مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                                    الخميس 7/6/ 2012

 

تحية للشهيدين ابو فؤاد وابو رزكَار

مسرحية ابطالها عميان!

مزهر بن مدلول

كتب قبلي الانصار الاعزاء، غالب محسن ومحمد الكحظ وعلي محمد وغيرهم الكثير، عن الجريمة التي ارتكبها النظام البائد ضد الانصار الشيوعيين في (كَلي زيوة) في قاطع بهدينان والتي خلفت ورائها الكثير من المعاناة والالام ومازالت تاثيراتها على بعض الانصار ممتدة حتى يومنا هذا. وربما لااستطيع ان اضيف شيئا جديدا للتفاصيل التي كتبوها، لكني ساحاول ان ابين ولو بشكل بسيط مشاعر الانسان الذي يئس من النجاة ووقف ينتظر الموت!.

في منتصف شهر مايس تقريبا، تحركت مفرزتنا التي رافقت الفقيد الرفيق (ابو عامل) من (كَلي خوى كورك) باتجاه مقر قيادة قاطع بهدينان، وكان الجو في ذلك الوقت ينذر بعاصفة ثلجية مما اضطر آمر المفرزة النصير ابو دنيا، ان يعيد الفقيد رحيم عجينة الى المقر بسبب وضعه الصحي ووعورة الطريق، وبدون ان اخوض بتفاصيل المتاعب التي واجهتها هذه المفرزة وما تعرضت له من ساعات قاسية ابتداءا من عبور الروبار حتى الوصول الى مقرات الحزب الاسلامي، لكن لابد لي ان اتذكر لحظة الموت الحقيقية التي رافقتنا من تلك الليلة حتى كَلي زيوة، ولحظة الموت هذه بدأت عندما نزلت العاصفة بكل جبروتها في الليل على رؤوسنا وفي مكان يعد من اخطر الامكنة من الناحية الامنية،

لم يكن هناك اي ملاذ يمكن اللجوء له، وليس امامنا الا الاستمرار في المشي، ولكن الثلج غطى جميع معالم الطريق، مما تطلب المزيد من الجهد والتعب في العثور عليه، لقد نال منا البرد والجوع كثيرا، وتجمدت اطرافنا وتشتت اذهاننا وضاعت البوصلة نهائيا، ولم يبقى شيء نفكر به سوى الذاكرة والموت، لحظة مرعبة في وضوحها بانك ستموت بعد قليل مكفنا بالثلج، كما هي مرعبة عندما تنتظر الموت مختنقا، وهي مدهشة في غموضها بان صدفة الهية تأتي وتخرجك من هذه السخرية الغاطسة بالالم، كما هي مدهشة بانك لا تموت حتى لو قصفوك بالاسلحة الكيمياوية، وبسبب نجاتك من جميع تلك السيوف، فلابد ان تذبح خروف في نهار اليوم التالي وفي طقس اشبه بطقس الصحوة من الموت!..

بعد عدة ايام من المشي وصلنا الى (كَلي زيوة)، لكن مفرزتنا لم تمكث طويلا هناك وانما استمرت باتجاه الفوج الثالث، وبعد ان انتهت مهمتها تحركت باتجاه (كَلي مراني)، فمررنا بمدينة بامرني الشاهقة، وفي هذه المدينة رأيت لاول مرة اعمدة الكهرباء، وشاهدت سيارات تسير في شوارع مبلطة!، ورأيت كل الاشياء التي انقرضت من ذاكرتي منذ زمن!.

تحركت المفرزة من (بامرني) قبل ان يبزغ النهار ووصلت الى مقر الفوج الاول قبل حلول الظلام، وبصراحة شعرت بالراحة النفسية في هذا الكَلي دون ان اعرف السبب!،

بعد انتهاء مهمة المفرزة في الفوج الاول، تحركت الى مقر (كافيا) وفيها استطعت ان اقرأ بعض الصفحات في كتب مختلفة.

رحلة طويلة استغرقت خمسة عشر يوما، وكانت (كافيا) المحطة الاخيرة فيها، والتي منها  نعود ادراجنا مرة اخرى الى (كَلي زيوة).

عند عودتنا الى مقر القاطع، التحق بالمفرزة عدد كبير من الانصار، وكان معنا النصير ابو حيدر جريحا، وفي طريق العودة كان لابد من عبور شارع تحرسه ربيئة من الجحوش وتزورها في اغلب الاوقات مفرزة من الاسخبارات العسكرية التابعة للنظام البعثي، جرى الاتفاق مع الجحوش على اشارة عبور الشارع، فكانت الاشارة هي اغنية الفنانة (عزيزة جلال) سلامات، ولما سمعناها عبرنا بسلام!.

