مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                                    الثلاثاء 14/2/ 2012

 

في ذلك المكان ذبلتْ الزهرة!

مزهر بن مدلول

تحية للشهيدة البطلة انسام
تحية للوردة التي نبتتْ على حجر

وجهها يضحك، وقلبها تفيض منه المحبة، جاءت من مدينة الحرية والتمرد، وكانت ام واخت ورفيقة للانصار جميعا، انها الشهيدة البطلة الموناليزا انسام .

عندما تحركت مفرزتنا من ( كَلي زيوة ) في نهار ذلك اليوم، كان لابد ان تكون ليلة استراحتنا الاولى في قرية (كاروكة)، فهي افضل المحطات للمفارز المتوجهة الى منطقة سوران، وهذه القرية بموقعها الجميل وطيبة اهلها قادرة ان تمنحنا ليلة دافئة ومريحة، لاسيما وان الطريق في اليوم التالي سيكون اطول واكثر وعورة .

وفي تلك الليلة التي نمنا فيها في قرية ( كاروكة )، رأيتُ وجه امي، رأيتها ترفع كفيها الى السماء وتدعو لي بالسلامة، وفي النهار الثاني كانت صورتها لا تفارق خيالي وفكرت بها من الصبح حتى وصلنا الى ( جة مجو )، و( جة مجو ) هذه تحتوي على سوق نصفه تجاري والنصف الاخر للتجسس، وهي مكان يلتقي فيه الاصدقاء والاعداء، وفيها تشم رائحة المخابرات قبل ان تشم رائحة الكباب الشهية، وكان المألوف هو ان نستريح ونأكل فيها، فأنّ بطوننا بدأت تأكل من لحمها، وان الطريق امامنا مازال طويلا، ولكن ورغم ان رائحة الكباب تعني الكثير بالنسبة للانصار، فأننا شعرنا بان التوقف في هذا المكان مغامرة تنطوي على مخاطر جسيمة، فتركنا ( جة مجو ) وتوجهنا نحو ( سيريا )، وهذه شاهقة، والطريق اليها مصفوفا بطريقة توحي بأن اصابع ماهرة رسمته، والمسافة اليها ثلاث ساعات كلها صعود، واهلها فقراء جدا حتى في المياه!

نمنا ليلتنا الثانية في ( سيريا )، وفي الصباح انحدرنا لنعبر نهر ( الشين ) او النهر الازرق، وهذا النهر بمياهه الزرقاء الصافية والمحن التي واجهتنا في عبوره، سيبقى في ذاكرة الانصار وسيدخل اسمه في صفحات تلك المحطة النضالية من تاريخ حركة انصار الحزب الشيوعي العراقي .

هذا النهار سيكون اكثر النهارات ارهاقا من حيث المسافة والزمن، فبعد ان نعبر ( الشين ) الذي يستغرق عبوره وقتا طويلا ونصعد القمة ثم نقطع المنطقة المهجورة، نحتاج الى نصف ذلك النهار حتى نكون قد وصلنا الى المكان الذي يقابل مباشرة سلسلة جبل شيرين .

هنا، وتحت اشجار العنب المثمرة، اخذنا قسطا من الراحة وفيها اكلنا وشربنا ما عندنا من الخبز والشاي، ومن ثم وبعد هذه الاستراحة القصيرة والضرورية، كان على المفرزة ان تسلك طريقاً اخراً وجديداً وغير معروف لاغلب الانصار، وهو غير الطريق المألوف الذي كان يقودنا الى قرية ( ادلبي )، التي اعتدنا ان تكون المحطة الاخيرة او ما قبلها في ( كَلي ره ش )، ولكن لان هذه القرية اصبحت تحت مرمى ورصد قوات النظام فلابد من ان نأخذ طريق السلسلة الجبلية التي تفصل الحدود مع تركيا، وهذه تستغرق النصف الثاني من النهار .
 
