مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الأثنين 25/2/ 2013

 

الدليل، تجربة ومعاناة!
(
14)

مزهر بن مدلول

في المكان الذي لا يبعد سوى بضع عشرات من الامتار عن مخفر الشرطة، توقفت السيارة عن العمل، فرحنا انا والدليل (علوان) نبحث عن العطب الذي اصاب محركها فجأة، ولأننا لا نفهم شيئا بتلك المهنة اضعنا الكثير من الوقت فشعرت بوجودنا الشرطة وهاجمتنا دورياتهم!.

دفعونا على جدار السيارة وطلبوا منّا ان نقف على رجل واحدة كما يقف طائر (اللقلق)! وأيدينا مرفوعة الى الاعلى! ثم قام بعضهم بتفتيش جيوبنا بينما البعض الآخر راح يفتش داخل السيارة وتحتها وفي بطن انابيبها، لكنهم ولحسن حظنا لم يعثروا على نقود ولا على مواد مهربة!، ولما سألونا عن وجهتنا وغايتنا وماهو (اصلنا وفصلنا) قلنّا لهم بأننا (بدو) فقدنا عددا من إبلنا التي تاهت عن القطيع فخرجنا نبحث عنها!.

لم يصدقوا روايتنا في بداية الأمر، لذلك تركوا السيارة في مكانها واخذونا أسيرين الى المخفر، لم اكُ خائفا هذه المرة فقد صار الأمر مألوفا بالنسبة لي!، وانَّ الخطر الذي اواجهه مع الشرطة ليس اقل من الخطر الذي سيواجهني في الصحراء، وفي كل الاحوال فأني فقدتُّ براميلاً من العرق والكرامة دون ان اصل الى شيء!.

في داخل المخفر بدأت الأسئلة ذات المقاصد الخبيثة!، سألونا عن عدد الأبل الضائعة وعن الوشم الذي يميزها عن غيرها وعن الاتجاه الذي سلكتهُ، وغير ذلك من الاسئلة الكثيرة، وكان (علوان) بوجهه الأسمر وحركاته الأبليسية وعينيه الصافيتين كعيني ديك! يجيب على الاسئلة حسب خبرته ومعرفته بالمنطقة وكلما استعصى عليه سؤال يقسمُ لهم (بعائشة والزبير ابن العوام)! بأننا (بدو) من قبيلة (بني عبسٍ)! وأنا ارفع قبضتي متحمساً في تأييد كلامه وكلما نطق (ببني عبسٍ) اردّدُ وراءهُ (والرماح نواهلُ)!! وفي صدري حبست ضحكة لو اطلقت سراحها لانكشف السرّ (ورحنا في داهية).

دار بيننا وبينهم جدل كالجدل الذي تركنا نمجّد التراب والاطلال بينما الانسان لا ظلّ له ولا بيت ولاغطاء!، وفي اخر المطاف اقتنعوا بحجتنا ورافقونا الى السيارة وساعدونا في اصلاح العطل وتشغيل المحرك فهربنا بعيدا عنهم وسلكنا الطريق الذي يؤدي الى قبيلة (النبي صالح)!.

دخلنا في منطقة مليئة بالكثبان الرملية، وليس فيها ايّ اثر يمكن أن نقتفيه، كنّا مرةً نضيع ومرةً يصرخ (علوان) بأنهُ يعرف الاتجاه، و(بألف ياعلي) تجاوزنا ذلك المكان قبل ان تبتلعنا رماله المتحركة.

قطعنا مسافة غير قليلة لنصل في آخر النهار الى (ديار ثمود)!، بيت من الشَعَر، تسكن في داخله عائلة تتأهب للرحيل وتتألف من رجل وزوجته وشقيقه وابناءه الصغار ومعهم ايضا امهم العجوز التي تتكلم مع نفسها طوال الليل وتلفُّ على رأسها عمامة كبيرة تشبه (عمامة المتنبي)!.

