| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

متي كلو

Sabti_kallo@hotmail.com

 

 

 

                                                                                      الأربعاء 31/10/ 2012



البائع المتجول بين اليوم والبارحة!

متي كلو

 عمو"داود" جاء الى كركوك من احدى بلدات الموصل مع ولديه في المرحلة الثانوية واستطاع ان يحصل على موافقة شرطة حي "عرفة" الذي يقطنه بعض الموظفين من الدرجة الثانية وبعض العمال العاملين في شركة نفط العراق"IPC" وكان هذا الحي مغلق امام اي بائع متجول لوجود محلات متنوعة انشاتها الشركة خصيصا للقاطنين في هذا الحي المغلق" وكان يطلق عليه ا"كانتين" كان عمو داود يحمل سلتان يدويتان "علاكة الخوص" ويضع فيهما بعض الانواع من الجرازات"المكسرات" وخاصة "حبة الخضرة" واحيانا حبات جوز الهند او الجوز المشهور في شمال العراق"البلوط" ، وفي ايام الشتاء كان يستبدل احدى السلتان بصفيحة من الطحينة"الراشي" الموصلية ألمشهورة وأحيانا يحمل في سلته المليئة”بالكستانة" الايرانية، وكان يعرفه جميع القاطنين في"عرفة" صغارا وكبارا وكذلك عدد من افراد الشرطة الذين كانوا يقفون عند بوابة حي عرفة، جاسم وحسين وطرفة وزيدان وإسماعيل وقبل ان يدخل الى الحي للترويج عن بضاعته كان يقف بعض الوقت يتحدث مع هؤلاء الشرطة يلاطفهم ويمزح معهم ويسال عن موعد عقد قران حسين ويوفي بوعده بجلب له صفيحة من "طرشي طه الملك" *خصيصا له ثم يغرف بكفه حفنة من الفستق او البندق ويوزعه على هؤلاء الافراد وهم مرحون وكان يسألهم السبب في ان سروالهم ثلاثة ارباع، فكان يجيبه طرفة وكان الوحيد بينهم قد انهى السنة الخامسة من الدراسة الابتدائية فيقول، ان قيافة الشرطة الملكية هي نفسها قيافة الجندي الهندي في صفوف الجيش ألبريطاني وكانت بدلة الشرطة تتكون من بدلة رسمية وتتكون من قمصلة بأزرار ذهبية اللون وبنطلون ثلاثة ارباع كما يسمى اليوم !!

كان العم داود يغيب عن سكان عرفة كل شهر يومين او ثلاثة لكي يطمئن على عائلته المتكونة من زوجته و من اطفاله ولكي يجلب بضاعة جديدة من مدينة الموصل وكان سعيدا في حياته وبالرغم من تعبه اليومي المرهق بحمل تلك السلال،كان يستمر عمله اليومي اكثر من الساعة الثامنة صباحا لغاية السادسة او اكثر ولكن عندما يعود الى غرفته ويرى ولديه منكبان على الدراسة ينسى تعبه، وياكل لقمة قبل ان يضع رأسه على مخدته ويحلم بغد افضل واجمل عندما يتخرج ولديه ويتم قبولهما في كليات مميزة وثم يتعين كل منهما في وظيفة مرموقة ويفتخر بان تعبه لم يذهب هباء بل اثمر عن مستقبل مشرق لولديه كما يفتخر امام عمومته واقرأنه.

في صبيحة يوم الاثنين الموافق 14 تموز 1958 أستيقظ على صوت مذيع لم يألف صوته يعلن عن حدوث ثورة ، وتسمر في فراشه وتوالت البيانات ولم يبارح منزله لأكثر من اسبوع وهو يستمع الى البيانات تلو البيانات وعلم بمقتل الملك فيصل الثاني الذي كان يحبه كثيرا لأنه كان يشبه"سامر" ابن اخيه الذي يدرس في دار المعلمين العالية في بغداد ولكن ذلك الحزن لم يشمل مقتل خال الملك "الوصي عبدالاله، لان سمعة الوصي كان يشوبها الكثير من الشوائب والكلام الذي لا يليق بهذا المنصب ولا بالعائلة الهاشمية ، وعندما سال ولده الكبير "مروان" عما يحدث بعد هذا التغير ، اجابه ولده:

- ان الشعب قام بثورة وانتهى عهد الملكية وأصبح العراق جمهورية يحكمها الشعب ولم يبقى بعدها فرق بيننا وبين عمو يوسف"( الموظف من الدرجة الاولى في شركة نفط العراق والذي يسكن في حي محاط بأسلاك شائكة ولا يستطيع احد زيارته إلا بموافقات خاصة) وبيننا وسوف نكون متساوون مع عمو يوسف وأولاده في كل شيء وسوف تستطيع ان تشتري سيارة مثله كما نستطيع نحن ايضا ان نشتري دراجات هوائية ، كما نستطيع ان نزور لينان مثلهم في كل صيف، وربما نستطيع ان نسافر مع عمو يوسف وعائلته الى مصيف "شتورا" في لبنان ..و.. و .   

