في سبيل الله او في سبيل ابليس.

استطاع البعث بحربه الممتدة طوال تولى صدام السطلة، الاجهاز على الهيكل الاساس لاي بناء اجتماعي، الفن والادب والشعر والغناء وكل الفنون الشعبية، ليس بالقضاء عليها او منعها، انما فعل ما هو اخطر من المنع، تشويهها، عسكرتها واعطائها طابعا حربيا، فبدلا من ان تقطر عاطفة وحبا وعشقا وجمالا، جعلها تقطر حقدا وعنصرية وبغضا وثارا ودما ودمارا. وان رفض كبار الناس وشبابهم انذاك هذه المذبحة للابداع العراقي، فان التغيير الدموي ترسخ في اذهان الاطفال، الشباب الان، بصفته تمثيلا الواقع العراقي والثقافة والشخصية العراقية.

وكأن البعث لم يكتفي بما عبثت يداه من فساد في المجتمع العراقي، ففرض حملة ايمانية اسلامية جعلت من الدين والتعبد شرطا اساسيا لاثبات الوطنية ، ليس الدين الشعبي، الذي تعودت الناس عليه ، انما الدين الخاص الذي يمجد الاسماء والقادة الذين لا نعرفهم لولا مذابحهم الكبيرة لالاف مؤلفة من الناس، وبالتالي تمجيد صدام نفسه، لأنه قاتل مثل من سبقه، ووغد مثل من سبقه، ودموي مثل من سبقه. الحملة الايمانية كانت باتفاق كامل مع رجال الدين الوهابيين المتركزين بالسعودية وبقية دول الخليج العربي مما يعني نقل عادات وتقاليد واعراف وافكار اجتماعية ورؤى وممارسات غريبة عن المجتمع العراقي، وقتل الدين الشعبي بصفته ممارسة روحية اختيارية ذو نكهة وطنية اجتماعية وليس طقوس للتعبد والخضوع والاستعباد والاجبار.

بعد السقوط، انتهى البعث كنظام، لكنه لم ينتهي كثقافة، كاخلاق، كممارسات، فهذه تحتاج ليس الى وقت اطول فقط، انما الى جهد ومثابرة وتغيير شامل في البنية الثقافية، الاخلاقية، الاجتماعية السياسية العامة. لكن الذي حصل ان ما تغير هو الشكل فقط في حين ابقوا على الهيكل المشوه الممسوخ نفسه.

صحيح ان افكارا مثل الديمقراطية والحرية والدستور والفدرالية وحقوق الانسان دخلت الى العراق واصبحت محلا للنقاش والمجادلة، لكن التوجه العالم لا زال يدور ضمن محور الحملة الايمانية التي لا زالت مستمرة يقودها الاسلام السياسي في العراق واحزابه من القابضين على السلطةـ او من يدعون معارضتها ويقولون بالمقاومة الشريفة الى حد نزع السروال الداخلي لكل من هب ودب وحمل قضيبه وبندقيته على كتفه.

ان من يُقتل الان ليس العراقيين وحدهم فقط، انما تُذبح الشخصية العراقية ايضا، الشخصية العراقية المتميزة عن غيرها من شخصيات الشعوب الاخرى. كل الاطراف مسؤولة عن هذه الجريمة، جريمة قتل الثقافة العراقية وتحويلها الى مجرد مشترك اسلامي عام لا يتصف بالخصوصية العراقية. فان كان الارهابي ملطخة اياديه وثيابه بالدم العراقي البرئ، فان الاسلام السياسي ملوثة يده ، ضميره وقلبه بالسوء والمنكر وظلامية القصد.