| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

موسى الخميسي

 

 

 

 

الثلاثاء 16 / 1 / 2007

 

 

ايطاليا تحتفل بمئوية روسلليني .. المخرج الذي جعل روما مدينة مفتوحة


موسى الخميسي - روما

تمر هذه الايام الذكرى المئوية لميلاد رائد الواقعية الايطالية الجديدة روبيرتو روسلليني، الذي تعتبره ايطاليا بمثابة شعاع من الضوء الساطع في سماء الفن السينمائي، اذ تقيم معظم المدن الايطالية الكبرى، وخاصة العاصمة روما، احتفالات خاصة بهذه المناسبة، حيث تجرى عروض افلام ومعارض وندوات للفنان الذي طالب جميع السينمائيين الايطاليين للخروج الى الحياة وعدم الاختفاء داخل جدران استديوهات مدينة السينما
" جينا جيتا" في مدينة روما، وصناعة الافلام التقليدية. فبشر بخلق سينما جديدة تمس موضوعات الناس باشكال واساليب ذكية، تكون صوتا عاليا ونافذا بلغة تخاطبها، والقادرة على ان تقول" لا" للظلم والفساد والقهر والتسلط،فرفع شعاره الخالد" قبل كل شيء.. علينا ان نعرف الناس كما هم" في محاولة رائدة لاستنهاض السينمائيين الايطاليين للتعبير عن قيمة الانسان والتأكيد على حقه في الحياة الشريفة، الآمنة.

