| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد ناجي

muhammednaji@yahoo.com

 

 

 

السبت 19/7/ 2008



كلمة في الاستبداد

محمد ناجي

عُرف العراقيون ، على مر التاريخ ، وتميزوا بطاقتهم الخلاقة والمبدعة ، مع جموحهم وولعهم الشديد بالحرية ، فكانوا ، ولا يزالوا ، صعبي المراس والانقياد للسلطات الغاشمة وللحكام الطغاة الذين توالوا على سدة الحكم ، والذين عملوا بدورهم على كسر شوكة العراقيين وتطويعهم وترويضهم وحتى مسخهم بشتى السبل ، حفاظا على مصالحهم الخاصة وضمان تحكمهم بالبلاد والعباد . وقد تعددت الوسائل وتنوعت الأساليب التي استخدموها ، وتراوحت بين الترهيب والترغيب ، وتباين تأثيرها وفقا للظروف السائدة حينها ولشخصية الطاغية . كان من بينها أن اتخذ الطغاة بطانة وأتباع استخدموا المعارف ووظفوا الآداب والفنون وسخّروا الدين ، لتبرير أفعالهم وترويج أقوالهم وأخلاقياتهم ومُثُلهم وكل ما يتعلق بهم ونشروها وأشاعوها بين الناس لتصبح ثقافة عامة يتداولها المجتمع ويتبناها ويتخذها نهجا يسير عليها ، حتى صار (الناس على دين ملوكهم) ، ومن يخرج عن هذا النهج فليس له سوى الموت ، بالسيف أو بالكلمة – الشتيمة والمسخ والتشويه والتسقيط والتخوين والتكفير .
وبمرور الزمن وتوالي الطغاة وتطور الأساليب ترسخت هذه (الثقافة) في المجتمع ، وأصبحت قيوداً وأغلال عصية على الكسر ، وإن تحرر منها فبصورة مؤقتة وشكلية ، لأنه لم يتمكن سوى من قشرتها وشكلها الخارجي ، بينما هي في الواقع تسري في أوصاله وتستقر في ثنايا الروح والوجدان للفرد والمجتمع ، لذا نراه يستمر في التخبط بين جدران ثقافة الاستبداد هذه . وقد تبدو عليه بعض مظاهر الحركة والتطور ، غير أنه في الحقيقة لا يتحرك بعيدا عنها ، بل يدور حول نفس المحور ويراوح في نفس المكان ، وتجده ، مثلا ، وهو في عز (الانعتاق والتحرر) يبالغ في مظاهر عبادة الفرد وتقديس (الزعيم) عبد الكريم قاسم ، والرجل - رغم مآثره واحترامنا لذكراه - شخصية عسكرية سياسية ، حتى يرفعه من الأرض إلى السماء ، ليرى تقاطيع وجه (الزعيم) تطل عليه كل مساء مع نور القمر !
واليوم ، رغم تبني المجتمع للنظام الديمقراطي ، نجد النخبة والشارع يرقص على إيقاعات النظام الاستبدادي البائد ، التي يتردد صداها في منهجية التفكير بمفردات لا تزال كما هي في كل نظم الاستبداد – سيادة العاطفة وتسطيح وتهميش العقل ، الحذر والخوف من المبادرة وندرة الإبداع ، الموقف السلبي من الآخر ، الانكفاء نحو الذات الدنيا والتخندق عندها وتمجيدها ... وتتجسد هذه وغيرها بمظاهر وأنماط سلوكية اجتماعية وسياسية ، كالشك وعدم الثقة و(الشعليّه) ، وسيادة النزعة الفردية والمزاجية في القرارات والقوانين ، والتزلف والنفاق للأعلى في السلّم والتسلط والاستعلاء على الأدنى ، وصولا إلى تقديس السياسيين ، ومنهم رجال دين ، غير معصومين من الخطأ ، لأنهم بشر مثل بقية خلق الله ، على الأقل حين يشتغلون بالسياسة ، التي لها منطقها النسبي الذي يقوم على المساومة والمناورة والتكتيك ... والذي يختلف تماماً عن الدين الذي يتعامل بالمطلق ، أي الحلال والحرام ، والجنة والنار .
ومن دون أدنى شك فهناك قوى تعمل من أجل مصالحها الخاصة وبالضد من مصلحة الشعب ، وإن إدّعت غير ذلك . لذا لا تريد لمجتمعنا العراقي الانعتاق الحقيقي والخروج من وحل الاستبداد ، فتستخدم كمن سبقها شتى الوسائل والمبررات ، ومنها الدين ومختلف فروع المعرفة والفن والأدب ، حتى إن البطانة والأتباع الذين طبلوا ومدحوا ومجدوا وخدموا الطاغية صدام ونظامه وساهموا في مسخ الإنسان والثقافة العراقية الإنسانية لم يشعروا بالحاجة لتغيير النهج ، ولا لتقديم أسف واعتذار عما فعلوا ، بل فقط لتغيير الولاء ، وإن كان شكلياً ، وهذا ما حصل !
من الضروري لمجتمع اكتوى ومسخ وسحق بالاستبداد كالمجتمع العراقي أن يكون أكثر إطلاعا ومعرفة وحساسية وحذراً ومن ثم حصانة من ثقافة الاستبداد ، التي تمثل الحاضنة التي تمهد الطريق لظهور مستبدين وطغاة جدد ، وهذه مسؤولية النخب السياسية والثقافية ومؤسساتها التي ننتظر منها تسليط الضوء وتقديم الدراسات السياسية والاجتماعية لكشف بؤر الاستبداد ومظاهره وممارساته في حياتنا اليومية وفضحها ، وأن تعمل على تكوين وعي اجتماعي ورأي عام فاعل مناهض للاستبداد ، يضمن أن لا ترفع لافتات التمجيد لـ ( فلان رجل المرحلة ... رجل المستقبل) و( علاّن الصادق الأمين) والصور والتماثيل لمشاريع طغاة جدد ، وأن يتلاشى هتاف الطغاة التقليدي البائس (بالروح بالدم نفديك يا هو الجان) والهتاف الجديد (علي وياك علي ) !
لقد عانت شعوب كثيرة من الطغيان والاستبداد ، الذي يبدأ وفق ما يكتب العالم الأمريكي جون لوك (عندما تنتهي سلطة القانون ، أي عند انتهاك القانون ، وإلحاق الأذى بالآخرين) وكتب عنه الكثيرون أيضا . إلا أن مكتبتنا تعاني من ضعف واضح في هذا المجال لأسباب معروفة . غير أن ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في مطلع القرن الماضي ! في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ، يظل يحتفظ بحيوية وأهمية بالغة ، خاصة وهو يشير بوضوح إلى أن سبب تخلف الشعوب الإسلامية والعربية يرجع إلى الاستبداد السياسي ، الذي يحدده ويفصله ويفضحه في أكثر من موضع حتى يقول : ( وإذا سأل سائل لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين ؟ فابلغ جواب مُسكت هو : إن الله عادل مطلق لا يظلم أحداً ، فلا يولي المستبد إلا على المستبدين . ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبدا في نفسه لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم حتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره ) ... وصدام اسمك هز أمريكا !

 

صحيفة (الأهالي) العدد 259 الصادرة بتاريخ 16/7/2008


 

free web counter