مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأحد 11/2/ 2007

 

 

سناء الانصار
سنوات ازدحمت بالمجد  - 7-


مزهر بن مدلول

احتضنت كلاشنكوفي بمحبة كبيرة ، اسمتعت في لمعان حديدها ، وجلست على صخرة رمادية اللون تلفتت حولي ، يمينا ويسارا ، فلم اجد هناك مايخيف او يبعث على الريبة ..
تركت الرفيقين ابو عامل وتوماتوماس يمران امامي ذهابا وايابا وبخطى بطيئة ومتناسقة ، يتحدثان باللغة الاثورية ، التي لاافقه شيئا منها .. تركتهما وشانهما ، حتى كدت ان انسى ، بانني جئت لاحميهما ، ورحت اتامل ماحدث لي في تلك الليلة ، التي كان الموت فيها ، قد تسلل بغتة الى قدمي الليلة التي فقدت فيها بصري وبصيرتي ، فلم اعد قادرا على ان ارى شيئا ولا ادرك موقفا .. كانت ليلة شديدة السواد وحالكة الظلام رغم كثافة الثلج ونصاعة بياضه ..
في فضاء مزدحم ، فوق السماء او تحتها ..لا ادري .. فقد كنت امشي .. ذلك صباح جبلي متجمد ، الذي طلبني فيه امر السرية وقد كنت حينها امرا لفصيل ( ارموش ) ، ان نتداول بشان تشكيل مفرزة صغيرة من الشباب لمرافقة الرفيق ابو عامل الى قاطع بهدنان ، وكنت احد الادلاء في تلك المجموعة الثلج ينهمر بغزارة .. تحت بياضه اختفت الالوان كلها .. وساعة بعد ساعة والثلج كأنهُ لاول مرة ينزل في تلك الارض .. المسافات تبتعد ..والذاكرة تبتعد .. وحلم بنار وشاي يبتعد ..
السير في الثلج كما يعرفه الانصار ، يشبه كابوسا ليليا ،حين يهاجمك فتطلق العنان لقدميك ، لكنك فجأة لا تجد الى ذلك سبيلا ، او كأنك تمشي كمن وضعت الاغلال في قدميه ..
الثلج جميل ، وعبثه جميل ، رمز من رموز جمال الحياة ، لكنه في تلك القمم الجبلية النائية ، يقهر الحياة ذاتها ..
بدأ البرد يقتحم اجسادنا جميعا .. صمتٌ مخيف يلفُّ مفرزتنا ويخفي شيئا ما يشبه الاختناق ، لاحظته حين وصلنا الى ( روبار عادل بك ) ، كان هديره رهيب ومرعب ، ولكي لانموت علينا عبوره ..
اكلنا علب السردين على عجل ، ثم طلب امر المفرزة من ابو اصطيف وابو هادي ان يعبرا اولا ، وان يقوما بربط الحبل من الجانبين ، ربطنا الحبل في جذع شجرة بلوط كبيرة ، ثم دخلنا الروبار ..
مياه باردة جدا ، قاسية في شدة برودتها ، جسمي يرتجف ، وتيار سرعته فائقة ، يدفعنا بقوة فننحدر ، ونتمسك بالحبل ، ابو اصطيف صاحب المزاج الحاد ، حاول ان يكون مرحا ، يغني بصوته الجميل ، كلما اندفعنا في عمق النهر .. اني اغرق ، اغرق .. لاتغرق عزيزي ابو اصطيف قبل ان تترك لي الميراث ، وميراث ابو اصطيف قليلا من الكشمش في حقيبته .. لكننا باصرار كبير تمكنا من العبور ، وربطنا الحبل في الضفة الاخرى ..
اسناني تصطك ، ركبتاي تحتكان ببعضهما ، وبعينين متجمدتين انظر الى ابو اصطيف ، الذي لم يعد قادرا ان يقول شيئا ، وقد تجمدت كل دماء جسده تحت خديه ..
رحت ابحث تحت الثلج ، عسى ان اجد شيئا ، يفيد في اشعال النار ، ابتلّتْ ملابسنا بالكامل ، فلاكثر من ساعة ونحن وسط مياه ثلجية ، نساعد الرفاق على العبور ، لكني فوجئت ، حين علمت ، بان الرفيق ابو عامل يطلب ان نواصل الحركة ..
