| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد ناجي

muhammednaji@yahoo.com

 

 

 

 

الأحد 20 / 8 / 2006

 



أي طريق للمصالحة !؟

 

محمد ناجي

قضية "المصالحة" التي يجري النقاش حولها اليوم ، ساخنا ، في العراق ، ليست فريدة ، كما يظنها البعض ، فقد سبق لشعوب كثيرة ، منها شعوب عربية ، أن مرت بنفس المنعطف في طريق انتقالها الى الديمقراطية وإعادة البناء وتحقيق الاستقرار ، بعد التخلص من نظام شبيه بنظام صدام البائد ، أو من نهج استبدادي قمعي ، حتى دون تغيير كامل لرموز نظامها السياسي ، كالجزائر والمغرب . وقد فرض عليها هذا الانتقال ، كما يفرض علينا ، إيجاد آلية محددة للتعامل مع تركة النظام القمعي السابق والانتهاكات الفظة والواسعة لحقوق الانسان ، ومع ضحايا هذه الانتهاكات ، والأشخاص الذين قاموا بها ، باختلاف موقعهم في هرم النظام السياسي ودرجة المسؤولية فيه .
لقد تعددت الطرق ، وفقا للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل بلد . ففي المانيا مثلا ، وبعد إسقاط نظام هتلر عام 1945 ، جرت محاكمة 22 من رموز النظام النازي وقادته العسكريين في محكمة نورمبيرغ ، وتم اعدام 12 منهم ، كما تم ابعاد النازيون عن السلطة وجرت ملاحقتهم ومنع الفكر والدعاية النازية حتى اليوم ، لتسير المانيا ، في هذه القضية ، بهدوء نحو الديمقراطية والتطور . ويختلف المحللون فيما إذا كان هذا هو النموذج الذي أرادت الادارة الامريكية تطبيقه في العراق ، ولم ينجح لحد الآن ، لإختلاف الظروف بين العراق والمانيا . وهناك شعوب أخرى ، كجنوب افريقيا ، كان لها طريق آخر ، حاز على نسبة كبيرة من النجاح وتجاوز النقطة الحرجة ، عن طريق "لجان الحقيقة والمصالحة" التي في جوهرها تتلخص ب : ((إعتراف الجناة علنا بالجريمة ، عفو - وربما محاكمة - ، تعويض للضحايا )) .
وحبذا لو أهتمت الصحف ومواقع الانترنت بنشر بعض الكتابات ، والتجارب في قضية المصالحة ، وهي كثيرة ، لما في الاطلاع من فائدة ، وتوسيع للأفق والمعلومات ، التي ستنعكس بدورها إيجابا وتسهم في تطوير النقاشات والكتابات لتكون أكثر عمقا وجدية في تناولها لمبادرة "المصالحة والحوار الوطني" ، فتسلط الضوء ، ليس فقط على هذه المبادرة ، بل على سوء الفهم والتشويش والتحريف مع سبق الاصرار ، الذي يراد له أن يفرغها من محتواها ، وعدم نجاحها في تحقيق اهدافها المعلنة ، بوضوح ، في الوثيقة ذاتها ، وفي تصريحات أكثر من مسؤول وسياسي عراقي .
لقد نبه السيد المالكي ، وهو يقدم المبادرة في مجلس النواب ، الى عدم إساءة فهمها وكأنها تكريم وقبول للقتلة والمجرمين فقال : " لا والف لا فهؤلاء ليس معهم صلح حتى ينالوا جزاء اعمالهم الاجرامية عن طريق القضاء العادل" . وهو ما أشارت اليه أكثر من فقرة تضمنتها المبادرة ، مثل الفقرة 4 : ان تتخذ القوى السياسية المشاركة في الحكومة موقفاً رافضاً ضد الإرهابيين والصداميين . وما أكدته الفقرة 18 التي نصت : تفعيل دور القضاء لمعاقبة المجرمين ، وجعله المرجعية الوحيدة في التعامل مع جرائم ورموز النظام السابق والارهابيين وعصابات القتل والاختطاف . وتبعتها الفقرة 20 : توحيد الرؤى والمواقف تجاه العناصر والمجموعات الارهابية والتكفيرية التي تعادي العراق والعراقيين .
ومن خلال المتابعة لمسار هذه المصالحة نلاحظ أنها تتحرك بمستويين :
