مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأربعاء 10/3/ 2010

 

عادل بك

مزهر بن مدلول

نذر لعاصفة ثلجية بدأت تتجمع في الافق ، قسوة البرد وقرصات الجوع راحت تقتحم اجساد الرجال دون عائق .
ما يقرب من عشر ساعات من المشي المتواصل في ارض هرمة لا تنبت فيها سوى الصخور الشائكة والعلو الشاهق والمنحدارات السحيقة ..
عشر ساعات كانت كافية لتحطيم ما بقي في رأسك .
بدأت الخواطر المختلفة تقفز الى الرأس والكلمات تتلكأ على الشفاه وبدأ الاحساس بالتوجس يزحم الاذهان ..
لقد نال منا التعب والجوع ، ذلك كان واضحا ومتأججا في حدقتي كل واحد منا ونحن نتسابق مع نذر العاصفة الثلجية .
وصلنا الى النهر ، وكان علينا ان نأكل ما توفر لنا من كسرات الخبز بسرعة وبعدها نعبر الى الضفة الاخرى قبل الظلام .
كان النهر صاخبا وثائرا ، تتدافع امواجه كأنها حيوانات عملاقة تطارد فريسة ، وكنا نحملق فيه حتى تأخذنا الدوامة الى الاعماق .
الكل متسربل بالصمت والحيرة ، حاول بعضنا ان يغتصب ابتسامة ، لكن هبوط العاصفة الثلجية الى الارض قطع علينا الشعور بالطمانينة ..
المشاعر المحبوسة التي تمنعها الكبرياء من الظهور تقول لنا بأننا وقعنا في طاحونة الموت لا محال ..
تتمادى الرياح في عصفها وتتمادى الذاكرة في خرابها ، هنا وفي هذه اللحظة لا قدرة لأحد في ان يستعيد صورة جميلة علَّها تفرج شيئا من هذا الكرب ..
ولكي نعبر النهر لابد من ان يتطوع بعضنا ممن لديهم مهارات في السباحة ، علينا ان نساعد بعضنا في العبور ونتعاون في حمل الاثقال التي كانت في حوزتنا ..
اكثر من ساعتين ونحن عراة فوق الماء وتحته ، البرد الذي اصابنا لا يمكن وصف اوجاعه. كانت السيقان ترتجف والاسنان تصطك والوجوه متيبسة وشعور غريب بان السماء شنت هجومها الكاسح علينا ..
في هذه الاثناء استحالت الجبال والوديان والاشجار وبسرعة فائقة الى صحراء جليدية ناصعة البياض ، ومعها اختفت اي معالم للطريق الذي يجب ان نسلكه ، مما ضاعف من ساعات المشي وكنت اشعر بان نظرات الغضب والاسى تلاحقني كلما توقفت بحثا عن اثر الطريق الذي ضاع تماما ..
انه من المؤلم جدا ان تنتظر معجزة تسوقها الاقدار العابثة علها تنقلك الى شاطئ النجاة ..
وبدأت الخواطر من جديد تشكل لوحة مصبوغة بالوان مرعبة ، فقد ادركت في تلك اللحظة عبث محاولاتي ، فاضطررنا ان نسير دون طريق في جبال كأنها امتدت الى اخر الوجود حتى تورمت اقدامنا من شدة ارتطامها بالصخور التي تملأ المكان ولكننا كنا بالاتجاه الصحيح ..
هبطنا من السفح نحو بيت عادل بك..!! ؟
هذا المكان مررت به مرات عديدة وفي هذا البيت وجدت دفءً وطعاما ، نمت في غرفة الرجال ومع العائلة ليال كثيرة ، وكان الرجل الذي نسميه عادل بك متوسط العمر وطويل القامة مقلا في الكلام ويكتفي بالايماء ، رجل تملأه الخيلاء رغم بساطته وكنت ارقب تعابير وجهه في كل مرة ، اتابع حركاته بفضول مقزز فتجتاحني موجة من التوجس في هذا الرجل الذي اختار هذه البرية الشاسعة الوحشة والخوف ..
