مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الجمعة 4/1/ 2013

 

الدليل، تجربة ومعاناة!
(10)

مزهر بن مدلول

اللغة سلطة كما يقول (رولان بارت)، وانا عندي شهادة من (السوربون)! في نطق اللغة واجيد استخدام هراوات هذه السلطة!، فبالاضافة الى معرفتي الكاملة بمفردات اللهجة القروية واللهجة البدوية، فأني اعرف ايضا لغة الايحاء والاشارة واستدراج المزاج!، وهذا ساعدني كثيرا في ان اكون قريبا من نفوس العمال والبدو (البدون) الذين اقضي معهم هذه الفترة بشكل مؤقت!.

مازالت الصحراء مثلما كانت منذ بداية المشوار، انها تصرخ بالحماقات كما لو انها تريد ان تلفت الانتباه ويسمعها الاخرون!، لكنها رغم ذلك مصرة على ان تكون نهاراتها بطيئة وثقيلة الى درجة انك تشعر بدنوِ (الجلطة) في كلّ حالة تأمل لهذه المقبرة الموحشة.

مكثتُ في هذه المزرعة الرابعة ما لا يقلُّ عن خمسة واربعين يوما، كنتُ خلالها يائساً ومهموماً ارفعُ يديّ في كلّ مساءٍ الى السماء واتذرعُ الى (الله) ان يجعل طريق القافلة التي انتشلتْ (يوسف) الوسيم يمرُّ من هنا، عسى ان تحملني معها وتبيعني الى زوجة الملك!.

اثناء وجودي هناك، جاء الى المزرعة ثلاثة رجال كلهم من ناحية (الفهود) التابعة الى (لواء الناصرية)!، وكانوا هاربين من الجيش وجميعهم من ضباط الصف (عرفاء)، ويريدون العبور الى الكويت ايضا، ولكنَّ هروبهم من العراق لا يبدو لأسباب سياسية.

ليس امامنا سوى الانتظار، وقد وعدنا (وكيل المزرعة) بأن يبحث لنا عن (مهرب) يحترم المهنة ويعرف المسالك لكي لا نقع في قبضة الشرطة، ووكيل المزرعة هو الشخص الوحيد الذي يحمل تصريحا من صاحب المزرعة يعطيه الحق بالخروج من حدودها والتجول في المناطق الاخرى متى شاء.
بعد خمسة واربعين يوما تمكن الوكيل من الاتفاق مع احد المهربين الذي اشترط ان يحصل على مائة وخمسين دينارا من كلّ واحد يريد الوصول الى مدينة الكويت، وما كان منّا الاّ ان ننصاع لشروط المهرب دون تردد، فجاء في الموعد المحدد ووضعنا نحن الاربعة داخل (الشنطة) في مؤخرة السيارة الصغيرة! التي تحركتْ زاحفة فوق الطريق الرملية غير السالكة.

كان المكان الذي انحشرنا فيه ضيقا جدا بحيث لا يمكن لأيّ منّا ان يحرك جزءاً من اجزاء جسده مهما حاول ذلك، وكانت المسافة من هذه النقطة وحتى اطراف مدينة (الجهراء) اول مدينة حدودية تستغرق اذا ما تجنبت السيارة السير على الطريق الاسفلتي ساعتين تقريبا، اما نحن الذين تهشمت عظامنا داخل (الشنطة) فكانت المسافة بالنسبة لنا طويلة جدا، كنّا خلالها نعاني سكرات الموت، الموت اختناقا هذه المرة، كنّا نبحث عن نسمة هواء تأتي عبر الثقوب الصغيرة، نسمة تعبرُ اسلاك الحديد التي تحولتْ الى جمرٍ ملتهب فتدخلُ خالية من الطعم والاوكسجين!، كان اختناقا فضيعا اصعبُ بكثير من الاختناق الذي تسببه غازات الخردل (الصدامية) التي سأأتي على ذكرها لاحقا!.

ساعتان فقط .. سنتان فقط.. دهران فقط! لم تتركا قطرة ماء واحدة في جسدي، كلّ شيء تبخر.. كلّ شيء تهدم!..
وأنتِ بلا اسنان، تصرخين خائفة : (مذهههههر لا توكَعني من المشحوف ما اعرف اسبح)!، وانا اضحكُ من قصائدي التي أهتزّ خصركِ على ايقاعِ حروفها، أُعزي شفتيَّ على القبل الكثيرة التي تبادلناها عند منتصف الليل وفارقتْ الحياة، رائحة جسدكِ التي تاهتْ في الضباب، ولم يبق منكِ سوى صورة لأمراة تقف متأهبة في بابِ حانةٍ ليلية!!.

توقفت السيارة في نقطة التفتيش الاخيرة في مركز (المطلاع)، هذا المكان لا يمكن تجاوزه وليس هناك طريقا آخرا لا يمرّ به، وجميع العربات القادمة والخارجة تقف هنا للتفتيش، فعثرت الشرطة على مبلغ كبير من (الدنانير العراقية) في حوزة (المهرب) مما استدعى ذلك المزيد من التوقف والشك والاسئلة، اما نحن الاربعة (اجاك الموت يا تارك الصلاة)! فقد توقفنا عن التنفس!، وظهر الموت امامنا بكلِّ هيبتهِ وجمالهِ كحقيقة وحيدة ترفض الاحتيال عليها!، وتهامسنا بصعوبة في ما بيننا واتفقنا على ان ننتظر دقيقتين فقط لا اكثر وبعد ذلك سوف نصرخ!.

في تلك الاثناء وقبل ان تنتهي الدقيقتان، سمعنا خرخشة مفاتيح في شنطة السيارة وسرعان ما انفتح الباب!، نظر الشرطيُّ في وجوهنا الشبحية! ثم اغلق (الشنطة) ليقطع انفاسنا، وراح ينادي على زملائه الاخرين (تعالوا اكعيبر بالسيارة)!، فجاء عدد منهم يتراكضون ويلوحون بالعصي من اجل ان يكتمل الانتصار!، لكنهم عندما شاهدونا اجسادا بلا ارواح ومنظرنا يثير الشفقة تركونا نتقيأ ما في بطوننا دون اعتراض!، وبعد ذلك اخذونا الى السجن، ودفعونا داخل غرفة صغيرة تزدحم بعدد من الزبائن، فنمنا في تلك الليلة واقفين!، وفي صباح اليوم الثاني كنتُ ابحثُ في الوجوه عن (الدليل) الذي يخرجني من هذه الزنزانة التي فاضت على اطرافها مياه المجاري!.



 

 

 

 

 

free web counter