| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

موسى الخميسي

 

 

 

 

الخميس 30 / 11 / 2006

 

 

تفريغ العراق من اقلياته

 

موسى الخميسي - روما

احتوت ايديولوجيات الزمن الراهن، الافكار التي تتفق فيها مصالحها، واحتفظت مكونات الشعب الى حد كبير بالافكار التي تعكس مصالحها: الروح التعاونية، الاخوّة بين الطوائف والديانات والاقليات الاثنية، التعلق بالكرامة والقيم الانسانية الاخلاقية التي تحفظ الحد الادنى من التضامن الشعبي في وجه اشتداد قمع مؤسسات القهر والظلم والارهاب .
وفي زمننا العاثر هذا والذي يمثل الوجه الاخر لتشديد الاستغلال وتعميق القمع واضطهاد الاخر، الشريك الذي يكره الظلم ويتعلق بالعدالة والانسانية والاخوة، والتمسك بالوحدانية، والله سبحانه وتعالى ،من اجل الدعم المعنوي وهربا من قساوة وتوحش الاخ الكبير، تهب على الجميع ،رياح عتية غابرة بركوب الغيبي واستلاب شخصية الانسان ، جنبا الى جنب ، مع الطروحات التي تنادى علنا بصهر الشعب العراقي بكل مكوناته في بوتقة واحدة هي الاسلام ، حيث يتم ذلك من خلال اقصاء الاخر الشريك وصاحب الوطن الاصلي، اما بتصفيته الجسدية، او بقبوله بعد تغيير عقيدته الدينية والانضواء قسرا تحت لواء الاسلام، شيعي اوسني، حسب المناطق التي يعيش ويعمل فيها هذا الفرد المنتسب للاقلية الدينية، مسيحية، صابئية مندائية، ايزيدية.. الخ، حيث يتم ذلك بعدة اساليب، منها الاعتداء على اعراض نساء "اهل الذمة" وارغامهن بالزواج من مسلمين، اجراء عمليات الختان القسري للذكور المندائيين، اختطاف احد افراد الاسرة وطلب فدية تتمثل بالزام العائلة اعتناق الدين الاسلامي، الاستيلاء على الاملاك العائلية وممارسة الابتزاز بتغيير العقيدة.. الخ.
وفي تاريخ هذا القهر الذي هو تاريخ حقيقي يمتد الى مئات السنين، وهو جزء من تاريخ الهزائم والتخلف والعبودية والانحطاط ، وضيق الافق والمحدودية الذهنية البائسة ، ظهرت لينا العديد من " العمائم" التي كنا نعتبرها متنورة من اهل البصيرة والعلم الديني، لتعلن بكل صلافة ووقاحة تأثرها بجاذبية مثل هذه الطروحات العنصرية الفاشية ووعودها، حيث انقاد البعض طوعا او قسرا، وهم يشرحون امتيازها ونفحتها الدينية الجديدة لتخلق عودة الى حمى العصور الغابرة المظلمة والوعود بالجنة، وليعطي مثل هذا الموقف دعما وتمويلا لماكينة قتل الجسد والروح العراقية ،من خلال تفعيل آليات ضغط على النفوس البريئة بهدف تحقيق اجتثاث للآخر،من الارض والبيت والعمل والحياة، تستخدم فيه كل وسائل الارهاب والقمع قسوة ولا انسانية. واصبحت الاقليات الدينية العراقية حالها حال اللاجئين وهي على ارضها وفي بلادها، داخل محرقة مشتعلة معلنة ما بين من يوصف بـ"التكفيري" من جهة، ومن يوصف بـ"الصفوي" من الجهة الاخرى، لتشغيل ماكنة الابادة الجماعية، كل ذلك وسط حالة من السكوت الذي هو بمثابة تكريس للامر الواقع، تطمس من خلاله الاسباب الحقيقية التي تكمن وراء وجوده وتجدده والسعي الى التخفيف عن الحملات التي تقوم بها العديد من الشرائح الطائفية التي تمثلها فرق الميليشيات الظلامية بابادة الصابئة المندائيين، يؤدي الى نفي المسؤولية عن اولئك الذين يتحكمون بدفة الدولة وتبرئتهم من ذنوبهم، وهو موقف يحرم الجميع من امكانية ايجاد حلول مناسبة للخروج من هذه الظاهرة اللاانسانية.
ان شيوع الافكار السلفية يعكس اذن مأزق الاصلاح العقلي الذي يعبر بدوره عن فشل نمو وتكوين تيار وطني قوي ومتماسك يسمح بتوحيد كل المجتمع، ضد كل ما هو سلفي وظلامي للخروج من عصر التخلف الى الساحة الفكرية ووسائل نفوذها في الثقافة الانسانية الحديثة. فكفاحنا كأقلية دينية في حيازة شرعية وجودنا على ارضنا كاجتماع انساني تاريخي، مبرر ومقبول ومعترف به في كل المواثيق الانسانية والدولية، هو كفاح من اجل الوجود، قائم على ارادة احتفاظنا بكياننا الانساني ورفضنا التحلل والانصهار في وعاءات الاخر. فمجتمع مثل المجتمع العراقي يظهر عجزه عن توفير شروط انسانية لوجود واحد من مكوناته الرئيسية، يحكم على نفسه بالفناء ويقضي على شرعيته كوجود انساني مستقل.
