مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 6/5/ 2010

 

حجر الرحى

مزهر بن مدلول

مصادفة التقينا ، في وادٍ بعيد عن أنظار التاريخ ، يحتويه السكون والخوف ، أخذنا حنين جارف الى الجذور، لنستعيد بعض من ذكريات مضتْ ، وكنتُ أمام رجل ذي ملامح ريفية جامدة ، رجل بدا عميق الشعور، متيقظ الذهن ، طيب النفس ورطب الكلمات ، وجدانه مليء بالطمأنينة ، ووجهه يحمل آثارا تدلّ على طرازالحياة التي كان يعيشها ..
حياة ملتوية ، مضطربة وعاصفة ، موغلة جدا في قسوتها وجفافها ، شعر خلالها باليتم أكثر مما شعر به (جيمس دين) في فلم (شرقي عدن) ، وكان غالبا ما يلجأ في اقتحامها الى المغامرة ، يركلُ بقدميه كل لحظة انهياراو تراجع ، ولم يخطر بباله يوما، ان يهرب من آفاق الهموم والمشاق ، طالما بقيتْ هناك غاية نبيلة ..
يتحدث بأيقاع حزين ، ونبرة فيها شيء من الانكسار، عن تجارب أيامه المريرة ، التي طالما ذهبتْ بصوابه ، وجعلتْ الموت يزحف تحت جلده ..
يروي الحكاية كمن يركض وراء السراب ، أو أنه يريد أن يتسلق جدران التاريخ ، لكي يصل الى الأبراج بسرعة ..
يطارد النسيان ، يشقّ طرق الكون لكي يقبض على المستحيل ، هكذا كان مندفع بحماسة شديدة وبخيال جامح ، لاهث وراء شيء يجهله ويجهل مكانه ، حلم له بريق لامع ، يتربع على عرش مخيلته منذ ان أضمحلت الفصول ..
فما هو ذلك الحلم الذي يستحق كل هذا القدر من المعاناة ؟ وايّ حلم يبقى بعد ان يغرق الوطن في وحل الاستبداد والظلم ؟ وبعد ان تغيب المثالية البيضاء النقية عن القلوب ؟ ، الاصدقاء الذين تفرقوا ،الناس كلٌ يحمل انانيته ، العالم يسقط في بئر من الكراهية ، الحبيبة التي كان يتصورها ملاكا ، ازاحتْ عن وجهها المساحيق لتظهر انيابها وتمزق الاحلام المتوهجة البهيجة ؟..
كان مترفعا على ايذاء الحياة له ، متكابرا على مصاعبها ، مصمما على التحرر من طغيان العزلة ، ولم تأخذه الشفقة بنفسه ابدا..
أستبدت به الحماقات ومارستْ سلطانها بقوة ، راح يعبر الجزر التي تشتعل فيها النيران ، تعرض خلالها الى الكثير من الحروق المميتة ، ولم تفتْ في عضده ، ينهض منها ، قويا متماسكا ومبتسما ،حتى ألفها كلها ، واصبحت المغامرة بالنسبة له ، هي القوة السحرية التي تجعل لحياته معنى واستمرار ..
حتى جاءت اللحظة الموعودة في ليلة شديدة الظلام ، وكانت الريح تضربه بلا هوادة بأسهم من القلق والتردد ..
دلف الى المكان الذي أُعدّ لتهريبه ، مكان للاختفاء والتلاشي ، للعبور الى العالم الآخر، حيث لا زمن هناك ولا ذاكرة ، دخل بطواعية الى قبره المعتم ، قبر ضيق لجسد هزيل ، وحجر رحى يدور بسرعة هائلة ..
تساقطتْ أمانيه صفراء ذابلة ، واحدة تلو الاخرى ، الحجر يدور ، العيون الجاحظة تدور، ليس هناك وجع اكثر ضراوة وهولاً من وجع هذا الحريق ..
صور تتلاحق ، تتكدس على بعضها ، تسقط ميتة ، خالية من اية اشراقة ولو للحظة ..
تخلى عن جسده ، تركه ان يتحول الى إنبوب من أنابيب محرك السيارة ، برغي صدئ من براغيه المتآكلة ، ترك الانسجة الحية تتفجر ، تسيح على الاسلاك المتوهجة ، رائحة نفاذة ، كابوس مرعب يطبق على خناقه ، حديد ينصهر ، يتلظى ، يلفح وجهه وعينيه واعماقه ..
يمسك رأسه بكفيه ، يشده بقوة ، يتشبث به ، يحاول ان يحميه من اللهيب ، هو عقله ، مكتبته الذهنية الباقية ، يحاول ان يقنع نفسه انه ما زال حيا ، يصرخ بشدة ، صراخا متماديا من حنجرة متيبسة ، ينحبس الصوت في صدره ، يستغيث بالريح ان تحمل صوته الى آلهة الصحراء الشريرين ، الى أنياب ذئب جائع ، غراب ينعق بألم من شدة الجوع ..
تتقطع الانفاس ، الحجر يدور، ويطحن الجسد والاحلام والآمال ، فهل مات ،وهذه هي جهنم !؟..
استيقظ في الصباح على زعيق شرطي يفتح الزنزانة .
 

 

Counters