لقد ادرك روسلليني مدى الحرية التي يتمتع بها في استخدام الاسلوب السينمائي المناسب لموضوع الفيلم، اي ان يطرح موضوعات او حالات معينة تتطلب استخداما مختلفا للكاميرا والصوت، وبذلك نقل السينما الايطالية الى الاتجاه الجديد في العصرانية. كما انه حافظ على تقليد آخر اتبع قبل الحرب العالمية الثانية يكمن في بناء الفيلم حول موضوع رئيسي او مشكلة اجتماعية بدلا من بنائه حول قصة، فقد فضل المقارنة بين السلوك الانساني والعواطف الانسانية، والصراعات بين الوحدة الانسانية والكل الاجتماعي، معتمدا على اسلوب السرد السينمائي الشبيه بالتوثيقي، مستعينا بممثلين غير محترفين وبموارد محدودة للغاية، ومعتمدا على التصوير على الطبيعة في شوارع وازقة وبيوت مدينة روما، دون الحاجة الى استخدام استديوهات او ديكورات.
لعل سر النجاح الفني والفكري لافلام روسلليني هو انها اثارت الاسئلة نفسها التي تثار عادة في افضل روايات القرن العشرين ومسرحياته وفنونه التشكيلية، في بحثها عن قيم انسانية عميقة، من خلال افكار بسيطة عميقة بلمحات ونبرة انسانية، بعيدا عن النهايات التقليدية السعيدة التي اقترنت بالافلام الايطالية ما قبل مرحلة التحرير والتي تشتمل عادة على احدى نهايتين او كلتيهما معا: زواج البطل من بطلة الفيلم، وانتصار الخير على الشر. اضافة الى ان افلامه لم تستند الى روايات او مسرحيات معروفة، بل كانت قصصها اصيلة ووليدة افكار المخرج والناس الذين يحيطونه.
قال روسلليني في بدايات عمله السينمائي وحال سقوط الفاشية في بلاده" يجب علينا حمل الكاميرات، والانطلاق الى الشوارع وندخل البيوت، اذ يكفي الخروج الى الطرقات، والوقوف في اي مكان وملاحظة ما يدور بعيون يقظة لكي نخرج فيلما ايطاليا حقيقيا" على اعتبار ان الفيلم السينمائي يمثل وسطاً مرئياً في جوهره، ويتحتم ان يقوم على اساس الواقعية المرئية التي تتمتع بالروح النقدية التي هي" التفسير الابداعي للحياة الواقعية" كما وصفها في احدى المرات، فصارت افلامه التي كانت تميل نحو الوثائقية اكثر منها عن السينما الروائية التقليدية، نموذجا للانطلاق لما تمتاز به من ثراء بالغ في وحداتها التعبيرية وتعدد صورها الفكرية،كما هو الحال في فيلمه الشهير" روما مدينة مفتوحة" الذي اصبح واحداً من المرجعيات السينمائية في جميع انحاء العالم،في كل حديث عن السينما الواقعية، لما خلقه من تأثير واضح على التطور اللاحق لفن السينما، بتجديد المفهوم الدرامي،وصدمة الوعي الانساني المتعلق ببعض الحقائق الموضوعية الاجتماعية التي تسير عادة نحو التغير بخطى بطيئة ومتناقضة احيانا مع نفسها، فكان هذا الفيلم جنبا الى جنب العديد من الافلام التي ظهرت في الفترة ذاتها مثل " الاطفال ينظرون الينا" و " سارق الدراجات" لدي سيكا، و" الوسواس"و" الارض تهتز" لفيسكونتي، ومن قبلهما " منضدة الفقراء" و" عام 1860" و" الحارس العجوز" للمخرج السنادرو بلازيتي، تقترب من حدود الميلودراما، وتنبض بما يحمله الشارع والحياة اليومية للناس، لتخلق معادلة جديدة توفق بين رغبات المثقفين المجددين، وقلوب وعقول المتفرجين من عامة الناس، وكانت اغلب اعماله الفنية تتناول بالتحليل علاقة الفرد بالمجتمع، والدخول المباشر لقضاياه ومشكلاته، هواجسه واحلامه، طموحاته وانكساراته،والملامح الخاصة التي تميز وجوده وتدل عليه، وهو جانب اهمله الكثير من المخرجين الايطاليين من قبله، اثناء الفترة الفاشية بشكل عام تحت اغواء فكرة الدور الاجتماعي المباشر للفن السينمائي، اذ لم يكن كافيا لدى هذا الفنان تناول ما ينتج من ابداعات سينمائية مبسطة اجتماعيا لتجذب المبدعين والجمهور، فهو وجد نفسه وفنه مغرقا في البحث في موضوعات تتناول بشمولية موضوع العلاقة بين السلطة والطبقات المسحوقة وتطلعاتها، المؤسسة والمجموع، ليسبر اغوار دور الفرد في المجتمع والتعبير عن علاقة هذا الفرد بذاته وبالعالم على صعيد روحي ومادي، نفساني واجتماعي، وما ينتج عن هذا البحث بالضرورة من طروحات جمالية جديدة على الشاشة الفضية شكلت فارقة في مسيرته كمبدع كبير.
