مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    السبت 23/3/ 2013

 

الدليل، تجربة ومعاناة!
(
15)

مزهر بن مدلول

المتعة كلها سيجارة، وقدح شاي عراقي، وذاكرة ينبعُ منها الماء الزلال بغزارة!. وبالرغم من انّ امرأة جميلة تنتظرني في الجانب الآخر من الشاشة الأليكترونية ومتأهبة لمغازلتي، لكني تجاهلتها، ففي هذه الساعة كنتُ شغوفا بمشاهدة ألعاب التزحلق من القمة الى الحضيض!.

ذاكرتي صالة عرض سينمائي، مزودة بأحدث وسائل الراحة، بما فيها قسمٌ يعتني بأولئك المشوّهين والمتسلقين! الذين يرغبون بعرض عاهاتهم النفسية، وفيها ايضا مطعمٌ يقدم وجبات طعام لذيذة وشهية على مائدة نظيفة!، وتحتوي على مكتبة تغنيك عن مشاهدة الدراما التلفزيونية العربية والتركية!.

كلّ ذلك عندي، ولكن المشكلة التي تواجهني دائما هي في اللغة، وكما يقولون بقليل من المزحة (بأننا لا نكتب بالافكار وانما نكتب باللغة)، فأني مهما حاولت تطويع اللغة لكي اضعها في السياق الذي يوازي الوجع الذي سببتهُ الاحداث المؤلمة في ذلك الزمن، اجدها وكأنها سقطت من اعلى طابقٍ فتكسرت جملها وتمزقت حروفها، مما يجعلني مصابا بالشلل وليس قادرا حتى على اختيار المجازات المسموح بها!، ولذلك اطلب المغفرة في ما لو انّ خيالي لم يلتقط الصورة الفنية المدهشة التي من المفروض ان يتدفق من خطوطها المخزون العاطفي والنفسي الذي افرزتهُ تلك المشاهد التي جعلت الابتسامة لايظهر فيها غير الألم!.

سأبدأ الآن بكتابة جزء من القصة، وهي قصة إمرأة ورجل ضاعا في غابة من الهواجس بعد ان دقت طبول ونواقيس الحبّ في صدريهما، هي قصة غرام طويلة وسنوات من العشق الصوفي تبعثرت بلاهوادة!.
قصة الحزن والكآبة والشعور الملتبس من قمة التفاؤل، هي قصة الموت (بالخردل او بالسيانيد او بالثاليوم)، كما هي قصة الانفصال القسري بين الجسد والروح!.

ابطال القصة يشبهون شخصيات (افلام الويسترن)!، فزّاعة طيور!، دوخة في الرأس، عقدة في اللسان، رغبات موروثة في شنق المستحيل الشرس، ونوايا طيبة لنزع الاسلحة من الخصوم!.

القصة :
في يوم صيفي من عام 1982، تحركت مفرزتنا من (القامشلي)، وقريبا من الحدود مع (تركيا) توقفنا لنستمع الى بعض التوجيهات الخاصة بالتعامل مع الحياة الجبلية، طريقة المشي، تركيز الحواس، وكيفية مواجهة الخطر في حال وقوعه.. الخ.

انتظرنا حتى اختلط الظلام، ثم انحدرنا في الوادي باتجاه النهر وكان عددنا يزيد عن العشرين نصيرا ويقودنا رجل ابكم (الدليل) وهو من اكراد تركيا!.

الآن وبعد فوات الآوان، اردّدُ السؤال: كيف استسلمنا لرجل (اخرس) يقودنا في طرق وعرة وخطرة وفي ظلام دامس؟!. ولكن لايهم فأنّ ذلك كان شيء بسيط من عبث الحياة وعبث الذين يكبروننا بالحماقات!.

وصلنا الى نهر (دجلة)، ترافقنا مجموعة من الرفاق الذين يعملون في (القامشلي) لكي يساعدوننا في العبور ويطمأنوا على سلامتنا ثم يعودون ادراجهم. انتشرنا على الجرف بأنتظار بعض العارفين الذين راحوا يهيأون (الجوب) وسيلتنا في العبور الى الضفة الاخرى.

كنا مسرورين فوق ظهر (السفينة)!، ورغم العتمة الشديدة فأنّنا نحس بالفرح الذي يغمر كلّ واحد منّا، لأن الفرصة التي انتظرناها منذ اشهر هاهي قد وصلت واخبار الانتصارات التي تأتي من الجبل لها رنين يغري في الالتحاق حتى لوكان زحفا على الاقدام.