كنت اشعر باننا في وضع اخطر من ان نخوض معركة ، فبالرغم من خطورة المكان ، الذي نحن فيه ، حيث النقطة ، التي تلتقي عندها الجيوش والجحوش ، لكن خبرتنا تقول ، وفي مثل هذا الوقت بالذات وفي هذه المنطقة التي لاتصلها طرق للاليات ، لن تجرأ اية قوة عسكرية راجلة على مهاجمتنا قلت الى امر المفرزة ان بيتا مهجورا غير بعيد يمكننا ان نستريح فيه ونشعل النار لكي نتدفأ قليلا ، لكنه رفض الفكرة ايضا ..
ليس هناك اي امل في ان يتوقف الثلج ، المنطقة تنتشر فيها الصخور بكثافة ، معالم الطريق اختفت تماما . تحركنا باتجاه بيت عادل بك ، بدا التعب ينال من الجميع ..
حين نزلنا الوادي ، كانت رائحة النار تصل الى انفي ، خامرني شعور بالطمانينة ، همست الى ابو اصطيف بذلك ، لاشك ان ساعة واحدة فقط حول المدفاة وقدح شاي ( ره ش ) تجعل دورة الدم تنبعث من جديد وتمنحنا القدرة على المشي لساعات اخرى .. توقفت بانتظار ان يلتحق بي الرفاق ، وحين اقتربوا مني ، سالت بصوت مرتفع .. هل لنا ان نستريح لساعة هنا ؟ ..فهتف الجميع .. نعم رفيق ، نعم رفيق .. وكنا مسرورين بذلك كثيرا ، لكن ابو عامل كان مصرا على عدم التوقف ، وهو يعتقد ان استراحة قصيرة يمكنها ان تجلب الكسل ، مما يضطرنا الى المبيت هناك ، عندها سيكون النهار صعبا وخطيرا ، ولكن لم يكن ذلك الاعتقاد كما اظن كان صحيحا ..
كانت المسافة التي تمتد مابين عادل بك وسفح الجبل حيث مقر الحزب الاسلامي هناك ، تقرب من الساعة والنصف مشيا في الاحوال الاعتيادية وهي صعود تدريجي ، لكننا قطعناها باكثر من ستة ساعات ..
كنت اتقدم المفرزة ، واسير باتجاه القمة ، حيث لااثر لطريق .. تعبت جدا خارت جميع قواي ، حين ارفع قدمي ، اشعر بانها ثقيلة كالحديد ، ومن شدة التعب ، ترائت لي الاشجار والصخور كاشباح واقفة ، واحيانا كحشد من الجنود يصطفون بانتظام ، ويصوبون بنادقهم نحو راسي ، اعطاني آمر المفرزة حبة جكليت واحدة ، ابتلعتها ، ولم تنفعني كثيرا ..
توقفت فجاة ، وطلبت منه ان يستبدلني بدليل اخر ، فلم اعد قادرعلى ان اتحمل تلك المسؤولية ، لقد كنت ادرك تماما ما انا فيه مع اني لم اياس ..
تقدم المفرزة هذه المرة الرفيق ابو حمدان ، بينما تراجعتُ الى الخلف ..
وشيئا فشيئا ، وجدت نفسي امشي لوحدي ، لكني لم افكر بالجلوس ابدا، وبقيت مصرا ، بان لاحلّ امامي سوى الحركة ، وكنت مدركا ، باني اذا جلست ولو لدقائق قليلة سيكون مصيري الهلاك متجمدا ..
اقتربتُ من شئ ما ، شئٌ يشبه صخرة صغيرة ، لم يغطيها الثلج بعد ، او كأنّ طير وقف عليها ، واندهشت لِما رايت ، وان كنت اشك في رؤيتي للاشياء ، اقتربت كثيرا من ذلك الشئ ، لم اتبينه ، حتى شعرت باني لامسته ، فوجدت الرفيق ابو حمدان واقفا بصمت ودون اية حركة ، ضننت انه كان متجمدا فصرخت في وجهه .. مالذي جرى لك ايها الرفيق ؟ واين المفرزة ؟ افاق حين سمع صوتي ، ولم يكن ابو حمدان قد شكا يوما من صعوبة ما ، وكان يكظم تمرده دائما ، ورغم برائته ووداعته ، لكن له كبرياء لايطاق ، قال.. ( تركونا ومشوا ) ..
