مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الخميس 20/12/ 2012

 

الدليل، تجربة ومعاناة!
(8)

مزهر بن مدلول

رفعتُ رأسي فوق الساقية، فأطلّتْ الصحراء برأسها الأصلع ومدّتْ لسانها هازئةً بي وكأنيّ أنا الذي منعتُ عنها تساقط الثلج!، كان ذلك النهار طويلا وحارا امتزج قيضهُ ببرودة أمنياتي التي يبدو أنها لا تتحقق بسهولة رغم أني كنتُ اول الهاربين من بين اصدقائي الذين تركتهم يرفعون نخب الوطن في البارات الليلية!.

في ذلك النهار الملتهب، تذكرتُ طفولتي التي نشأتْ بمنأى عن الحنان والهدايا و(الكيت كات)!، وتذكرتُ كيف كنت اخوض في الأوحال وأنا ذاهب الى صفوف الطين الباردة حيث تنتظرني (فلقة) المعلم وسخرية التلاميذ!، وتذكرت ايضا جميع الوجوه التي لم افكر يوما بأنيّ لا أراها مرة اخرى.

قبل ان يختفي آخر خيوط النهار، جاء ناحيتي صاحب المزرعة العراقية وحدّد لي الاتجاه الذي يجب أن أسلكهُ لأصل الى أول مكان أخضر في الصحراء الكويتية، قال لي انّ المسافة تستغرق ساعة كاملة جرياً من دون توقف، وانّ المنطقة ليست آمنة بسبب الكمائن التي تضعها شرطة حدود البلدين.

حفظتُ الاتجاه، وما ان ساد الليل حتى تحسستُ قدميَّ ووضعتُ في (جيب دشداشتي نعلي الاسفنج) وانطلقتُ كغزالٍ مهزوم.. ركضتُ وسط كثافة مرعبة من الظلام.. كنتُ اتعثر.. كنتُ اتبعثر.. اغوص في الرمال تارة، وانهضُ واواصل الركض تارة اخرى، حتى قطعت المسافة بأقل من ساعة ووصلت الى برِّ الآمان!!.

استقبلني المزارعون بحفاوة ريفية، ووضعوا أمامي كل التعليمات المهمة التي عليَّ ان اتبعها لكي اتجنب المداهمات المفاجأة لشرطة الحدود، فأنا أفتقد الى شرعية وجودي هنا، بينما وجود العمال الاخرين لاغبار عليه، لأنهم عندما يعبرون الحدود يذهبون الى (مخفر الشرطة الكويتية) القريب ويسجلون اسماءهم ويتركون وثقائهم في (المخفر) الذي يحدّد لهم شروط البقاء باعتبارهم يعملون كمزارعين فقط ولا يحق لهم مغادرة حدود دائرة العمل الاّ في حالة عودتهم الى بلادهم، وكلّ ذلك يتم بكفالة مسؤول المزرعة الذي يطلقون عليه لقب (الوكيل) وهو عراقي ايضا.

لا يحق للمزارعين هنا التداول بالعملة الكويتية، ولا يحق لهم الاحتفاظ بها، وجميعهم يتقاضون اجورهم بالدينار العراقي حيث يحصل العامل على ستين دينار شهريا، وهذا المبلغ ضئيل جدا لناس يعيشون وسط مخاطر الصحراء.

عشتُ في هذه المزرعة ما يقرب من الشهرين، وخلال هذه الفترة توطدت علاقاتي مع هؤلاء الشباب الذين ينحدرون كلهم من الارياف المنسية لمدينتي البصرة والناصرية، انهم من ابناء جيلي، ذلك الجيل الذي سار نحو الخيبات والانكسارات بكلِّ طأطأة رأس!.

كنتُ منسجما تماما مع ما تنطق به وجوههم ومستمعا لنبضات قلوبهم وشاعرا بذبول اجسادهم التي تدلُّ على انها نمتْ بكالسيوم (المصموطة) وفيتامينات (طابكَ الدخن)!، وبسبب هذه العلاقة الطيبة استجابوا الى ندائي عندما طلبتُ منهم مواجهة صاحب المزرعة بالأضراب عن العمل أو رفع الأجور، ويا ليتني لم افعل!.

فعندما جاء صاحب المزرعة الكويتي والذي ينادونه ب(الشيخ) وهو يأتي للنزهة في ايام الجمعة فقط ووجد العمال يستقبلونه باللامبالاة ويطالبونه برفع اجورهم الشهرية قبل ان يعودوا الى العمل، هزَّ رأسهُ ساخرا وقرر طرد الجميع من مزرعته، ثم ركب سيارته وأدبر غير مكترثٍ!.

كان زملائي في الصحراء يضحكون وكأنهم ينتظرون قرار طردهم لكي يعودوا الى اهلهم وحياتهم الأليفة، لقد امضى اغلبهم في هذا المكان ما يزيد عن السنة، فراحوا يحزمون امتعتهم ويعدّون غلّتهم بأنتظار فجر اليوم الثاني لكي يتركوا المكان.

اما انا (فعلى نفسها جنت براقش)، وماذا عليّ ان افعل؟!.. دار حولي اصحابي وقدموا لي الكثير من المقترحات والنصائح، فكان اسهلها ان امشي تسع ساعات لأصل الى مزرعة اخرى في عمق الصحراء.

قبل الفجر في اليوم الثاني وبينما ذهب العمال بأتجاه الوطن، ذهبتُ في الأتجاه المعاكس لهُ، ومع أني محظوظ في ان أنجو من الموت دائما، لكني لست على يقين بأني قادر على تحقيق احلامي، ولذلك كنتُ خائفا من ان تعثر عليّ دوريات شرطة الحدود الكويتية.

مشيتُ ما لا يقل عن تسع ساعات، كانت ساعات طويلة تمنيت خلالها لو كان لي خفي جمل لكي تقياني حرارة الرمال وتخففان عني الجهد الذي ابذله اثناء المشي فوقها، ولمّا وصلت، كان جسدي خائرا وحنجرتي يابسة ولا اقوى على الكلام من شدة العطش.

وصلت الى المزرعة الجديدة (القبر الكبير) الذي اندفنت فيه!، عالم مستبد انتزع مني جميع احلامي الرومانسية وتركني جسدا بلا روح!..

في هذا المكان فقدتُّ البوصلة، تهتُ في السراب، تآلفتُ مع الجنّ والليلِ والاشباح.. تكلمتُ مع الذئاب المتوحشة، وتحسستُ انين الثعالب الجائعة، ولعبتُ في النهار مع العناكب والعقارب والثعابين!.

في هذا المكان، كنتُ انتظر رحمة الرحمن (الدليل) الذي ينتشلني من هذا الجحيم العجيب الذي سأحكيه لكم في الايام القادمة!.

 

 

 

 

free web counter