مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الخميس 29/11/ 2012

 

الدليل، تجربة ومعاناة!
(5)

مزهر بن مدلول

لاشك بأني كنت في ذلك الوقت، وفي كثير من الحالات لا أحسِن قراءة الأحداث، ولم ادرك بأنّ الوصول الى ايّ (هدف شريف) سوف يمرُّ عبر خارطة مليئة بالألغاز!، لهذا السبب تعرضتُ الى الكثير من الضيم وربما الى الكثير من العسف!.

ليس ذنبي، وانما ذنب البيئة القروية التي امضيت فيها كلّ أيامي، تلك البيئة التي جعلتني اتلعثمُ كثيرا قبل ان انطق الحروف!، ومازلت أشمُّ رائحة الصلصال فيها واشعرُ بوخزات برودة الحصير!.

كانت طفولتي مجردة من الاحلام والخيالات، ويمكن تلخيص براءتها بلعبة (اعظيم اللاّح)، واصطياد (الزرازير) (بالجزوة والمحجال)، والسباحة في المياه الآسنة مع الضفادع (وابو الجنيب) والكائنات التي تسبب حساسية الجلد!، فلم يكُ في بيتنا ديكورات للألعاب، ولا شاشة صغيرة تظهر فيها الرسوم المتحركة!، ولم احضر مسرحا للدمى في حياتي، اما الدخول الى صالة السينما انذاك، فكانَ ضربا من الخيال لايطالهُ امثالي، ولولا حكايات الكبار وقصص الجدّات التي تدغدغ الاحاسيس والعواطف، لما شاهدتُ صورتي خلف المرآة! قبل ان انام على (نواعي) أمي التي اثكلها الحزن (..... عدوك عليل وساكن الجول)!.

ولمّا كبرت، وجدتُ نفسي مثل بيت بلا باب يدخلهُ سماسرة الكذبِ والقبحِ والراسخون في (القرصنة) متى شاءوا!، حتى اللواتي!!، (سأأتي على كيدهن العظيم لاحقا)!، ولكن كل الذي صار، كان بسبب (السوسة الخبيثة "البعث" )، تلك التي حصدتْ الارواح والاخلاق والذمم!.

هذا لايعني بأنيّ كنت حمامة بيضاء وديعة، لا ابدا، فعندما اتصفح ذلك الزمن البعيد، اجدني وعلى الرغم من وقوفي في نفس المحطة، لا اركبُ دائما في ذات القطار!، لقد كنتُ عفريتا ارتكب الحماقات واحدة بعد اخرى، حتى سببت لأهلي وخاصة اخي الكبير الذي كان بمثابة أبٌ لي الكثير من الاحراج في مجتمع تعنيه العلاقات العشائرية اكثر مما تعنيه العلاقات الحزبية والاتجاهات الفكرية!.

كنتُ ادخل ملسوعا بجمرات من الحماس والاندفاع  في وسط دائرة المعلمين البعثيين وهم يتظاهرون (لماذا المعلمون بالذات؟!، لاادري بالضبط..)، كانوا يتظاهرون بالشعارات (القومية) التي بالتْ عليها الكلاب!، بينما اهتفُ بالشعارات التي تُطيح بالرجعية والاقطاع وتنتصر (لمجالس السوفيت وكوبا الثورة)!، فيُصابون بالارتباك دون ان يجرأ احدٌ منهم على خنق حنجرتي، بل يتركوني اصرخ وحدي ظانين بأنّ هذه الطريقة تجعلني اشعر بالخجل والانسحاب!، لكني لا أعلن التوبة فأختبئ خلف السياج دون ان يراني أحد وأرميهم بالحجارة حتى أصيب أحدهم وأهرب!.

هذا السلوك المراهق هو الذي دفع أخي أن يطلق عليَّ إسم (مدهر)، (من الدهرة وكثرة المشاكل)، ولطالما صرخ بي عندما يصل به الغضب الى درجة تجعلني أشعر بأنّ مرارتهُ على وشك أن تنفجر!، (ولك مدهههههر)!!، وهذه الصرخة يعرفها الكثيرون من اصدقاءنا هناك ومازال الرفيق ريسان (ابو لقاء) السكرتير الحالي لمحلية كركوك يرددها!.

على كلّ حال كانت ايامنا جميلة لأننا في بداية العمر، ولأننا ايضا كنّا نعتقد بقدرتنا على الرهانات المصيرية!!، دون أن نعي بأنّ الثياب مثقوبة وانّ الفتاة الجميلة بحاجة الى شيء يسترها!!.

وفي أحد الأيام زارني الزميل (محسن رشيد) من مكتب سكرتارية (اتحاد الطلبة العام) في مدينة (الشطرة) لينقل لي قرار مكتب السكرتارية القاضي بتعليق عضويتي في الاتحاد موجها لي تهمة محاولة شق الصفوف!.

كان هذا القرار المفاجئ بمثابة صفعة على الوجه!، ومع انها لم تكُ صفعة قوية بالنسبة لي في ذلك الحين، لكنها منحتني فرصة مهمة لكي اتوقف وأتأمل!، فرحتُ اتفنن بنطق تلك الكلمة الغريبة واضعها في اطاراتٍ جميلة!، (منشق، المنشق، شقَّ، يشقُّ، من المنشقيين، من الانشقاقيين)، ورغم اني لا افهم بالافكار الكبرى! ولامعنى ان يكون المرء منشقا، ولكني بدءاً من تلك اللحظة شعرتُ بأنيّ كبرت، وعقلي اكتمل وتفكيري اصبح ناضجا وانّ هناك من يحسب لي حسابا!، اصابتني نوبة من الغرور والتحدي المزيف، (أنا منشق إذن أنا موجود)!.

بعد مرور ايام قليلة من هذا المنعطف المهم، اجتاحتني موجة من الحنين الى معارك الطلبة النضالية!، وشعرتُ بأنّ ايامي اضحت مليئة بالوحشة والفراغ، فبدأت ابحث عن الاسباب التي بموجبها وجهت لي تهمة الانشقاق، وقبل ان اصل الى اي شيء وبعد مرور ثلاثة اشهر، جاء قرار آخر بأعادة صلتي التنظيمية وأني ليس منشقا ولا (خائنا!!)، وسرعان ما اصبحتُ عضوا في مكتب سكرتارية الشطرة مع الزملاء محسن رشيد، وكامل هادي، وعلي حسين، وفاخر، واخرين غابتْ اسمائهم عن ذاكرتي،

ومن خلال عملي في ذلك المكان، عرفتُ بأنّ سبب تلك التهمة هو أني وفي احدى سفراتي الى الناصرية قمتُ بزيارة لأقاربي في (شارع عشرين) والتقيتُ بالشهيد (سامي شهد) شقيق الشهيد جبار شهد (ملازم حسان)، وسامي كان اكبرنا سنا واكثرنا تمردا، وهو من الشباب المعروفين في المدينة ويحمل افكارا مختلفة او معارضة، ولهُ مجموعة تؤيده في ذلك، فكان لقائي به سببا كافيا لكي يشملني الاتهام!، علما بأنهم ليس منشقين ولايفكرون بالانشقاق وانما كانوا ضائعين يبحثون عن العنوان (الدليل) الذي يستطيع ان يفتح لهم الباب!.

 

 

 

 

 

 

 

free web counter