مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                                    الخميس 28/6/ 2012

 

سحب الثقة!!

مزهر بن مدلول

بينما كنت اقرأ عن حياة الشاعر الجميل اوسكار وايلد، حيث تحولت الشهرة عنده الى مرض ادى به ان يفقد السيطرة على نفسه في الجري وراء ملذاته حتى انتهى الى الفضيحة البشعة التي اوقعته بالوحل وادخلته السجن، لقد سحب الناس (الثقة) من وايلد وادانوا سلوكه وغروره، ولكن في السجن أُتيحت للشاعر فرصة لمراجعة افكاره، فحاكم نفسه على ذلك محاكمة اقسى من محاكمة الناس له، وادان تصرفاته ادانة كاملة، حتى اودى العذاب النفسي الرهيب بحياته بعد سنوات قليلة،

بينما كنت اقرأ عن الشاعر، مرّ في خاطري صديقي الفقيد جواد الازرقي، ذلك الشاب الذي يتأبط الشعر دائما، وتنطلق من فمه القهقهات كالفراشات، لم يجد له ملاذا دافئا ولا عزاءا ادبيا في مدينة الناصرية!، فقرر ان يسحب (الثقة)! من حياته وينتقل الى العالم الاخر، وكلما تذكرته اشعر وكأني امام قصة المتشرد (كانوفالوف) الذي قرر الانتحار وهو يصرخ (ليس في داخلي شيء اتشبث به).

ومرّتْ ايضا الكثير من عمليات سحب (الثقة)، التي حدثت لاسباب مختلفة ولا تشبه بعضها، ففتاة ديستوفسكي الجامعية والسمراء الجذابة التي تتكلم بصوت خفيض وهادئ، فقدتْ (ثقتها) بمبادئ الصدق والاخلاص عندما تركها حبيبها، فتحولت الى فتاة فوضوية غير مسؤولة عن شيء، وفقد وجهها جاذبيته وعاشت على حافة الانهيار العصبي.

تذكرت وانا اقرأ، القرى الخضراء عندما كانت تنام بسلام وهدوء وتسهر بفرح على ضوء الفانوس، كان ذلك قبل ان يطعنها الطاغية بخنجر العوز والحرمان، وقبل ان تخلع ابوابها احذية مرتزقة النظام الصدامي وتبدأ رحلة الفوبيا والالام والتشرد للانسان العراقي، حيث تذكرت الفلاح الأمي (صالح) الذي اعتدى في لحظة غضب بالشتائم على جارته، فعاقبه اهل القرية بسحب (الثقة)!، ولأنّ هذا الرجل مفرط بكبريائه، قرر ان يعطي كلّ ماشيته ومحصوله من الارض من اجل استعادة (الثقة) به من اهل قريته!.

لقد كانت (الثقة) في ذلك الزمان احد ابرز عوامل الطمأنينة التي تسود بين افراد العائلة الواحدة وبين ابناء الحي الواحد والمدينة الواحدة، وكان فقدان (الثقة) بأحد الناس هو بمثابة (قدم اخيل) التي اسقطته السقطة المدوية ولم ينهض منها ابدا!.

وبالرغم من ان الاحداث غير المألوفة تكون عادة صغيرة وبسيطة في ذلك الحين، لكن التصدي لها في اغلب الاحوال يكون قاسيا وصعبا ولا يتحمله انسان يشعر بالكرامة والكبرياء، حتى اصبحت الاخلاق السوية تساهم بشكل كبير وفعال في تنظيم (الدورة النفسية) للمجتمع برمته.

ولكن بعد ان اشعل النظام المقبور الحريق الهائل في ارض البلاد كلها، ذلك الحريق الذي لم يترك غير الرماد، ظهرت علاقات اجتماعية جديدة لها نظام خاص وثقافة خاصة، هذه الثقافة المفلسة روحيا والخالية من موهبة الصدق وحب الانسان، هي ثقافة الاستسلام لنزوة القائد والتضحية من اجله مهما كان الثمن، وهذه هي محنة من المحن الكبرى التي يواجهها الانسان العراقي في الوقت الحاضر.

ومن المفارقات المدهشة، ومن مكر التاريخ، ان نرى المجرم وهو في زنزانة الاعدام يعطينا دروسا بالاخلاق والدين وحب الوطن، بينما كان العراقيون ينتظرون من هؤلاء بعد كل قطرة دم تسيل ان يتراجعوا وان يسحبوا (الثقة) من انفسهم اولا! ويعلنوا عن بشاعتهم وبطشهم وما صنعوه من خراب بالوطن والمواطن.

اما اليوم وبعد ان ذهب ذلك النظام الذي استبدل ازهار الربيع باوراق الخريف الصفراء، وجلب الجفاف الى حياة العراقيين، وحلتْ في زمنه الويلات والمصائب في البلاد، ذهب الى قبره وانتهى الى الابد، تمنى العراقيون ان تكون حياتهم افضل في بلد جميل يساهمون في بناءه من جديد، بلد يحترم تضحيات ابناءه ويقدر معاناتهم، فهبوا لكي يمنحوا (الثقة) ويخرجوا لهم حكومة من صناديق الاقتراع!، ولكنهم اكتشفوا بأن ذلك مجرد حلم وانهم لم يحصلوا من الذين انتخبوهم الاّ على (جزاء سنمّار)!، وكأنّ هذا هو قدرهم المحتوم الذي لا مناص منه مهما نزفوا من دماء.

ومنذ عام 2003 والناس تتحدث عن سحب (الثقة)!، ليس من رئيس كتلة او من حزب سياسي او شخص متنفذ بعينه، وانما سحب (الثقة) من الأسس التي على اساسها قام نظامنا السياسي الفاسد، وسحب (الثقة) عن كل الذي انتجه هذا النظام من تمزيق لنسيج المجتمع ومن تغييب لعقل المواطن ومن سخرية بحاجة الانسان الى مستلزمات الحياة اللائقة به، هكذا هو الخروج من المأزق، هو اعلان سحب (الثقة) من ماضٍ كله دماء وبدء عملية سياسية جديدة تفصل الدين عن الدولة والمذهب عن الحزب والانتماء الديني والقومي عن المسؤولية وتجعل المعيار الاساسي هو الانتماء للوطن، وان السيد في الارض هو الانسان اولا واخيرا.

 

 

free web counter