مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الخميس 8/11/ 2012

 

الدليل، تجربة ومعاناة!
(2)

مزهر بن مدلول

في ذهني عالقة معلومة قديمة لا اعرف مصدرها، بأنّ سيطرة التفتيش قبل الدخول الى مدينة الكوت ثاقبة النظر وقادرة على تفسير الملامح!، وبما أنّ منظري الخارجي يثير الشك ولايدلُّ على أني شخص يحترم هيبة الدولة!!، لذلك قررت ان اترك الحافلة قبل الوصول اليها بمسافة.

دخلت في احد البساتين الكثيفة، وفي منخفض تغطيه الأحراش، جلستُ برهة لأدخن وافكر بالخطوة التالية، كان السؤال الذي يلح ولم اجد له جوابا، هو: الى اي مكان ساذهب؟، فالخوف في العراق اصبح واحدا من العائلة، والناصرية مزدحمة كثيرا بالعيون المتلصصة، وحضن ريفها مليئا بالبكاء الحميم ولايتسع لهموم مشاغب قد يجلب لها النحس ويحرق باقي الغلال!.

ولكن الحيل قليلة، وبلادنا الجميلة، بلاد النهرين والاهوار والشطوط، بلاد الحضارات الاولى والثقافة والعلم للجميع! واصوات لاتنسى!، والرياضة في اسبوع كلها ذهبت ادراج الرياح، وليس لي غير رائحة المدينة واهلي، فهذه وحدها  القادرة على ان  تغمرني بشيء من الهدوء والطمأنينة ولو الى حين!.

ماتزال امامي طريق طويلة، لكي ادور حول سيطرة الكوت وانتقل الى الجهة الثانية منها، وكنت استعجل خطواتي قبل هبوط الليل، والليل في هذه البراري الموحشة يخيفني، انه يولّد عندي شعورا بأني سوف اكون مثل (ديموزي)!، لا بيت آوي اليه، ولا دكة اتكأ عليها، ولاباب يصد عني الريح، ولا(عشتار) تنزل من السماء!، ولكن ماذا افعل  لحظي العاثر! فها هو الظلام ينتشر ومازال الهدف بعيدا!.

كانت العتمة شديدة على الارض رغم ان السماء صافية والنجوم تتلألأ، وكنت امشي بأتجاه مصابيح المدينة التي يبدو نورها باهتا ونائيا جدا، فهي دليلي الوحيد في هذه الساعة الحزينة من محنتي، ولكن بسبب الظلام الدامس وغياب (السكة) تعثرت كثيرا بالحفر التي تنتشر في البساتين والمزارع، حتى وجدتني فجأة غاطسا في وحل لم اعرف كيف اتخلص منه!.

تلك الليلة لا انساها ابدا، لأنها كانت من الليالي القاسية التي مرت في حياتي، فعندما خرجت من الوحل الطيني الذي وقعت فيه على وجهي لمرات عديدة، كنت فاقدا للتركيز وساقاي غير قادرين على حملي ومعدتي تأكل نفسها من شدة الجوع، فانا لم أكل منذ الصباح، بل لم أكل منذ شهر، انا جائع منذ سنوات!، وللجوع وحده قصص كثيرة، فقد رافقني مثل ظلي في المدن وفي الصحراء وفي الجبال والمنافي، وكأنه مطارد ويبحث عن مكان مثلي!.

استسلمت لقدري وآلامي، وألقيت بجسدي في ساقية رطبة، ونمت غير مبالٍ لما يجري وسط هذه الظلمة القاتلة!.

قبل بزوغ الفجر استيقظت، وشعرت بأني استعاديت جزءا من قدرتي على الحركة رغم ان الجوع يكاد يصرعني بين الحين والاخر، ولما وصلت الى الجانب الثاني من السيطرة، توقفت امام مطعم للمسافرين يقع على الطريق الرئيسية، وترددت في بداية الأمر من أن أدلف الى داخله خوفا من أن يطردني صاحبه، ولكن حاجتي الماسة الى الحمام جعلتني اقتحم الباب وادخل الى المطعم!،

لم ألتفت الى احد، ولم انظر في وجه انسان، وتجاهلت كل اصول اللياقة، (وما على المجنون حرج)!، ولكن عندما نظرت الى وجهي بالمرآة وملابسي الملطخة بالطين اصابني الهمُّ والذهول، فقد كنتُ في حالة من البؤس تشبه الى حدٍ ما حالة (إكريم) الشخصية المعاقة والمعروفة في شوارع واسواق مدينتنا!، كنتُ اثير الأنتباه والشفقة في عيون الاخرين، لاحظت ذلك عندما مددتُ يدي لأتسول وجبة أكل بسيطة اسدُّ بها رمقي واجرة الباص (الدليل) الذي يقلني الى الناصرية!.

 

 

 

free web counter