مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الأربعاء  8 / 1 / 2014

 

القبعة والحلم

مزهر بن مدلول

رغم الاسرار الكثيرة والخيالات الضائعة، ورغم الفراغات والثقوب وافتراءات المؤرخين، فأنّ تاريخ العراق كان ومازال (يحتكر الفاجعة)!، لقد أُريقت على شفاه العراقيين الكثير من الاحداث والحكايات منذ خراب البصرة حتى سقوط الفلوجة!، ولكن اشد الصفحات قسوة وابلغها تعذيبا وامتهانا لكرامة الانسان هي فترة حكم (الطاغية) التي امتدت لاربع وعشرين عاما وخلّفت لنا بلدا بنسخته المعاصرة تتناحر فيه جميع الاضداد!.

في احد الايام كنتُ مكسور الخاطر، فقد اضنتني الوحدة وارهقني الظلام القاتم الذي يبعث الكآبة في النفس، كنتُ ضائعا في زحمة الارصفة وضجيج الشوارع، بلا مأوى ولا قرار ولا مصير، امشي (الراكَ الراكَ) لكي لا اثير فضول احد ليكتشف أني من الخارجين عن القانون!، خائفا من كل شيء، ورأسي يدور في كل الاتجاهات رغم الصداع الذي يمسك به منذ الصباح، بينما كان الناس في بغداد يتبادلون التحايا والقبل المنفاقة بلا انقطاع، مما زاد من خوفي ويأسي.

انطلقت من مقهى صغير في ساحة (الرصافي)، ودخلت في الشارع المخملي، الشارع الباذخ في ترافته (شارع النهر)، وكانت رغبتي ان اذهب الى شارع (ابو نؤاس) عسى ان اجد فيه شيئا من البهجة المفقودة!.

عندما وصلت الى هناك، وجدت (الكورنيش) مزيناً بألوان الغروب الجميل، عابقا برائحة (السمك المسكَوف)، مكتضا بزواره الرومانسيين!، انهم اولئك الذين لا يحشرون انوفهم بالشؤون الحساسة، هؤلاء هم القادرون على قطع الشوط الثاني من المشوار باطمأنان!، لاسيما وان الناس في ذلك الحين يعيشون في وضع اقتصادي مريح وشهيتهم مفتوحة لاستهلاك اي شيء.

جلست قليلا أتأمل الشاطئ، شاطئ (دجلة) ومنظره الفاتن، فشعرت وكأني سقطت في حلم، كأني لا اعرف النهر ابدا، واني اكتشفه لأول مرة!، من هذا المكان فاحت عطور الجواري!، وفي هذا المكان روت شهرزاد قصتها (الف ليلة وليلة)، وهنا امضى (حسين مردان) لياليه مستغنيا عن النوم!، وعلى هذا الرصيف تغرب الشاعر الذي منح قصائده رائحة التراب (جبار الغزي) وكتب: (غريبة الروح.. لا طيفك يمر بيها.. ولا ديرة التلفيها......)، اجتاحتني زوبعة من الخواطر، اتتْ من تلقاء نفسها دونما عناء، ثم نزلت دمعة، ونزلت اخرى، وعمّ الليل وتفرق العشاق!.

نهضت من مكاني اتأرجح بين الماضي والحاضر، بين الفوز والخسارات، لا احد يعرف انّ خلف هذا الزحام يوجد عالمٌ آخر، عالم لا حدود له ولا تخوم، هو عالمي انا، اشعر بهيمنته، واحسُّ بفداحة ثقله، لكنه عالمي الذي لااريد غيره!.

دفعتني قوى خفية! الى حانة صغيرة على رصيف الشارع اسمها (الواحة)، باحتها الامامية مكشوفة ومزدحمة بالزبائن وتعج بالضوضاء، وفي اعلاها غرف صغيرة بواجهات زجاجية، كل غرفة تتسع لطاولتين او ثلاثة، اخذت لي مقعدا في زاوية لوحدي، وكان الى جواري يجلس شابان يحتسيان الكؤوس ويتهامسان مع بعضهما بموضوع جاد على ما يبدو!، جاء النادل، فطلبت (ربع) مع (طاسة لبلبي) التهمته كله قبل ان ابدأ بالشرب!.

