| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

موسى الخميسي

 

 

 

الجمعة 23/1/ 2009



جواد الاسدي يعري واقع العراق بحمام بغدادي

موسى الخميسي

في الطريق مع جواد الاسدي لرؤية البروفات الاولية لمسرحية" حمام بغدادي" التي تعرض هذه الايام ، في العاصمة اللبنانية بيروت، توقف صديقي جواد قبل الدخول الى القاعة ليقول لي:"بئس لاي ممارسة فنية في شعب لاتوجد به فسحة من الديمقراطية بكل مفاهيمها الاجرائية،ان المثقفين العراقيين اصبحوا في جحيم الخيارات تجاه افرازات وتداعيات واقع العراق"
السخرية اللاذعة التي تشبه وخز بالابر والدبابيس ، وظفهّا جواد الاسدي في عمله الجديد الذي تتعرى بداخله حقائق كثيرة، لتكشف عن المعادلة التي تقول" مع الوطن او مع الاحتلال" وفي ظل هذه المعادلة تضاربت الاراء والتأويلات والتوجهات، ومعظمها انجّر نحو ساحة الاحتراب والاتهام والمواقف النفعية، حيث نفثت منه روائح المصالح الشخصية والطائفية الضيقة، لتتكرس ثقافة التخوين التي انتجتها حالة الصدام التي يعيشها الوطن ، والتي تدور رحاها في عراق اليوم. ومسرحية " حمام بغدادي" عملية فضح سياسي لواقع تميزت اوضاعه الحالية بالقتل والدمار والانفجارات وتوزيع صكوك الوطنية المختومة باختام الطائفية لتحول هذا الوطن الى عقار يتسابق الجميع من اجل امتلاكه لوحده وتحت يافطة الدفاع عنه.
انها ممارسة نقد جارح للناس تجاه ذواتهم بالسخرية والتفكيه على الاحداث التي تقع . فالضحك بشكل واع لربما يضمد الجراح الانسانية ويقدم متنفسا، وهذا ما استخدمه جواد الاسدي في حمامه في تقديم واقعة بدون رتوشات او تزويق، بحيث تفرض عليه الحنكة في الابداع ليس من اجل التماهي والتحايل على تقديم مضمون فكرته بل يشترط ضمان شحنة قوية من الاختزال وخفة الدم والروح ،التي عكست نفسها بالحوار الساخر الذي طغت عليه الفصحى المطعمّه بالعامية العراقية .
صوت المياه الذي صاحب في بداية العرض الدخان على هيئة ابخرة، وايقاع القباقيب التي اثارت جلبة في المكان والخلفية الكبيرة لجدار ابيض رسمت عليه بعض التخطيطات لحالات وممارسات من يمارس هذا الطقس الشعبي العام نفذها الفنان العراقي جبر علوان، وتثبيت مقاعد خشبية صغيرة تدور حول" بانيو" ابيض طويل انتصب في مقدمة خشبة المسرح ، كاشارات لفعل التطهير والاغتسال الذي يكون لصيقا بفعل الاستحمام، الذي حوى كل من بطلي العرض حميد ومجيد( الاول يؤديه نضال سيجري ، والثاني فايز قزق)، هما شقيقان عراقيان يعملان سائقين، وبمناسبة وجودهما في الحمام حيث يتم الكشف عن دواخلهما لتتم عملية فتح صفحات العتاب المؤلمة لمسيرة شعب يعيش حالة التباس في قراءة واقعه اليومي، تتبادل فيه الادوار وتختلط المفاهيم ،من خلال تفاصيل الحياة التي يعكسها الحمام كرمز للتعري، باسلوب تناول طبيعة التعامل مع قضايا ساخنة ضخت من خلالها منبهات واحقاد وانتقادات وتشخيصات ، وفي قالب ساخر وبلاغة قصوى، وسط ازمنة الاحتقان والجدب والصراعات والعنف. فالاخ الكبير مجيد، وهو النموذج للانتهازي" خادم الشيطان" وكلب الحراسة لاصحاب المصالح، الذي يقضي اوقاته في احضان العاهرات، ولم يكلف نفسه بالمشي بجنازة ابيه، يجد نفسه متملقا لكل من يزيد ماله ومجتهدا سواء اكان مصيبا او مخطئا لخدمة من يدعم ثرواته واحلامه المهووسة..