عبرنا النهر، وعلى جانبه الآخر رتبّنا مسيرتنا من جديد، ثم تحركنا من الجرف الى الارض المنبسطة، فدخلنا مباشرة في منطقة كثيفة بالادغال والاحراش اليابسة، وبعد ان قطعنا في وسطها امتارا قليلة سمعنا صوت الرصاصة الاولى، كانت الاشارة والأيذان ببدأ الهجوم!.

لقد وقعنا في كمين محكم وعجيب، وليس في المكان ضريحا لنبيٍّ او لأحد الأولياء الصالحين لكي نحتمي فيه!.. هذه هي بلاد الاندلس، وطارق بن زياد في المقدمة يصرخ: (البحر من ورائكم والعدو من امامكم).

انبطحنا على الارض، التصقتْ اجسادنا بالتراب، انهمر علينا الرصاص كما المطر، شبّت النار في الحشيش اليابس، فضاع (الدليل) الاخرس، وتسرب الفرح واختلط الحلمُ بالجثث!.

تراجعنا الى الجرف دون تنسيق، والعدو يطوقنا كحدوة حصان، وليس امامنا سوى الانسحاب فورا، كان الارتباك سيد الموقف، والمسؤول السياسي للمفرزة لم نعثر عليه ولا ندري عن مصيره شيئا، ومن حسن حضنا فقد كان جرف النهر في تلك النقطة يغطي رؤوسنا ويحميها من الرصاص والاّ لهلكنا جميعا!.

في هذه اللحظة ودون تفكير ولا صفنة تأمل، قادتني ارادتي لأن اكون مسؤولا، فأتخذتُ قرارا بالهزيمة!، صعد الانصار جميعهم فوق ظهر (الزورق)، اما انا فقد خلعتُ ملابسي ودخلتُ في الماء لكي ادفع (الجوب)، كانت مهمة شاقة، لم اكُ اعرف بأن دجلة بهذا العمق وهذا العرض، لقد خدعتني الظلمة، وكنتُ ادفعُ بيد واعومُ بيدي الاخرى، وحالما وصلنا الى منتصف النهر، حتى شعرتُ بأني اختنق وأن جسدي يأبى أن يطفو فوق الماء، ولكي لااغرق ولانموت جميعنا، كنتُ اتوقفُ عن الدفع واتشبثُ (بالجوب) لكي التقط انفاسي، ثم اواصل السباحة من جديد، وكلما توقفتُ عن الدفع اسمعُ الرفاق يتهامسون بأنّ (الجوب) لا يتحرك، وهم لا يعلمون بحالة الارهاق المأساوية التي وصلتُ اليها.

عندما عبرنا الى الجهة الثانية، جاءت لنجدتنا المجموعة التي ودعتنا، واكتشفنا حين ذاك بأنّ ثلاثة من افراد مفرزتنا مفقودين، كان احد الانصار مازال في مكانه ولا يعلم بأنسحابنا، والدليل (الاخرس) لم يتوقف، وانما اقتحم الكمين وهو يقاتل حتى استشهد هناك، اما الثالث وهو النصير (ابو هبة) فقد اخترقت رصاصة ذراعه ودخلت تحت فكه الاسفل وخرجت من الجهة الاخرى لوجههِ.

انسحبت المفرزة، بينما تأخرتُ كثيرا في ارتداء ملابسي، ولما كنتُ جاهزا للحركة لم اجد احدا من الرفاق الاّ الرفيق (عباس سميسم) كان ينتظرني، ولأني مازلت اشعرُ بالتعب بسبب الجهد الذي انفقتهُ في النهر، اقترحت على الرفيق (عباس) أن لا نسلك طريق الوادي الطويل الذي سلكته المفرزة، وانما نصعد الجبل لكي نختصر المسافة!.

اتفقنا على ذلك وبدأنا بالصعود، كان الجبل اجردا وشديد الانحدار ومليئا بالصخور، وعندما قطعنا جزءا من المسافة، وجدنا انفسنا فجأة وكأنّ الشمس ظهرت هناك!، لقد رأونا، فسلطوا على القطع الجبلي (البروجكترات الضوئية) وراحوا يقصفوننا بكلّ انواع الرصاص والقذائف، مدرعات ودبابات ودوشكات وبي كي سيات واسلحة اخرى امريكية الصنع وبدوية الاستخدام!، كلّ هذا لأنّ (عباس وانا) صعدنا من هذا المكان المحضور!.

كانت (حالتنا حالة)!، نقفز من صخرة الى صخرة، وعندما وصلنا قال لي عباس صادقا: (ابو هادي ما طول ما متنا بهذا الكمين لن نموت بعد ذلك)!، في اليوم الثاني، كنّا نبحثُ عن (الدليل) الحي الذي يرشدنا الى الطريق الصحيح ولا يموت قبلنا!.

 


 

 

 

free web counter