وصلنا مرة اخرى الى (كَلي زيوة) والذي اجتمع فيه عدد كبير من الانصار جاءوا من قواطع مختلفة، ولان الانصار في مثل هذه اللقاءات التي لا تتكرر يبحثون عن وسائل لاستغلالها، فابتكروا في مساء الخامس من حزيران فكرة لعبة كرة القدم، فخرجنا لترميم الساحة الواقعة امام مقر فصيل الادارة، وبعد ان انتهينا من ذلك وكانت اللعبة على وشك ان تبدأ، دوت صرخة النصير ابو روزا التي كانت اقوى من هدير الطائرات! يطلب منا الانتشار، وبسرعة فائقة اختفى فريق كرة القدم واختفى الجمهور!.

بدأت الطائرات برمي صواريخها في الوادي وعلى القمم ولدقائق معدودة ثم قفلت راجعة، خرجنا من مخابئنا بعد ان توقف القصف مباشرة، وكأننا خرجنا الى عالم اخر، الى وادي اخر، فكلي زيوة ليس هو نفسه,  والوانه تبدلت، وكائناته اختلفت، ورائحته تعفنت، ورغم اني لا احب المقرات وقضيت كل سنواتي في الطريق وبين القرى، لكن زيوة بالنسبة لي مكانا مهما للاستراحة بسبب ما تربطني من علاقات حميمة مع اولئك الرفاق، وهاهو الان يتحول باشجاره الخضراء وطيوره الملونة وزابه الجميل الى نار مشتعلة في العيون والبطون!.

عمت فوضى عارمة في الاتفاق على نوعية الصواريخ والمادة التي قذفتها، وصاحب ذلك عدم اتخاذ القرار والاجراء المناسب، ولكني عندما كنت واقفا بالقرب من النصير خابور حيث أُصيب بشظية، سمعت الطبيب الذي جاء لمعالجته وهو طبيب من (اوك) قال بان هذا الغاز هو غاز الخردل.

بعد ساعة او ساعتين كان اغلب الانصار على علم بان الطائرات قصفتنا بالاسلحة الكيمياوية حيث اثارها بدأت تظهر على الوجوه والرئتين، ولكن كبرياء الرفاق منعهم من اتخاذ القرار الفردي والتخلص من الاصابة، حتى اني سمعت احد الرفاق وهو يقول الى اخر وضع منديلا مبللا على وجهه ( شيل المنديل عيب)!!.

نام البعض منا داخل الغرف، ونمت انا مع اخرين على السطح، وعلى اثر حكة تشبه الحريق في عيني والم في بطني مصحوبا برغبة في التقيؤ، استيقضت بعد منتصف الليل، فرأيت نارا مشتعلة في مقر الاسناد، وسمعت اصواتا ضاجة هناك، فنزلت من سطح الغرفة وذهبت باتجاه المرتفع، وشاهدت هناك عدد كبير من الانصار تجمعوا حول النيران وكأنهم على موعد مع الآلهة التي تطرد الشر!، وفي هذا المكان ايضا رأيت الالم يعصر الارواح ويلهب العيون ويمزق البطون، وشاهدت على وجوه  النصيرات اللواتي لم يتعرضن للاصابة او اصابتهن خفيفة، حيرة ووجع، اكثر من وجع المصابين، وهنّ لا يملنّ من تقديم العون والمساعدة باي طريقة لتخفيف الالام وفي مشهد تراجيدي لا يمنحك اي فرصة لان تتأمل اللحظة المهمة قبل ان ترحل الى عالمك الاخر!.

في الصباح وقبل ان تأتي الطائرات مرة اخرى وتنقض على ما تبقى، بذل الانصار الاصحاء جهودا مضنية في ايصال المصابين الى القمة حيث مقر الدوشكا هناك، وكان في استقبالنا دكتور الاسنان النصير ابو الياس، يقف على حافة ساقية ضيقة ويطلب من اي نصير يصل ان يغطس وجهه في الماء الجاري لاكثر من مرة كجزء من العلاج، بالاضافة الى الطرق العلاجية الاخرى، وهي القليل من شوربة العدس والكثير من الصبر وتحمل الالام. ولكن رغم الشعور بالمصير المجهول ورغم سقوط شجرة البلوط الكبيرة التي مازال الى الان غامضا، فان الابتسامة والنكتة والتعليقات الساخرة التي يتبادلها الاعمى وصاحب النظر السليم  لم تغيب عن وجوه وافواه الانصار، وهذا كان الانتصار الوحيد!.




 

free web counter