اما الاخ الاصغر حميد( حمودي) فهو الانسان الضعيف، المتملق لصفقات اخيه الكبير يعيش حالة الاحتقان والجدب، وهو المرآة التي ينعكس عليها كثير من اوجه وصور هذه العلاقة الاشكالية بين الانسان البسيط وسلطة التضليل التي يقودها اخوه من اجل الهروب الدائم الى الامام الذي يجبره على التلهي بسخريته بعيدا عن القضايا المصيرية المطروحة امامه.
النموذجان، هما واقع عراق اليوم، الاول متحالف مع القوات الامريكية المحتلة ومتورط في عمليات القتل الجماعي والابادة مع النظام السابق من اجل زيادة امواله، والثاني متورط مع نفسه ومحباته العائلية وطيبته واستلابات اخيه له وسلطته وسطوته التي لاتكل سطوتها ولاتشيخ ولا يكل بصرها ولا يثقل سمعها ولا ترى ولاتسمع الا ما تطرب له ويسرها ولسان حالها هو الربح حتى وان تحالفت مع الشيطان .
ينقسم العرض الى ثلاثة اجزاء: الاول الذي يجري داخل الحمام بين الشقيقين، والثاني يجري قريبا من الحدود العراقية الاردنية حيث ينقل الاخ المستبد مورطا اخيه بنقل مرشح عراقي للانتخابات العراقية متحالف من قوات الاحتلال من الاردن وعدهما بالحصول على المغانم والثروة والجاه ،الا انه يموت في الطريق، بين عمان وبغداد، وحين يحاول الاخ الكبير ادخال الجثة وما ان يفتح تابوتها الخشبي، وهو في مشادة مع مجندة امريكية من قوات الاحتلال، حتى ينفجر بوجه التابوت الذي يمثل احدى المفخفخات لتصيبه بالعمى. وعلى اثر ذلك يعلن حمود قرفه من افعال اخيه الكبير، فيرينا الاخوين وهما بملابس ثقيلة امام تابوت وحاجز عسكري وزنزانة انفرادية.
المشهد الثالث يمثل العودة الى الحمام حيث يظهر الاخ الكبير المحابي للامريكان فاقد البصر، فالانفجار احدث شرخا كبيرا في حياته، ليجد ضميره مفككا لا يستطيع ان يبزغ ثانية في فضاء بهوية انسانية مستقيمة فقدم اعترافا وطالب بالتوبة، متمنيا ان يغفر له العالم افعاله.
المسرحية هي قراءة لواقع الوجود الاشكالي الذي يجسم العلاقة واستراتيجيات القوى المتصارعة وفضاء الانسان العراقي الذي تقاعدت احلامه وبقيت مجرد غبار في ذاكرة الوطن ليتم تعريتها في واقع مجازي هو الحمام يرمزالى الداخل المهدد على الدوام بانفجارات الخارج كصورة مصغرة لعراق اليوم ، حيث تتم عمليه استعراضية لتهميش الزمن والانساق الاجتماعية وتخلف الانسان الذي تمزق امله في "يوتبيا" التحرر من فاشية النظام السابق وهو يبحث عن مدينة فاضلة جديدة وعدت بها قوى وطوائف ودول وتحالفات واحزاب وعشائر،
فان افق الحرية التي يتوق اليها هذا الانسان تقابلها عبودية جديدة لاتتورع عن فعل اي شيء وكل شيء للوصول الى الهدف الذي اصبح تابوتا وحاجزا عسكريا وزنزانة انفرادية .
 


 

free web counter