كنّا ثلاثة فقط في هذا المكان الضيق، انا وحدي على طاولة، والاخران يحتجزان الطاولة الثانية، وكان احد الشابين قصير القامة جدا ومربوع الجسم، ووجهه ممتلئ ومزدهر الخدين، ويرتدي على رأسه قبعة تشبه تلك القبعات التي يرتديها (الروس) في ايام الصيف!، لم يكُ لي اي حديث معهما، وليس عندي نية لأن اشاركهما الطقوس، كنت اريد ان اكون وحدي، ان ابحث في هذه العتمة عن بياضٍ لي، انا وكأسي وليذهب العالم الى حيث يشاء!، وضعت خديّ بين صفحتي كفيّ ورحتُ اتأمل بمتعة مستغرقة هذا السائل العجيب الذي يستفز الخيال!، تلك الخمرة (عروس الشعر) التي تستطيع ان تختزل المسافة بين الواقع والحلم!.

بعد دقائق قليلة، دخل رجل فارع القامة وضامر الوجه ومترهل الاجفان الى غرفتنا، كان يرتدي بدلة رمادية وقميص ابيض خالٍ من ربطة العنق، وكان يترنح بطريقة توحي بأن الرجل مخمورا!، وقف امامي، واشار بسبابته نحوي، وراح يمعن النظر في وجهي كمن يريد ان يقرأ شيئا خفيا، فأستبدَّ بي القلق، ودندنتْ في اذني افكار غريبة وسوداء!، اقترب مني الرجل كثيرا، حتى لامس جسده حافة طاولتي، ومازال ينظر لي بعينين مليئتين بالعدوانية والاتهامات!، ولا ادري اذا كان قد شعر بانفاسي المتسارعة والجفاف الذي اصابني ام لا، لكنه فجأة، ومن دون ان ينطق بكلمة، استدار ووقف امام الشابين اللذين يجلسان على الطاولة الاخرى، نظر في وجهيهما يستطلع التعابير، واشار ايضا بسبابته نحوهما، ثم، وبعد دقيقة او اكثر قليلا، جاء ناحيتي معلنا الحرب النفسية ضدي ومكررا نفس الحركات، لكن الامر لم يستغرق الكثير من الوقت حتى عاد الى الشابين يتفرس في وجهيهما بنفس الطريقة، وفيما بعد، وبعد ان يأس من العثور على ضحية يستدرجها الى (الحفرة)! نظر الى الباب المشرعة وخرج من الغرفة!.

بدأت الخمرة الرديئة تحرق الاحشاء!، وبدأ الخوف يخلي مقعده الى الطمأنينة، وبدأتُ استعيد العلاقة مع احلامي وتخيلاتي بعد ان شتتها هذا الرجل المريب الذي ظهر فجأة!، شعرت بالاسترخاء، بالتجاذب الحسي، بالعلاقة السرية والتداخل الغامض مع هذه الزجاجة التي تنتصب امامي وينطلق منها اشعاع باهر الضوء يقودك بسهولة الى اية سماء تريد الوصول اليها!، كنت منغمسا تماما في ذلك الحلم، حلم العودة الى الجذور!، الى الشعراء النائمين في الدفاتر!، كنت في الفضاء على جناحي صحن طائر يندفع بسرعة هائلة كلما ارتشفت كأساً جديدة!، لكن ذلك الاسترسال الصامت لم يستمر الى نهايته، فعندما رفعت رأسي ونظرت الى باب الحانة رأيت ذلك (الشيطان) مرة اخرى يقتحم عليّ خلوتي!، فتكسرت اجنحة صحني الطائر وتهاوت جثتي على ارض الواقع المخيف!، وقف (الثعبان) قريبا مني، وراح ينظر في وجهي بكراهية لامثيل لها، نظر ونظر ونظر، حتى يأس من قراءة ما يريده من معانٍ في ملامحي، فأستدار واتجه نحو الطاولة الاخرى، نظر في وجه صاحب (القبعة)، وضع عينيه في عيني ذلك الشاب، احنى قامته الطويلة، اهتزت اركان جسده، سال لعابه وبانت تكشيرته، ثم انتصب قائما وصاح: (هو هذا.. هو هذا)!.

كان صاحب (القبعة) قويا ويمتلك رأسا يصلح لتكسير الجوز!، كما انه بدا كبير الثقة بقدرته القتالية!، فقفز بخفة فوق الطاولة وردّ قائلا: (نعم، هو انا.. هو انا)، وضرب الرجل (كلة) على وجهه ثم اردفها بأخرى على عينه، فسال الدم من فم (الثعبان) وهو مازال يصرخ (هو هذا.. هو هذا)، وخلال ثواني، غصت الحانة بالرجال، وتعالى الصراخ، وبدأت كلمات التأنيب والتحقير تأتي من كل صوب، وقام اثنان منهم بأشهار مسدساتهم فاختلط الحابل بالنابل، اما انا فقد تسللت من بين الزحام وخرجت من البار، وكغزالٍ مذعور تخطيت جميع الحفر والاسلاك حتى اختفيت في الظلام!.
 

 

 

free web counter