مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

                                                                    الأحد  12 / 10 / 2014

 

 مراسيم خاصة
(1)

مزهر بن مدلول

وصل الخبر متأخرا ومكتوم الانفاس، فبعد ان تنقل من فم الى فم ومن قمة الى قمة وعبر الانهار الجارفة والوديان شديدة الانحدار، حلّ قبل غروب الشمس في مقر الانصار الجديد (دراو)، في هذا المقر الذي اتخذنا منه متراسا مؤقتا بعد الاحداث الدراماتيكية في (بشتاشان) وكنّا نعاني فيه من الجوع والاحباط ، أُقمتُ مراسيمي الخاصة، كان ذلك اليوم من ايام خريف 1984 يوما مختلفا وفاصلا بالنسبة لي، فالكتف الذي كنت اتكئ عليه ما عاد موجودا، والروح التي فاضت عليّ بالتضامن والتعاطف ذهبت الى دار البقاء.

لم يكن (عبد العزيز مدلول) شقيقا لي فقط ، وانما كان معلما وابا حنونا طالما غمرني بمحبته وخاصة في الايام الصعبة من حياتنا التي كانت حافلة بالمخاطر، ولذلك عندما اخبرني (الحزب) بوفاته شعرت وكأني بتُّ مقطوع السلالة ، وحيدا وغاطسا في وحل تملأه الحيتان والتماسيح ، لم انم في تلك الليلة ، وكنت اشد جسمي الى فراشي مثل ارنب مذعور يلتصق بالارض كلما اقترب منه الصياد، كانت مشاعري مضطربة ورأسي محموما وثقيلا وهاجمتني موجة من الذكريات جرفتني بقوة الى هناك.

الى امي التي كانت تملأ البيت بالدفء والآمان ، كانت طيبة الفؤاد وكريمة النفس ، لكنها تمتلك وجها خائفا وساكنا، كان دعائها لا ينقطع ، وكنت اسمعها وهي تتضرع الى الله في كل صلاة ان يحفظ لها ابنائها وكأنّ قلبها ينبئها بالكوارث التي ستحصل لاحقا ، تراءت لي الان جالسة في عتبة الباب جافّة الحلق ومذهولة العينين ومكسورة الجناح ، فكبدها الكبير الذي طالما حلمت بزفافه وتمنت ان ترى بيته واولاده رحل بسرعة ومن دون ان تتمكن من رؤيته بعد فراق امتد لاعوام عديدة، ترى كيف تلقت نبأ موته وهو الذي احتل كلَّ مساحة قلبها؟!، ومن الذي مسح لها دموعها ووضع كفا حانية على رأسها؟، ان ذلك يؤلمني اشد الالم ، وكلما خطر ببالي كلما زاد شعوري بالضجر والوحدة في هذا المكان الذي تولد فيه الايام ميتة لا صوت لها ولا اثر!.

اختلطت الصور مع بعضها امام عينيَّ ، صور ملونة واخرى من دون الوان تظهر ثم تطير في افق رمادي ، ملامح لاشخاص عاديين واخرين استثائيين مرّوا في حياتي وغابوا في منحنيات الزمن، وكانت من بين تلك الصور، صورة أبي التي لا تراودني دائما ولطالما نسيته في متعرجات حياتي، لكني في هذه الساعة استحضرته في ذهني ، فلم ارى وجهه في اي وقت مضى قريبا مني كما اراه الان!، أبي الذي اشتهر بأناقة مظهره ومشيته المتفاخرة واغواءه الدونجواني للنساء ، اظنه في هذه اللحظة محني الظهر وخائب الامل ويئنُّ مثل جريح بسبب فقدانه لابنه البكر، وكيف لا! وهو الذي صرف الكثير من العرق والمال من اجل ان يحقق له (عبد العزيز) آماله الخضراء في ان يصبح شيئا مهما له القدرة على ان يجعل القمر دائم الاضاءة ليس في قريتنا فقط وانما في الريف كله!.

سقطت قذائف هاون على السفح القريب وقطعت الروتين لبضعة دقائق ، بعد ذلك ساد المكان صمت اسود وعادت العزلة تضرب اطنابها من جديد ، لاشيء له طعم في هذا الوادي ، لذلك كان على الانصار ان يعودوا دائما الى الذكريات، فهي الوحيدة التي تمنحك الاحساس بالوجود وتنجيك من اختلال الذهن ، كما للذكريات طعم خاص ولذيذ عندما تستدعيها وانت على مقربة من الموت!، تجلس تحت شجرة وارفة قرب عين ماء رقراقة بينما الريح تداعب وجهك ، الريح هي صلتنا بالعالم الخارجي ، الهواء الذي نتنفسه هو الذي ينقل لنا اخبار اهلنا!، يأتينا محملا برائحة امهاتنا وحنينهن وتذرعاتهن ، وكثيرا ما سمعت فيه لهاث امي وشممت عطر طفولتي ورأيت مدرستي الطينية التي امضيت فيها السنوات الاولى من تعليمي.

مدرستي ، كان اسمها (النداء الابتدائية) ، وتبعد عن قريتنا (البيضان) ساعة كاملة مشيا على الاقدام، كنّا نخوض في الاوحال والمخاط يسيل من انوفنا واسناننا تصطك من شدة البرد حتى نصل اليها، هذه المدرسة تحوّلت في نظرنا الى حضيرة او مسلخ يمارس فيه المدير والمعلمون وحتى (الفرّاش) شتى اصناف القسوة والتعذيب مع اطفال ابرياء ، فلم نشعر يوما بأننا تلاميذ جئنا لنتعلم ، وانما تعاملوا معنا وكأننا قطاع طرق ويجب ان نعاقب وننسى طفولتنا وابتذالاتها الرائعة!، لهذا كنّا نكره المدرسة وفي احيانا كثيرة نتمنى لو يضربها زلزال لكي نستمتع بعطلة طويلة!.

من هذا المسلخ تخرجت، ومنه انطلقت الى عالم غريب ومختلف ، حيث الضجة والاضواء والتمرد، هذا العالم الجديد استقبلني بمشاعر باردة جدا!، وعلى العكس من شقيقيَّ (عبد العزيز و رهيف) اللذين اكملا المرحلة الابتدائية في المدينة وعاشا فيها منذ الطفولة ، فقد كانت بداياتي في الريف كما ذكرت ، وبقيت فترة طويلة اشتاق الى الحياة هناك ، والى اللهو مع زملائي في الابتدائية الذين لم تحالفهم الظروف لاكمال دراستهم فالتحقوا جميعهم بالعمل في الزراعة والرعي ، كان من العسير عليّ ان انسجم هنا، فأنا لا اعرف شيئا في المدينة ، لا اعرف حتى الجلوس في المراحيض ، لا اقول صباح الخير ولا مساء الخير، ولا استسيغ ان اردّ التحية ب(هلو عيني)، واشعر بأني كذاب لو قلت (دجاجة)، انها (دياية)! هذا هو اسمها الحقيقي الذي عرفته من اهلي وقريتي والريف الكبير الذي نشأت فيه ، فكانت السنة الاولى بالنسبة لي سنة محنة وصراع ، وكان عليّ ان ابذل الكثير من التركيز لكي اتخلى عن لساني واتفادى سخرية زملائي الاشقياء المراهقين!.

 

 

 

free web counter