مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الجمعة 14/12/ 2012

 

الدليل، تجربة ومعاناة!
(7)

مزهر بن مدلول

ب (دشداشة وانعال اسفنج) لاغير، صعدتُ في (الأمانة أُم اربعة وعشرين راكب)، كانت الشمس قبل الظهر تطبخ التراب!، ورائحة (كَاز العربات) تكتم الانفاس، والى جانبي قرب النافذة تركتُ مكاناً لأمراة جذابة، بدتْ حين دخلتْ الى الحافلة، هائجة الجسد وتنظرُ بعينين زانيتين!، فكنتُ اردّدُ معها:

 (طوِّل ياطريج السوكَ

ريت ادريولك يعثر

ريت التاير اليفتر

بيه الف بنجر

......................................)!.

لكن الطريق بين الناصرية والبصرة لم يكُ طويلا، لقد مرّتْ الساعة ونصف الساعة وكأنها بضع دقائق، وعندما نزلتْ المرأة في (كراج الزبير) وذهبتْ الى حيث تريد، شعرتُ بأول الخسارات في هذه الرحلة المشؤومة!.

من الزبير، وعلى صفيح حار لسيارة مكشوفة (الوانيت) كما يطلق عليها الكويتيون، جلستُ مع مجموعة من الناس اختفتْ ملامح وجوههم من وهج (السموم)، ولما انطلقت السيارة ووصلت بنا الى البرّ، بدأتْ تتوقف كثيرا في الطريق بسبب افتقارها الى الصيانة اللازمة!، حتى ان احد الركاب قبل ان نصل الى (صفوان) بقليل وبسبب الحرّ والتعب غاب عن الوعي، فظللناه بأجسادنا ورحنا نسكب الماء على رأسه وصدره حتى عادت له الروح، وهكذا بدتْ المغامرة الصحراوية بالنسبة لي من اولها مؤلمة وفاشلة!.

وصلنا الى (صفوان) اخر نقطة عراقية على الحدود مع دولة الكويت، وهي قرية صغيرة تعيش بمنأى عن الاشجار والماء!، وبيوتها عبارة عن غرف مبنية من الطين، يقطنها اولئك الذين يبحثون عن الخبز والشاي، كما يسكنُ فيها الضائعون والمهربون والمتجسسون على خطوِ الغريب!، وكلّ الذين يخططون للأحتيال على شرطة حماية حدود الدولة!.

وقفتُ لثوانٍ قليلة، اتأملُ قرَّ وفقرَ هذه البيوت التي لا اعرفُ احداً فيها، وبعد ذلك طرقتُ بقبضةٍ مترددة احد الابواب، وحليتُ ضيفا ثقيلا على عائلة كانت تضحك رغم انها تنام على الحصير، امضيتُ معهم ساعات الليل نتحدث عن السحر والشعوذة والخرافة وقصص حقيقية (يصعب تصديقها) واخرى تنحدر من ذاكرتهم التقليدية الغارقة في القدم،

وفي اليوم الثاني، نصحني مضيفي بأنّ افضل وقت للعبور هو الساعة الواحدة ظهرا، ففي هذا الوقت بالذات تتوقف (دوريات الشرطة) عن التجوال بسبب الحر والصلاة ووجبة طعام الغداء، وعلى هدى هذه النصيحة خرجتُ من بين البيوت في الموعد المحدد حاملا معي (زمزمية) من البلاستيك مملوءة بالماء ونصف رغيف من خبز (النخالة).

كانت خطواتي في الساعة الاولى بطيئة وكأني خارج للنزهة!، ولكنها راحتْ تتسع كلما توغلتُ في الرمال، يجب عليَّ ان أمشي ست ساعات تقريبا لكي اصل الى اول مزرعة عراقية تقع على الحدود قبل غروب الشمس، وهذه كانت من تعليمات الرجل الذي شدّد كثيرا على خطورة السير في الظلام.

ليس لدي اية معلومات عن المستلزمات الضرورية التي يحتاجها المرء في مثل هكذا رحلة، ولم اعلم اي شيء عن عالم الصحراء المخيف، وكنت اعتقد بأنّ كلّ الذي قرأتهُ من قصص وروايات ماهو الاّ من صنع الخيال!، ولكنّ الحقيقة غير تلك، فكانت بداية المعاناة مع (نعالي الأسفنج) الذي تحول الى جمرة تتوهج تحت قدميَّ، وماءُ (زمزميتي) يغلي وماعاد يروي الظمأ الذي يبًّس احشائي.

مشيت اكثر من ست ساعات، بينما الصحراء مازالت تتسابقُ مع الأفق ولا تبدو لها حدود!، لم أرَ اي اثر لمزرعة او شجرة او مكان مأهول بالماء!، فراودني شعورٌ بأني سلكتُ طريقا خطأً وأني ضعت.

في تلك الأثناء اوشكت الشمس على المغيب، فأنخفضتْ درجة حرارتها وهبّتْ نسمات باردة في المكان!، مما جعلني استعيد شيئا من نشاطي لكي اواصل المشي رغم الخوف والقلق، لكنّ السماء لم تنتظرني طويلا، فوجدتني اخوضُ في العتمة التي ضربت اطنابها في الصحراء.

انا خائفٌ جدا، تخيلتُ عصابة من الذئاب الجائعة تحكم الطوق وتكشرُّ عن انيابها وتمضغ لعابها بشهية غريبة!، رأيتُ النجوم نزلتْ من السماء وراحت تتلألأ امام عينيَّ من شدة ارتعابي!،  لقد تداعتْ في مخيلتي الكثير من القصص التي جعلتني اترنح وافقدُ اتزاني!.

اشكرك يا رب، لأنكَ خلقتني بأرادة ضعيفة!، مقتولا وليس قاتلا!.

اشكرك، لأنك في كلّ يوم تضعني امام امتحان صعب!.

اشكرك يا رب..

فأنا مؤمن! و(المؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرتين)! بينما انا لُدغت مئات المرات، حتى من اولئك الذين اتسعتْ لهم احضاني!! عندما كانوا بحاجةٍ الى دفئها!. لكنك حسناً فعلت، لأنك لم تجعلني كذابا ولا شعاراتيا ولا انتهازيا ولا من الذين يستخدمون جثث الموتى سلالما للصعود الى المنصة!.

اشكرك، لأنك حشرتني مع اولئك المشردين الذين تفوح من سراويلهم واحذيتهم رائحة العرق الكريهة! ولم يحصلوا طوال حياتهم على ما يسدّ حاجة اجسامهم من الكوسترول!.

مشيت ما لا يقل عن اربع ساعات اخرى، وكنتُ احملُ على ظهري طناً من الخوف واليأس، حتى تنازعتني الوساوس، وهاجمتني اشباحٌ تقتربُ مني وتهرب، وتناهتْ الى مسامعي اصواتٌ تقطعُ صمت الليل ولا اعرف مصدرها، ولم استعيدُ يقظتي الاّ بعد ان شاهدت بصيصَ ضوءٍ من طرفٍ بعيد، فملأتُ رئتيّ بالهواء واندفعتُ بأتجاههِ راكضاً..

وصلت قبل ان يأكلني الوحش، فأخذني صاحب المزرعة الى ساقية جافة، وطلب مني ان انام فيها ما تبقى من هذه الليلة، وإن ابقى النهار القادم كله هناك دون ان ارفع رأسي، كان عليّ ان انتظر (الدليل) الذي سوف يأتي في الليلة التالية ليقودني الى الجهة الاخرى من الحدود!.

 

 

 

 

 

free web counter