ان استخدام العنف المتمثل باعدام ثقافة الشراكة المفتوحة، وممارسة القتل والاعتداء على الاعراض والاستيلاء على الاملاك وفرض الاسلام بقوة السلاح والتخويف كعقيدة دينية، يمثل الخطوة الاخطر في سلسلة كسر قوام المجتمع، وحل اطره التنظيمية وفك اواصره التضامنية.
هذه المرحلة المتداعية المصبوغة بالدم واهدار الكرامة الانسانية وهزيمة العقل والاعتدال في معارك غير متكافئة، يبرز الدور الاجتماعي والحكومي، فالاول اي المجتمع ليس مسؤولا عن كارثة الابادة للمندائيين لانه متعايش ونسيجه الاجتماعي متماسك بكل ما من شأنه ان يدعم الامن والسلام . اما السلطة فهي المسؤولة الاولى،
والا كيف نفسر ما صدر من وثيقة في اجتماعات مكة التي وقعها الجميع وحرم فيها دم المسلم على المسلم، ولم تتطرق تلك الوثيقة الى طوفان حمامات الدم التي يغرق فيها الصابئة المندائيون والمسيحيون؟. فالاحتجاج الشامل الذي وقعه المسلمون شيعة وسنة كان يستدعي نفي التمايزات داخل اطراف المجتمع الواحد. هل كان ابراز جوهر الصراع بين الطائفتين الكبيرتين يفترض التضحية بالاجزاء الصغيرة والضعيفة التي ينالها الحيف، وتظل مهمشة، ضعيفة، مذلة، ويعيش ابنائها تحت الضغط النفسي؟
واذا كان من باب التشاؤم القول اليوم بان ذلك لم يتحقق، فان مثل هذا التنصل عن الاخر الضعيف يهدف الى ممارسة السلطة نفسها بدور التغطية تحت ستار سميك من ضجيج الدعايات والاوهام والشعارات الفارغة لتضفي بالصمت على مشروع الابادة الجماعية ضد الاقليات الدينية وتهجيرها قسرا عن وطنها.
لانريد استخداما استهلاكيا لشعارات المساواة والديمقراطية وحقوق الانسان، فالهزيمة المنكرة لنا جميعا هي اولا هزيمة النظام والطوائف المتطرفة بمليشياتها، التي تقود حركة المجتمع، والتي عملت وتعمل اليوم لانتاج استلاب الآخر الشريك والضعيف بوجوده وحقوقه، والتي تترجم على الواقع بحملة ابادة معلنة، تظهر توحش الاغلبية المتفاقم، التي تمارس وبشكل متزامن مع ارهابها، الاكراه الفكري وفرض التصور الواحد على الجميع لتغطية مصالحها السائدة، ومنع حرية التعبير والتفكير وتحطيم وعي الاقليات الخاضعة لها.
المجتمع الذي يعجز عن توفير شروط انسانية لوجود واحدة من مكوناته، وضمان حريتها في ممارساتها المدنية، يحكم على نفسه بالفناء ويقضى على شرعيته كوجود مستقل ومتميز، بعد ان اصبح العنف مبررا وشرعيا عند العديد من طوائف المجتمع وشرائحه المتشددة، واصبح الاقتتال شيئا طبيعيا ليقود الى التدميرالذاتي.
ان اطلاق التفسيرات السهلة والمتحيزة بان الجماهير الشعبية العراقية لم تكن واعية لمصالحها او انها غارقة في الجهل العميق الذي دفعتها اليه اربعة عقود من الخضوع للنير الفاشي، نرد عليه بالقول : بانه متى اصبحت الجماهير العراقية واعية وكيف؟ ان المصير المظلم والاخفاق الذي وصلنا اليه والتفكك المتعاظم وانفراط اللحمة الاجتماعية بين مكونات الشعب العراقي، لم تكن اسبابها بالبساطة التي يتحدث عنها البعض. علينا ان نعيد النظر من جديد في بديهياتنا، ان نراجع مسلماتنا التي كانت وظلت حتى اليوم قاعدة تبرير للارهاب وحرب الابادة اللتين تتعرض لهما الاقليات الدينية، اذ لم يكن لهذا الارهاب والقمع الذي تعيشه الاقليات الدينية ومنها طائفتنا المندائية ان يستقر ويستقيم بهذه السرعة لو لم يكن فكرنا حمل في رحمه بذور عفنة للممارسات اللاانسانية.