استغرب عمو داود من كلام "مروان".. مرت لحظات من الصمت ثم سال ولده:

- كيف في يوم وليلة اتساوى مع"يوسف" الذي انهى دراسته الجامعية في الهندسة من جامعة الانكليز!! وكيف لا احتاج الى استحصال موافقة الشرطة للدخول الى حي عرفة بعد الان.. قاطعه ولده:

- يا والدي تستطيع ان تدخل بدون ان يسالك احد الى اين ذاهب وهؤلاء الشرطة سوف يتغيرون وسوف يغادر الانكليز الوطن وتكون شركة النفط التي نهبت اموال الشعب لسنوات طويلة ملكا للعراقيين، علت الدهشة والاستغراب محيا عمو داود من كلام ولده الذي يسمعه منه لأول مرة، وصمت لحظات ومر بذهنه كلام قريبه فؤاد عندما كان يزور بغداد قبل ان يعتقل بتهمة انتمائه الى حزب هدام وخطر، وفجأة صرخ في وجه ابنه:

- ان كلامك يشبه كلام قريبنا فؤاد، فهل انت ايضا تحمل افكارا هدامة مثله .. اجابه ولده:

- لا يا ابي، ان هذه الافكار ليست هدامة، وانأ تعلمتها من احد زملائي الذي اعتقل والده قبل سنتين في سجن نكرة السلمان ولم يتنازل عن مبادئه رغم كل ما قدم له من مزايا لتركها، وان ما حدث في العراق هو اتتصار افكار ابو زميلي وافكار قريبنا فؤاد اي ان حدثت ثورة ... قاطع عمو داود ولده مرة اخرى قائلا:

- المهم يا ولدي لا احد يطالبني بموافقة الشرطة عندما اروج عن بضاعتي، واذا كان ذلك سوف اشتري عربة واضع عليها اصناف اخرى من البضاعة لكي يكون الرزق اوفر، ولهذا سوف اذهب الى الموصل لجلب بضاعة اخرى كما اوصي بعربة توفي بالغرض.

بعد اسبوع حمل سلتيه واتجه الى عرفة وعند وصوله الى نقطة الشرطة اوقفه "العريف طرفة" الى اين يا عمو داود:

- الى عملي اليومي.

- ان الموافقة لتجولك انتهى مفعولها بعد ثورة الشعب في 14 تموز وعليك باستحصال موافقة جديدة.

- اي موافقة،!؟ والسلطة اصبحت بيد الشعب وأنت تقول ثورة الشعب وانأ ابن الشعب الذي اسقط النظام البائد,, تقدم نحوه الشرطي قائلا:

- عد الى حيث اتيت وإلا سوف اصادر ما تحمله ولا اريد ان اراك مرة اخرى هنا.

وعندما احتد الجدال يينهما خرج "مفوض شرطة" ذو شارب كث وعينين كبيرتين تبرق كالصقر لم يراه عمو داود سابقا ونظر الى العريف طرفة ليساله:

- ما هي المشكلة؟

روى العريف طرفة حول الموافقة قبل الثورة والتي تسمح بالتجول في حي عرفة،، ثم قال للمفوض:

- وانت يا سيدي بلغتنا بإلغاء كافة الموافقات التي صدر ت من المركز قبل الثورة.

نظر"مفوض الشرطة" الى عمو داود بشزر وصرخ بوجه:

- عد يا عميل الاستعمار من حيث اتيت والا سوف ادعك السجن.

حمل عمو داود سلتيه وقال للمفوض:

- ما اشيه اليوم بالبارحة.

ثم ادار ظهره لمركز الشرطة وحي عرفة متجها الى غرفته التي تبعد حوالي 45 دقيقة سيرا على الاقدام.

عاد عمو داود الى بلدته الصغيرة في سهل نينوى والتحق به ولديه بعد انتهاء السنة الدراسية ليتحقا بعدها في ثانوية المستقبل في الموصل. وانقطعت اخبار عمو داود وعائلته عنا منذ ذلك التاريخ الا ان شاءت الصدفة ان التقي ابنه مروان في احدى دول الشتات، وعلمت بانه جاء من الوطن لزيارة ولده الذي سماه باسم جده داود والذي يقيم في هذه المدينة الاغترابية منذ خمسة سنوات، والتقينا معا عدة مرات حيث عدنا فيها الكثير من ألذكريات وعلمت منه بأنه سوف يعود الى الوطن بعد أسبوع وسالته:

- كيف هو الوضع العام.

ابتسم وتوقف لحظات عن الكلام ثم سالني:

- هل تتذكر ما قاله المرحوم والدي لمفوض الشرطة عندما منعه من دخول حي عرفة في كركوك، قلت له:

- نعم حيث قال ما اشبه اليوم بالبارحة.

- بدون تعليق !

 

free web counter