مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الاحد 28/10/ 2012

 

إنها الآن صديقتي!

مزهر بن مدلول

قبل أيام، وفي مناسبة غير مهمة!، ارتديت احلى ثيابي وخرجت لأحضر مهرجانا موسيقيا سيقام على مسرح (المدينة الثانية)، في الطريق ومن زاوية في مؤخرة الباص الذي يقلني الى هناك، تأملتُ غطرسة الخريف، مازال لم يهزم جمال الطبيعة وخضرتها، فأسترجعت الأيام الماضية عندما كانت بلادنا زاهية بالطيور، وشعرتُ بكثير من الحسرة، حتى ان رغبة ملحة انتابتني في ان اعود ادراجي، لولا انّ الباص توقف واعلن السائق وصولنا.

في المكان المزدحم بالعائلات وطلبة المدارس، شاهدتُ رجلا بملامح عراقية واقفا مثل تمثال رخامي! وعيناه مشدودتان نحو الفراغ، وذهنهُ شاردا كأنهُ في رحلة تأملية روحانية، او انّ هموم العالم كلها منفية في رأسه!،

لم اتوقف عند الرجل، وانما عبرت الى الجانب الآخر، وقريبا من خشبة المسرح رأيتُ امرأة، يبدو انها في العقد الخامس من عمرها، لكنها (سبحان الذي سوّاها)!!، جسدٌ ناعم وعجيب يحملُ في خفاياه صورا جديدة للكون!، ووجهٌ فاتن بعينين غزاليتين في اعماقهما دموعٌ صامتة، وتلبسُ فستانا مطرزا بالدانتيل الابيض وبمقاساة ضيقة لم أرَ شبيها لهُ إلاّ عند نساء المجتمع المخملي!.

مالذي جاء بها الى هذه الجزر التائهة في المحيطات؟!، لماذا كلّ الطيور الجميلة هاجرت اعشاشها؟، ماذا نفعلُ في هذه البلدان التي لاتربطنا بها سوى بضع كلمات نستخدمها عند الحاجة!؟.

وتداعت اسئلة كثيرة، بينما اولئك الذين يحتلون الكراسي الامامية وتفوح من اجسادهم الضخمة رائحة النفط، ينظرون لنا من قمة اللامبالاة، ويعتبرون العراق مجرد بقرة يحلبها الكبار!، فهم لايبالون بمدن الغبار المحاطة بأحزمة الجوع والتي مازالت تعاني من شدة آلام سياط الأستبداد على ظهرها!.

انهم، ايتها الحسناء، مشغولون بمؤتمرات الولائم والثرثرة وتبادل النكت!، واحيانا يذهبُ بعضهم لجمع الحطب بينما البعض الآخر يمسكُ بعود الثقاب!.

هؤلاء لايشاهدون الروبورتاجات التلفزيونية لحياة ارامل الحروب التي تدمع لها العيون، ولايعيشون الأيام المظلمة التي تأكل العمر، ولايعنيهم الصيّادون الذين يقفون على نهرٍ خالٍ من الماء!، ولم ترمش لهم عين حتى لو ان البلاد كلها اختفت وراء الشمس!.

لذلك انتِ هنا، في هذه المواسم العفوية والضجيج الأخضر، على ظهر سفينة حتفنا المشترك!، وبعيدة عن الوجوه والبيوت ذات الملامح الشبحية!..

بدأتْ الموسيقى ناعمة كخرير النافورات في الحدائق، وبدأتْ الاجساد تتمايلُ وتعزف، وكلُّ شيء بدا مبللا بالمطر ويجلبُ الرغبةَ والفرح.. لكن جمال القناديل المعلقة على خذّي المرأةِ، كان يسحبني من أنفي اليها، وسحر العينين يطيحُ تدريجيا بكبريائي وسلطة التقاليد!، فتركتُ المشهد الذي يأخذ البصر واقتربتُ منها بخطوات مرتجفة وقلبٍ ينبضُ كنبضات طفل صغير.. كنتُ وقحا بما يكفي لأن تكون نظراتي شديدة الوخز وكلماتي مكشوفة الأيحاء!:

انا شاعرٌ من العراق، أنامُ من دون احلام، وقصائدي دفنتها هناك، ولم يبق في جيوبي غير عَرَق الكلمات والعراء الموحش،

انا ميتٌ، جثتي تراكمتْ عليها الثلوج، وفي عينيكِ رأيتُ دفئا لم اشعر به إلاّ في لمسات اصابع أمي حين كنتُ صغيرا!،

اندهشتْ المرأة.. تراجعتْ خطوة.. تفجَّر الحياءُ أحمراً في وجنتيها.. ابتسمتْ الجميلة.. إنها الآن صديقتي!.

free web counter