الأول – على مستوى الشارع ، وهو مايجري في الندوات والمؤتمرات التي تعقد يوميا في مختلف مدن العراق ، وما يصدر عنها من مواثيق وعهود وتصريحات ومواقف في محاولة لخلق أجواء من الثقة المتبادلة ، وإعادة اللحمة للنسيج العراقي الذي مزقته سياسات النظام البائد ، والسياسة العشوائية اللاحقة والمحاصصة الطائفية والقومية وانفلات العنف والخطاب الطائفي . وهي تمثل مصالحة بين مكونات الشعب وشرائحه المختلفة ، مصالحة مع الذات والتاريخ والوطن . وهو ما نحن في اشد الحاجة اليه .
والثاني – على مستوى مؤسسات القرار وقيادات التنظيمات السياسية ، وهو يدور في اللقاءات الخاصة ، وفي جلسات (الهيئة الوطنية لمشروع المصالحة والحوار الوطني) ووزارة الحوار الوطني . وهنا بالضبط تجري عملية الشد والجذب في تحديد الجماعات التي تشملها المصالحة ، وآلية هذه المصالحة . فيطالب البعض أن تتجاوز السياسيين المعارضين للحكومة وللعملية السياسية ، لتشمل جماعات الإرهاب والعنف المسلح ومنهم البعثيين ، لتتحول الى "مصالحة مع البعث" على قاعدة "عفا الله عما سلف" ، تدعم سياسيا وقانونيا ودستوريا بقانون للعفو العام ، وتغيير بعض مواد الدستور .
والحديث عن "المصالحة مع البعث" ليس جديداً ، ولكن بعد ان كان يجري بحذر وبصوت خافت وعبارات مبهمة منذ أكثر من سنتين ، يردد الآن بصوت أعلى ووتيرة متصاعدة وعلنية في تصريحات عدد من أعضاء مجلس النواب ، خاصة ، من قائمة "الحوار" ، في مقدمتهم السيد صالح المطلك ، الذي يبدو أنه لم يستفد شيئا من زيارته الى جنوب افريقيا ضمن مجموعة ضمته مع عدد من أعضاء مجلس النواب ، للاطلاع على تجربتها في المصالحة . وعلى نفس الوتر تعزف ورقة "الطريق الى المصالحة" التي قدمتها القائمة العراقية ، مؤخرا ، والمنشورة في الصحافة العراقية بتاريخ 15/8 . وكذلك ما نسب الى هيئة علماء المسلمين من شروط طرحتها للمصالحة . والمفارقة أن البعث ، الذي يريد هؤلاء وغيرهم شموله بهذه المصالحة ، والذي لم يترك في الذاكرة العراقية ، طيلة 35 عام من سلطته المطلقة ، وحتى قبلها ، سوى إرتكابه لجرائم دمرت الحرث وأبادة النسل ، لم يغير نهجه ومواقفه وخطابه الديماغوجي السابق ، بل إنه لا يخفي ((مقاومته)) وسعيه للعودة الى سدة الحكم (مهما قيل عن أجنحته وانشقاقاته الداخلية) . وللتذكير ، ولمن لم يطلع على البيانات ، تكفي مراجعة لسلوك وأقوال صدام وبرزان والجزراوي ، ومحاموهم ، وحتى الأشخاص الذين حضروا في المحكمة ، كشهود دفاع عنهم في قضية الدجيل ، ليجد فيها الدليل على هذه الحقيقة . واذا بقي شيء من الشك فليتابع جلسات المحاكمة عن "جريمة الأنفال" .
أن كل تجارب المصالحة ، بإختلاف تسمياتها ، ومن بينها تجربة جنوب افريقيا ، التي تعتبر أنجح تجربة يجري الحديث عنها ، في داخل العراق وخارجه ، تشترك بنسب متفاوته في الآلية التي ذكرت أعلاه ، وهي ( إعتراف علني بالجريمة - عفو - تعويض ) ، فلماذا يتجاهلها البعض حين يطلب بأن تتحول المبادرة الى مصالحة مجانية مع البعث ؟
إن أكبر خلل في دعوة "المصالحة مع البعث" ، على إفتراض حسن نية المطالبين بها ، هو أنها تتجاهل التاريخ والواقع السياسي ، وترقص فوق قبور الضحايا وآلامهم وذويهم وابناءهم . وليس من الحكمة ، ونحن نسعى للتخلص من تركة نظام البعث الإستبدادي ، وبعد أن خرج من الباب أن نعود ، لندخله من شباك المصالحة . فهذا هو العبث بعينه وإستمرار للفوضى ، وليس سوى مصيدة ، مفخخة ، للمغفلين ! ولكن يبقى الطريق الذي تسير فيه مبادرة السيد المالكي "المصالحة والحوار" ، كغيرها من القضايا التي تواجهنا ، رهن بمستوى وعي العراقيين ، المظلومين ، وتوازن القوى ، وقيم العدالة ... والضمير !