| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

موسى الخميسي

 

 

 

 

الأثنين 20 / 11 / 2006

 

 

في الذكرى العشرين لرحيل شادي عبد السلام .. تجربة رائدة لم تكتمل


موسى الخميسي - روما

بمناسبة مرور 20 عاما على رحيل المخرج السينمائي شادي عبد السلام (1930- 1986) يعرض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" الثلاثون" الذي يقام في الفترة من 28 تشرين الثاني إلى 8 كانون اول المقبل فيلمه الاشهر " المومياء" الذي اخرجه عام 1969.
ويعتبر شادي عبد السلام مخرجاً مبدعاً وفريداً، بالرغم من موته المبكر الذي لم يمنحه فرصة المضي في تكريس تجربته الرائدة في عالم السينما. فبالرغم من ان عدد الافلام الروائية التي اخرجها لم يتعد الفيلم الواحد، الا ان (رابطة النقاد الدولية) في مدينة فيينا اختارته ضمن اعظم مائة مخرج في تاريخ السينما العالمية، وذلك ضمن احتفالات الذكرى المئوية لولادة الفن السابع.

بفيلم "المومياء" الروائي، تحول هذا الانسان إلى اسطورة، رغم مواجهته بداية نوعا من العزلة وسوء الفهم في بعض اوساط السينما المصرية والعربية، فهو يقول عن فيلمه من خلال اخر لقاء صحفي اثناء فترة علاجه باحد مستشفيات سويسرا" علاقتي بهذا الفيلم قوية جدا وذلك لانني احسست من خلال حياتي العادية واطلاعاتي وخبرتي ان التاريخ المصري مهمل وليس له صاحب. ويدور محور المومياء حول هذه الفكرة، وهل سيأتي يوم تعاد فيه قراءة هذا التاريخ ام انه اصبح مهملا إلى الابد؟ وقد قرأت قصة المومياء مكتوبة كمحضر للبوليس في عدة كتب اجنبية كحدث بوليسي فقد اكتشفت مقبرة فيها عدة مومياءات سرقت كلها ثم اعيدت ووضعت في المتحف المصري حيث تم التعرف عليها وعرفت شخصياتها وكانها بذلك عادت للخلود ثانية فطالما عرف الاسم وبقي فهذه العودة للحياة والخلود. وهذا هو جوهر الديانة المصرية القديمة وهذا ما اردته من الفيلم لان الفكرة في الفيلم تحقق عدة اهداف كقضية اكتشاف وكوعي تاريخي وتعطي معنى الخلود وتسجل الحادث"
بعد سفرة لاوربا بهدف دراسة المسرح، عاد شادي عبد السلام الذي كان مهووسا منذ طفولته بالرسم والقراءة، ليلتحق بكلية الفنون الجميلة، وليتخرج من قسم العمارة. اول عمل قام به بعد تخرجه، هو تصميم ملابس للافلام، كان احدها بدلة رقص للفنانة الراحلة تحية كاريوكا، اصبحت فيما بعد موضة شائعة في الوسط الفني، اما في مجال السينوغرافيا فقد صمم ديكور اغنية" حبك نار" لعبد الحليم حافظ. وما بين تصميم الازياء وعمل الديكورات، كان خطوط العمارة واضحة في بصماته. وقد تجلت في تصميمه الاغنية الجماعية لعدد من المطربين" وطني الاكبر"، ثم اعقبها بوضع ديكورات افلام متعددة مثل" واسلاماه" و" شفيقة القبطية" و" المظ وعبده الحامولي" و" رابعة العدوية" و" الخطايا" و" الناصر صلاح الدين" وكان اهم ما يميزها هو اقتراب الديكور من اللوحة الفنية الجدارية.
بعد ان استكمل ادواته الفنية، اتجه شادي عبد السلام، ليكون مساعد مخرج في افلام مثل" الوسادة الخالية" و" الطريق المسدود" و" انا حرة" و" حكاية حب" وفيلم " ارحم قلبي". وكان مساعدا لرائد الواقعية المصرية صلاح ابو سيف في فيلم" الفتوة" والذي يعتبر واحدا من اهم الافلام الواقعية في تاريخ السينما العربية.
كان لعمل شادي عبد السلام مع رائد الواقعية الايطالية الجديدة روبيرتو روسيلليني في فيلم" الحضارة" اثر كبير عليه، دفعه للتفكير جديا في الاخراج بعد ان هيأ نفسه عمليا ونظريا، واستطاع الالمام باصول المهنة. وكان متهيئاً بحكم ذائقته الجمالية العالية، وموهبته في الذهاب إلى اعماق الفن المعماري الهندسي، بشكل خاص. كل هذه العوامل كانت تؤهل شادي عبد السلام للخطوة التالية.
يقول شادي عبد السلام" انني اقوم بالرسم والتصوير ولكن احتراف التصوير كفنان تشكيلي لايرضي طموحاتي البتة فالتصوير عندي دائما موظف ومهنة الفنان التشكيلي لا تشبعني فانا ابحث دائما عن الحركة وهذا ما توفره السينما لي".
هكذا جرب مخرجنا الراحل نفسه في افلام تسجيلية غلب عليها رغم تسجيليتها الطابع السردي الصوري. وكانت محاولاته في " الفلاح الفصيح" و" آفاق" و" جيوش الشمس" و" الاهرامات" و" كرسي توت عنخ آمون" تعبر عن امتلاك للادوات السينمائية وشغل نظري وعملي على الصورة قريبا من اللوحة، بعيدا عن الحركة العشوائية، منظما ودقيقا يحكمه المنطق والرؤيا السينمائية التي تعبر عن ارادة وتصميم للتعويض عن الثرثرة بلغة سينمائية، حروفها الصورة والمشهد. كل ذلك بمنطق وأفق هندسي بنائي معماري، لعب فيه عنصر توازي الخطوط واستقاماتها جانبا رئيسيا.
