مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الخميس 15/11/ 2012

 

الدليل، تجربة ومعاناة!
(3)

مزهر بن مدلول

لو قدر للزمن ان يعود، فأني سأختار تجربتي في الحياة بكلّ حذافيرها!، بجمالها وقبحها، بهزائمها الجسدية وعذابها الروحي، بعثراتها وانتصاراتها المعنوية، وبكلِّ مافيها من دماء وفقدان وقسوة تسحق القلب!.

سوف لن اضيف لها شيئا جديدا، ولن اسلك طريقا لايؤدي إليها، لأني اشعر لو فعلت ذلك بأنها ستفقد روحها ومعانيها العفوية!، وتجعلني خاويا من الداخل وكأني ليس الذي تعلم الأبجدية على ضوء الفوانيس، ولا الذي أكل في البيوت التي تطبخ الأكلات عسيرة الهضم!، لذلك اراني متمسكا بها كما لو انها حديقتي الوحيدة التي اتنزهُ فيها كلّ يوم، هذه الحديقة التي لو حاول احدٌ! ان يقتحم سورها سوف تعضهُ الكلاب وتلدغهُ (الزنابير)!.

قبل ان اصل الى جسر (الهولندي) الذي تقع عليه سيطرة الناصرية الاولى، طلبت من السائق ان يتوقف لأنزل، ومن ذلك المكان وفي منتصف النهار، دخلتُ في ادغال طفولتي، عدتُّ الى العالم الذي يسكن في الطابق الاسفل من هذه البلاد!، وكنتُ مجردا من دروع الحماية الاّ من جسدٍ متداعٍ وابتسامةٍ ودودة!.

سلكتُ دروبا مليئة بالاشواك والاحجار والافاعي!، ابتعدتُ عن الطرق الترابية الخاصة بالعربات، وتجنبت المرور بالقرى المتناثرة في المنطقة، واشحت بوجهي عن المزارعين والبدو والرعاة الذين صادفوني في الطريق، مشيت حتى وصلت الى المكان الأليف، ذلك المكان الذي ظلّ بترابه وسواقيه ونخيله ولياليه وفتياته القرويات اللواتي عشقتهن! ساكنا في رأسي وروحي.

أنا الآن ليس بحاجة الى احد يهديني الى قريتنا  (البيضان) الواقعة بمحاذاة (شط الكسر)، لأني اعرف الشعاب جيدا، اعرفها منذ ان كنتُ صغيرا مشاكسا اركض خلف سيارة الخشب يوميا لأتسابق معها منذ لحظة دخولها الى القرية حتى محطتها الاخيرة، ولم اترك هذه اللعبة الى ان رأيت عجلاتها تهرس جثمان العاشق الجميل واطول رجل في قريتنا المرحوم (ثجيل)!.

من مسافة قريبة تأملتُ (بيادر الحنطة) وبستان اهلي والبيوت المتلاصقة، كانت الساعة قبل الغسق، وهذا الوقت بخطوطه وظلاله الملونة ايقظ ذاكرتي، فطافتْ بها الايام والوجوه واهازيج ذلك الزمن الجميل الذي سبق زمن (الخوازيق) وتعليق الرؤوس على اسوار المدن!.

تسللتُ بحذر شديد الى القرية وعبرتُ ساقية البستان، جلستُ قليلا تحت شجرة التوت، كانت حزينة واغصانها شاخت، ولمّا رأتني بدتْ مثل أمرأة تخشى ان تبتسم لكي لاتظهر تجاعيد وجهها!، همستُ لها بأيامنا التي مضت وذكرياتنا المشتركة، وسألتها عن العصافير والبلابل التي طالما أكلتْ من ثمارها!.

رأيتُ أبي يصعد على سطح المنزل ليقوم بتعليق (اللوكس)! على قمة عمود طويل، واللوكس جاء متاخرا إلينا بعد أن مللنا من الضوء الشاحب للفانوس و(اللاّلة)!، بينما ضوء (اللوكس) في هذا المكان العالي، يضئ القرية واطرافها ويحميها من غارات اللصوص الليلية.

من بين اشجار الليمون شممتُ رائحة أمي، ومسحتُ دمعة سقطت رغما عني، تخيلتُ ملامح وجهها وهي تشاهدني الآن، وتعاتبني بنظراتها الباكية على الجروح الكثيرة والآهات والحسرات التي تملأ صدرها بسبب فراق اولادها والموت الذي يلاحقهم!!؟.

رأيتها وقد جفت عيونها وتيبست شفاهها، كان حزنها اكبر من أن استطيع وصفه، ومهما كنتُ ضليعا فلا استطيع وصفه، اخذتني بصمت في حضنها وتمسكت بي وكأنها تريد أن تعيدني الى مهدها!، توسدتُ ذراعها في تلك الليلة ووضعتُ خدي على خدها ونمت، وفي الصباح الباكر وجدتُهم يبحثون عن العنوان (الدليل) الذي يحملني الى المكان الخالي من الماء، المكان الذي فيه اكلتني الذئاب!!.

 

 

 

free web counter