لم نكن بعيدين عن الارض المنبسطة ، وما زلت واثقا باننا سنصل بسلام ، ولم يخطر ببالي البتة ، اني ساضيع في ذلك المكان ، المكان الذي حفظت جميع اشجاره واحجاره وطرقه الملتوية السهلة منها والجبلية ..
تناهت الى سمعي اصوات خافتة ، لم استطع اعبر عن ابتهاجي وابو حمدان كذلك لم يستطع مثلي ان ينطق بكلمة واحدة ، اقتربنا كثيرا ، فصاح ابو الزوز وصل الرفاق ، وصل الرفاق ..
حول صخرة كبيرة مغطاة بالثلج ، تجمعت المفرزة وكان الجميع ينتظرون ويتجادلون ، عن الطريق وضياعنا في مكان هو الاخطر على العموم ، وما ان توقفت لثواني قصيرة ، حتى فقدت الاحساس بقدمي ، افترشت الثلج ، ودار حولي الرفاق ،اومأت لهم باصبعي باني تجمدت ، جلب لي ابو اصطيف جوربا اخر واخذ يفرك باقدامي بكل ماتبقى له من قوة ودون ان يخلو ذلك من مداعباته الجميلة ، حتى تحرك الدم بهما من جديد واخذت بالتحسن ..عند ذاك سالوني ان كنت قادرا على تمييز الطريق ام لا ..
ليس بعيدا ذلك المكان ، انه لايتجاوز النصف كيلو متر على اكثر تقدير ونكون قد وصلنا الى مقر الاسلاميين والطريق واضح وسهل وما علينا الا ان نسير بخط مستقيم في ارض مستوية وسنصل حتما ..
تقدمت المفرزة مرة اخرى واثقا ومطمئنا ، تركت الصخرة الكبيرة خلف ظهري ومشيت ، وبعد فترة قصيرة وجدت نفسي والمفرزة قد عدنا الى نفس المكان ، اي الى الصخرة الكبيرة ، ولكن من طرفها الاخر .. استغربت ومازلت مستغربا الى الان ، لااظن ان طناطل الناصرية تلاحقني في هذه الجبال القصية ..
قال احد الرفاق .. العودة الى عادل بك هي الحل ، قال اخر .. علينا الالتفاف حول الجبل من الجهة الاخرى ، وبعضا قال .. نمشي لا على التعيين ، سمعتُ كثيرا من المقترحات التي اعتقد جميعها تؤدي الى الموت ، ورغم تلك المخاطر والمعانات ، فقد سمعت ابو عامل وقد نطق لاول مرة وقال .. (وين ماتروحون انا موافق) ..
تذكرت ان بعضا من بيوت قرية تركية صغيرة ، تقع الى جهة اليمين من المكان الذي نحن فيه ، لكن اهلها ليس من الاصدقاء ، قلت الى امر المفرزة ذلك هو الحل الوحيد ، لنأتي باحدهم كي يرشدنا الى الطريق .. فذهبنا ثلاثة واقتحمنا احد البيوت ، جئنا برجل متوسط العمر ، كان خائفا وممتعضا ، لكنه ايضا كان مندهشا .. ولاشك عندي بان في راس الرجل كانت اسئلة كثيرة .. هل اصابكم الجنون من الذي يمشي في مثل هذه الظروف الجوية القاسية وفي هذا المكان المهجور ؟.. وكيف تقطعون كل هذه المسافة وتضيعون في المكان الذي يجب ان لاتضيعون فيه ؟.. قادنا الرجل لمسافة قصيرة ، فقلت له يمكنك ان تعود ادراجك لقد عرفت الطريق ..
نار وشاي وجبن مالح ( تي ال تي ) وحلم تحقق ..
رفعت بصري فلم اجد الرفيقين ابو عامل وابو جوزيف ، وسمعتُ احد يصيح.. رفاق غدة غدة ..