منذ عام 1963 وشادي عبد السلام يحضر لفيلمه الوحيد" المومياء". وبعد نكسة حزيران عام 1967 بثلاثة أشهر، شرع المخرج وهو نفسه كاتب نص وحوار الفيلم، بالتصوير، لينتهي منه عام 1969، وليعرضه للنقاد والصحفيين والمهتمين بالشان السينمائي. الا انه اصطدم بالعديد من هؤلاء، وحصل سوء فهم مع البعض الاخر، الا ان ثلة من المبدعين الحقيقيين، احتضنته وشجعته لتقديم فيلمه بالمهرجانات العالمية. فقد لفتت لغة الفيلم السينمائية العديد وابهرتهم فيما هاجم آخرون الفيلم لصعوبة قراءته جماهيريا. يقول شادي عبد السلام" احاول دائما معرفة نواحي الغموض وشرحها، اما قضية الجمهور فانا لا اضعها في الحسبان ولاتخطر على بالي اثناء اعداد الفيلم فانا اعد الفيلم كعمل فني بامانة وذلك دون وضع قضية الجمهور والشباك حتى لا تؤثر على عملية اعداد الفيلم بصدق وامانة فانا ارى ان جمهوري هو مصر فالفيلم اعده لمصر ويظل لاصقا بمصر فاذا اخطأ مشاهد ودخل الفيلم ولم يرقه فهذه قضيته فالفيلم عندي يعمل من اجل مصر. ويظل حاملا هذا الاسم مثل بقية افلامي التي اخرجها".
اختلط رد فعل النقاد والصحفيين وغالبيتهم من المثقفين سينمائيا، وغلب على رد فعلهم الموقف العدائي: الدهشة والمفاجأة. يدخل هنا عامل مشاركة فيلم المومياء" في المهرجانات الدولية، والتقديرات والجوائز التي حصل عليها الفيلم مثل جائزة" جورج سادول" التي تمنحها جمعية النقاد الفرنسيين السينمائيين لافضل فيلم اجنبي عام 1970، وحضور هذا الفيلم في مهرجان" أبيير" بفرنسا، والبندقية(فينسيا) في ايطاليا، ومهرجان لوكارنو الدولي في سويسرا، ومهرجان قرطاج بتونس حيث فاز بجائزة النقاد سنة 1970، ومهرجان الفيلم بلندن، اضافة إلى مهرجاني طهران ودلهي، ساهم كل ذلك في اعادة الاعتبار للفيلم ومحاولة قراءته بشكل مختلف.
فقد كتب الناقد الانكليزي في مجلة" سايت آند ساوند" قائلا" لقد عثر شادي عبد السلام وهو يبعث الحياة في الروح المصرية القديمة على لغة جديدة مدهشة، عجيبة، وتحمل خصوصية".
كان اهتمام شادي عبد السلام مرتكزا بشكل اساسي على البحث عن شكل سينمائي مغاير من خلال العودة إلى اصول الفنون التشكيلية المصرية القديمة. واذا ما حاولنا ابراز ملامح هذا الفن، فاحدى خصائصه كما تركتها آثار الاجداد الخالدة كانت في اتجاه فنونهم اتجاها هندسيا ونحو الهندسة المعمارية التي تتسم بالمتوازيات، من اجل التعبير عن جوهر الاشياء. اذا بالتجريد والرمز يحاول الفن التعبير فكريا عن الخالد والمطلق في الاشياء مع رصد للحركة ضمن خطوط التوازي والتقابل للطبيعة والتي تنعكس على نفسية الشخصيات كما طرح شادي عبد السلام ذلك في الفيلم. فالشخوص مأخوذة بين خطوط تتوازى وتمتد، والسكون سمة الطبيعة. فهو يقول
" اعتقد ان خيالي بصري بالدرجة الاولى ولهذا افلامي في معظمها قليلة الكلام" ويضيف" اعتقد ان المتلقي الذي يشغلني اثناء الفيلم مثقف وتشغله القضايا ذاتها التي تشغلني وعلى وعي ثقافي فمناقشة الرجل الجاهل مستحيلة".
وعبر التجريد، عالج شادي عبد السلام مسالة الحركة والسكون، ملتزما وباعثا الحياة الداخلية للشخوص على غير ما يوحي به المظهر الخارجي للشخوص. فاذا كانت التماثيل الفرعونية تظهر وكانها عديمة الانفعالات، فان الايحاء بالرهبة والعظمة تعكسهما حالة معينة من العمق تبدو مرسومة عليها. كذلك فان الجداريات المرسومة وكما في التقليد القديم، تلفت المشاهد إلى نقطة الوسط او مركز الجدارية لانها تسعى إلى ان يلتفت الناظر نحو العمق، لا إلى السطح الامامي او للمستويات الجانبية. بذلك فان ميزة الفن المصري القديم هي تجميع الانتباه نحو العناصر الداخلية الباعثة على الاحاسيس، وهو فن لايعنى كثيرا بالحركة بل يهتم بالسكون، بالصمت، بالتأمل، وبالانفعال الداخلي.
عالج شادي عبد السلام ذلك في الايقاع العام المتمهل للفيلم من حركة الممثل إلى حركة الكاميرا وتقابلات المشاهد، بحيث يتأمل المتفرج عناصر الفيلم البصرية، ويربط بالاحاسيس بين قيمها الدرامية. ولعل مشهد بطلة الفيلم (نادية لطفي) يعكس حالة التأمل في البعيد، والاحاسيس الفياضة بينما تضطرم في داخلها الانفعالات المتضاربة حين يعرضها ابن عمها للبيع لـ(وانيس)، وفي نفس تلك اللحظة يولد الحب بداخلها نحو هذا الساكن امامها، كتمثالين في قبو قديم او معبد مهجور.
وعالج شادي عبد السلام السكون اكثر من مرة في هذا الفيلم، وبدا ان التقشف والبساطة واستخدام الديكور الطبيعي كما لو ان المخرج اراد ارساء علاقة ما بين التبدل والاختلاف والطبيعة نفسها. فبدت شخوص الفيلم قريبة جدا من هذه الطبيعة، وظهر ذلك جليا في دور الممثلة(زوزو حمدي الحكيم) التي لعبت دور (ام وانيس) في المومياء