استقبلونا بالخبز و(الزهدي) وحليب الناقة، وفي الصباح عانقني (علوان) بعد ان تهامس مع صاحب الدار بشيءٍ (ما) وتركني عائدا الى البصرة، وفي ذات الوقت بدأتْ عائلة (راعي الأبل) بجمع حاجاتها وطوي بيت الشَعَر لكي تنتقل الى مكان اخر، وهكذا كنّا على ظهور (الجمال) نهارا ونحط الرحال مساءا، وخلال هذه الرحلة البدوية التي استمرت اربعة ايام  تعلمت انغام (الحدي) لكي اطرب مسامع هذا الحيوان العجيب الذي لا يعطش!.

مررنا ضحىً بالقرب من (مزرعة كويتية) فطلبوا مني ان اتركهم واذهب الى المزرعة لأتدبر اموري من هناك!، نزلت من على ظهر (الجمل) بينما القافلة واصلت طريقها حتى اختلطت مع السراب واختفت.

صاحب هذه المزرعة شرطي من حرس الحدود! اسمه (ابراهيم)، يسكن هو ايضا وعائلته في بيت من الشَعَر، حينما اخبرني بهويته صرتُ اضربُ اخماساً بأسداس!، لكنه فيما بعد صار صديقي ووعدني بأن يأخذني الى الكويت.

لم امكث في هذا المكان الاّ بضعة ايام وكنتُ خلال ساعات النهار اعمل في المزرعة وبالتحديد في  حش (الكرّاث)، و(الكرّاث) اشد حرارة من (البصل)، انه يسبب حساسية في العيون ويجعلها تدمع وتحمر!، لكنها بالتأكيد لا تشبه الحساسية التي سبّبها غاز الخردل عندما استخدمه (البعثيون) ضدنا ذات ليلة!.

في صباح احد الايام جاء (ابراهيم) من عمله وطلب مني ان استعد للسفر ظهرا فغمرني فرح عارم مصحوبا ببعض القلق والتوتر، لكن (ابراهيم) لم يمنحني فرصة للتأمل والتفكير أو الاختيار، لقد جاء في الموعد المحدد وفتح غطاء المحرك وقال لي (إصعد)!، وعندما نظرت الى ذلك الثقب الصغير الذي اعدّهُ لتهريبي اندهشتُ واصابتني رجفة ارتباك وخوف وتردد، فمن غير المعقول أن أنام مع المحرك لمدة ساعة ونصف الساعة، كيف اقذف بنفسي وسط النار لكي انجو من الموت!، لكن (ابراهيم) ساعدني في أن أجد لرأسي وجسدي مكانا مناسبا، وكان عليَّ ايضا أن ادخل ركبتيَّ ببطني وإن احذر من مروحة المحرك التي لا تبعد عن اقدامي سوى سنتمترا واحدا، وانّها كما قال: سوف تقطع اصابعي اذا ما تحركت!.

عندما دار المحرك، كأنهُ دارَ داخل جمجمتي!، وعندما انطلقت السيارة بدأت الأنابيب تشتعل، وبعد ان قطعنا شوطا من المسافة شعرتُ بأنّ اللهيب وصل الى رأسي فمسكته بكفيَّ لأحميه من النار!، هذه اذن جهنم (يوم لا ينفع فيها مالٌ ولا نساء)!، حقيقة ساطعة جعلتني أنسى كلّ شيء ماعدا أن افكر بالمصير الاسود الذي سيحيلني الى مجرد حفنة من رماد داخل (الماطور)!، ساعة ونصف الساعة تقريبا كانت من اقسى الساعات تعذيبا  في حياتي، لقد انكويت بنار (البعث، تلك التي لا ترحم) فاحذروا عودتها من جديد!.

في مكانٍ لا تراه العيون من مدينة (الجهراء) اول مدينة كويتية من جهة العراق توقف ابراهيم وفتح لي غطاء المحرك وقال انزل لقد وصلت الى الكويت، لم اصدق ذلك، كانت مثل الحلم.. مثل المعجزة.. مثل الخرافة.. وكنتُ اتحسس جسدي لأتاكد من سلامته!، فعانقت ابراهيم عناقاً مملوءاً بالأمتنان والعرفان والنجاة، ودعتهُ وذهبتُ في سبيلي ابحثُ عن (الدليل) الذي يرشدني الى طريق اللؤلؤِ والمحارِ والردى!!.. (وأصيحُ بالخليج، يا خليج.. يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى).


 

 

 

free web counter