مشينا ما يقرب من السبع ساعات متواصلة في منطقة مليئة بالصخور حتى وصلنا الى ( زيتا )، وهذه مهجورة من اهلها، نصفها عراقي والاخر تركي، وهي من اخطر الأمكنة في المنطقة..

وصلنا بأقدام متورمة وبطون خاوية، مما اضطرنا ان ننام في ذلك المكان، علما بأن امامنا مسافة اربعة ساعات كلها خطرة، والخطورة من الجانبين، قوات النظام العراقي وقوات الجندرمة التركية، ولن نكون في مأمن حتى نتجاوز (عادل بك) ونعبر نهر ( ده شت براز كَرت ) .

في (زيتا) حيث نمنا لم نكن وحدنا، فقد جاءت الى القرية مفارز كثيرة تابعة لاحزاب وتجمعات القوى الاسلامية، وايضا كانت مجاميع من المهربين والقرويين العابرين الى المناطق الاخرى، ولم يكن لنا مع هؤلاء اي حديث او اي تنسيق من اي نوع حول الانطلاق في الحركة في اليوم التالي .

عندما استيقضتُ قبل الفجر، رايتُ بأنّ الجميع غادر المكان، ولم يبق فيه سوى مفرزتنا، انه امر يثير الريبة والتوجس ويجعلك ان تسأل اسئلة كثيرة!!،
كيف غادر هؤلاء جميعهم، ومتى اتفقوا على ذلك، وماهي الصلة والهدف الذي يربط بين السياسي المقاتل والمهرب ( القجقجي )!!

ومن خلال تجربتي هناك، ومعرفتي بزوايا الجبل، تيقنت من الكمين، اعرف ذلك، عرفته من حزن الحجر ووحشة الوادي ومن نوح الحمام، فأخبرت آمر المفرزة بشكوكي، ولكن النقاش الطويل في هكذا مواضيع لم تكن مستحسنة في ذلك الوقت .

تحركنا في الصباح وكان امامنا 45 دقيقة لكي نصعد الى القمة، ثم نسير فوقها لمدة نصف ساعة اخرى، عند ذلك سنصل الى الطرف الذي تقابله قمة اخرى، وهذه القمة هي التي افترضنا ان يكون الكمين فيها، فمن الناحية العسكرية لا يكون الكمين الاّ فيها .

في هذا المكان، اي في مؤخرة المفرزة تركنا نصيرين هما ( ابو حسين وابو جاسم )، وفي اليمين كان المرحوم النصير الشهم ( ابو اصطيف مع نصيرين اخرين )، وفي الاستطلاع، اي في مقدمة المفرزة كان ( النصير زياد والنصير خالد عرب )، اما انا فكنت امام المفرزة بمسافة لا تقل عن الخمسين مترا .

كان علينا ان نقطع المنطقة الخطرة بساعتين من الزمن، اعتبارا من هذه النقطة حتى عبور ( الروبار ) .

لم يطلق الكمين النار على مفرزتنا الاستطلاعية، وانما انتظروا حتى وصلت المفرزة اسفل القمة حيث نكون تحت مرمى بنادقهم مباشرة، وفي تلك اللحظة انطلقت في الهواء رصاصة الاشارة، وخلال ثواني انهمر علينا وابل من الرصاص وبالبنادق المتطورة والبعيدة المدى واصيب الكثير منا بجروح مختلفة، واستمرت المعركة معهم رغم جروحنا ورغم قذائف ال ار بي جي وطيران الهليكوبتر الذي اشترك فيها، استمرت المعركة من الساعات الاولى في الصباح حتى اختلط الظلام، ولكن الرصاصات الاولى كانت الاشد تأثيرا وعلى اثرها استشهدت المناضلة (انسام) .

وهكذا وفي المكان الغريب فقدنا اجمل لوحة سومرية.



أنسام هي الشهيدة ( موناليزا أمين ) كادر نسائي وعضو اللجنة التنفيذية لرابطة المرأة العراقية .
 

 

 

 

free web counter