متربعة مرة على اريكة، ومرة اخرى وهي واقفة، في ظلال المعبد القديم، وكانها كتلة راسخة لا يتخللها فراغ وبحيث يركز المشاهد على انفعالاتها الداخلية. وقد لعب استخدام الموسيقى والتاثيرات الطبيعية في ربط ايقاع الفيلم بحيث ظهر صراع البطل وانيس(قام بالدور احمد مرعي) محاطا برجال ونساء القبيلة.خارجا من ديكور الارض الصلبة وكانه صراع تكفي هبة ريح واحدة لكي ياخذ منحى اخر واتجاها اخر.
نرى ان الشخصيات الرئيسية تتبع المسارات المستقيمة بزواياها الحادة بتأن وصرامة. وتظهر هذه المسحة الجدية والصارمة في اختيار خطوط الملابس والوانها وفي التضاد الحاصل بين الالوان، وهذا طبعا كله تأثير للفن التشكيلي والمعماري.
كان الاستخدام الرائع لفن العمارة متمثلا في الديكور الطبيعي العام وللاثار التي تدل وتؤدي بنا إلى حضارات الاجداد. كان هذا الاستخدام ذا دلالات كثيرة ارتبطت في تعابيرها غير المباشرة بالنظر إلى التاريخ البشري ومساءلته. وطرح هواجس الفنان على ارضيته. فالسكون والثبات في مواجهة الزمن وتحديات الطبيعة يكون مجديا ونافعا فيما يتعلق بالمباني والاثار. لكن الانسان مجبر على الحركة والتغير والتأقلم مع مستجدات الزمن والطبيعة، لذلك فالبطل الذي يواجه صراعين في الوقت ذاته ينظر مرة إلى تاريخه الحضاري وارثه المعماري كدليل وشاهد، ثم ينظر مرة اخرى إلى نفسه ويسائلها، ويفكر متأملا في اجوبته كيف ستكون؟ اي غرض وهدف ستؤدي هذه الاجوبة؟ هناك الارث الكبير والحضارة الراقية القديمة وهناك ايضا تعقيدات الحاضر وعدم ثبات قيمه. تتنازع شخصية البطل (وانيس)، فهنا عناصر متنافرة بين وفائه لقبيلته وبين انتمائه لما هو اكبر منها الا وهو الوطن الذي له هذا الارث والتراث الانساني الكبير. انه ليس صراعا بين الماضي والحاضر، بل هو صراع على مستقبل القيم المثلى، تلك التي ستصوغ مستقبل الفرد، العشيرة، والقبيلة ومستقبل الوطن برمته.
يطرح شادي عبد السلام مسألة الانتماء، رسوخ الوطن الذي بناه ابناؤه، فقد جاء على الوطن غرباء كثيرون ولكنهم رحلوا ليبقى راسخا ثابتا كالدهر.