فمن هنا تمر مفارز استطلاع الجحوش ومن هنا تعبر سرايا الجندرمة ومن هنا يعبر البيشمركة المقاتلون ضد نظام صدام بكل الوانهم ويستريح فيه مقاتلون من اكراد تركيا وايران ويمر به تجار السلاح والمخابرات والجواسيس ، كلهم يؤسسون لزمن المستقبل على احباطات الحاضر حيث البطش والجوع الذي اصاب الشعب ونظام غارق في بشاعته ومجونه..
كل ذلك منعنا من التوقف في تلك المحطة التي كنا في امس الحاجة لها حتى ولو كان لمدة ساعة واحدة ، وكنا نعاند الثلج والعاصفة والجسد بطريقة مغالية جدا .. واصلنا المشي ، امامنا ساعتين فقط في الظروف الاعتيادية ونصل الى قرية زيتا حيث فيها تتحقق احلامنا ، واحلامنا بسيطة جدا ولا تتعدى اطلال زريبة مهجورة نستطيع ان نستظل بها ونوقد فيها النار .
العاصفة في كل لحظة زمنية تمر تشتد وتضاعف من قسوتها والانفاس تجف والاطراف تتجمد والعيون وحدها تتجاذب اطراف الحديث عن الموت الذي اقترب .
الاجساد تقاوم وتتحدى .. هؤلاء رجال مغامرين عنادهم لا يطاق ، كلٌّ منهم كان (هوجو) بطل مسرحية الايدي القذرة ، ثائرا متحمسا وباحثا عن الحقيقة الصادقة المقنعة .
القرى البعيدة الغائرة في الكهوف ، يبدو انها مستغرقة بالكامل في صمت مخيف ومستسلمة برعب الى هذا الطوفان ..
لا مكان هنا لقصيدة رقيقة ولا نغمة حلوة ولا كلاما دون تأتأة ، لقد خرجنا عن مسافات الجبل المطلوبة ، وان عاصفة الثلج والبرد حسمت الموقف ، ضياع وسير واهن بطئ دون اتجاه محدد ، واصبح الموت واحدا من ظلالنا ، يلتصق بنا ، مثلهُ مثل المشاعر الانسانية التي كانت تقفز الى الرأس في لحظة استثنائية مؤلمة ..
البرد ينخر في عظامنا ، الاقدام تتقلص والعضلات تتصلب ، وشعور موجع بان العاصفة ستكون هي مقبرتنا ..
ثلاث ساعات اخرى من تسلق الجبل احسست خلالها بان الموت حل في عينيَّ واني وجها لوجه مع سيناريو جديد كان عليّ ان ادركه ، انه العدو او الاعداء الكثيرين غير المرئيين ..
صور قديمة تحوم حول رأسي ، تظهر على شاشة ذهني بوتيرة متسارعة ، لا استطيع التعرف عليها واعتقد هي ايضا لم تتعرف عليّ ، موال نائح في اخر الليل في شارع الرشيد المضمخ بالحزن ، شوق خفي الى ضحكة تتموج على شفاه الحبيبة ..
الصور أبت ان تنبثق من الذاكرة ، عاصفة الثلج في رحلة الموت هذه اخذت تبتلع جسدي وكل شئ تراءى لي مثل سراب صحراوي .
اهو الليل ام هو النهار !؟ بدأ رأسي ينتفخ ولم اعد ارى شيئا ، عيوني غادرت وجهي ولا اعرف اي طريق اسلك..
اعتذر ايها الرفاق دعوني اسير خلفكم ، لكن من الذي يتقدمنا ، لا احد يعرف ، فقط الجسد مازال يقاوم .. ثلاث ساعات اخرى كأنها الدهر كله ، وكنا ندرك ان اي توقف يعني الموت بعينه ولذلك لابد ان نمشي ، ان نسحل اقدامنا ، نحن في مكان اخر وتحت سماء فقدت زرقتها ، نحن الان في الماوراء ، لا شئ يتراءى لنا سوى الحقيقة العارية هي الموت ..
وكم حاولت ان اغادر جسدي اليابس وان اصدق باني نائم وان ذلك الهول الذي اراه مجرد حلم قبيح ..
في الاعالي كانت صخرة كبيرة .. علامة فارقة .. شبح الهي غريب .. خلفه تختفي النهاية .. استوقفنا لحظة لننزع اجسادنا ، لحظة للشعور باننا بحاجة لان نستعيد اذهاننا .. في هذه اللحظة الحاضرة كانت نجاتنا .

 


 

Counters