كانت له رؤاه الخاصة المعبرة بصدق وحرارة عن ضرورة التواصل مع كافة اصناف الابداع، وتيسيرها امام الانسان العادي ليكون خلاقا وعلى صلة بما يحيط به من حراك ثقافي وفني، فحررت دعواته طاقات عدد كبير من المخرجين وخاصة بين الشباب السينمائي اليساري بعد ان بين لهم السمات الابداعية المطلوبة والتي تتمثل في قدراتهم الذاتية باعتماد الوسائل البصرية واهمال الكتب لابراز الاصالة في المعالجة الواقعية للاحداث والشخصيات ونقائصها وعيوبها لاشعار المتلقي بالحاجة الى التغيير وخلق بدائل جديدة، تستمد قصصها وحكاياتها من العلاقات اليومية للناس ومن داخل طبقات المجتمع المتفاوتة لمصائر شخوصها. فانطلق الى السعي لاقامة منبر سينمائي خاص لكل المهتمين بالثقافة السينمائية والباحثين عن رقعة توسيع دائرة اهتمامهم بتنويعات فيلمية رصينة، فأسهم باقامة ركائز لثقافة سينمائية جديدة تلعب دورها في تشكيل وعي وطني جديد بعيد عن الافكار الفاشية التي سادت لعقود طويلة في الواقع الثقافي والاخلاقي الايطالي.
وتتأكد مساعي روسلليني هذه عند النظر الى مجمل اختياراته السينمائية التي ركز خلالها ليس فقط من زاوية واحدة او اتجاه واحد، اي النظر الى الوعي الجديد ما بعد مرحلة الفاشية باعتباره وعيا سياسيا فقط او وعيا ايديولوجيا واجتماعيا، بل كل ذلك معا، اضافة الى الوعي الجمالي الفني، تتأكد بطرحه السؤال الدائم حول علاقة السينما بالواقع الاجتماعي ومدى نجاحها في التعبير عن قضايا المجتمع والانسان بصدق، وهو الامر الذي جعله ينجح حقا بايجاد حلول جماعية، على ضوء قناعته الراسخة بان السينما ممارسة اجتماعية، الى جانب كونها ظاهرة اجتماعية وثقافية ولها علاقة مباشرة حميمة بالوعي الجماهيري.ومنذ بدايات عمله وهو شابا بعد وفاة والده كمشرف على الصوت في انتاج الافلام، كان يحمل قناعة بان بلورة الفيلم وتكامله تتم، من خلال البروفات التصويرية، لتعطي تلك البروفات للنص الذي يريد المخرج صلاحية التكامل الحقيقية، فهو يعتقد بان كل نص مكتوب يحمل بداخله مستويات اعمق، وفي حالة تصويره، تتشكل قراءة جديدة له، بحيث يصبح عبر البروفات المتعددة نصا جديدا ينتمي الى مخرجه، فكل نص مكتوب يحمل رؤى كاتبه، الا" ان المخرج يحمل رؤيته المختلفة في التفسير نتيجة افكاره وطموحاته ورؤيته الخاصة".
يقول روسلليني" لقد اكتشفت عالم السينما بالصدفة،، فقد تاثرت بفيلم للمخرج فيدور واسمه" تجمع" وهو من الافلام الكلاسيكية التي قدر لي مشاهدتها، حيث كنت اذهب للسينما بشكل دائمي لان ابي كان يمتلك داراً للعروض كانت في البدية مسرحا صغيرا اطلق عليها اسم" سينما كورسو" وكان شخصا ذا مواصفات لها خصوصيتها وكنت احبه بعمق، لانه كان رجلا بعبقرية ذهنية كبيرة، وكان معلما لما يبنيه، كما انه يمتلك كل مواصفات المثقف الواعي، فترعرعت في اجواء تربوية لها خصوصيتها. وحين كنت صبيا زودني ببطاقة دخول مجانية دائمية لمشاهدة ما تعرضه صالة سينما كورسو في قلب روما لابدأ رحلتي في مشاهدة عشرات الافلام التي اغوتني في عوالمها، وبعض الافلام كانت تسحرني تماما بنفس القدر الذي تسحر والدي، وهكذا بدأت اهتماماتي بعالم السينما".
وهكذا اعتبر روسلليني صناعة السينما واحدة من ابرز مسؤولياته، ينتقدها ويحللها ويقومها ويتعامل مع انماطها وظواهرها المختلفة مطبقا عليها منهجه الفكري والجمالي، في اختيار متميز للتعامل مع ابداعات الفن السينمائي في ايطاليا وخارجها، واثراء هذا الفن وفتح آفاق جديدة لتطبيق المعايير والمقاييس النقدية الجديدة من خلال استفادته من تجارب الاخرين الذين سبقوه والتعلم منها. وكان اول عمل سينمائي له، هو فيلم وثائقي انتجه عام 1938بعنوان " استراحة الفاونو"، مما جعل المخرج كورفريدو الساندريني يستدعيه للعمل كمساعد مخرج له في فيلم" الطيار لوشانو سيرا" والذي خلق طفرة كبيرة في السينما الايطالية آنذاك . وفي عام 1940استدعاه المخرج فرنشيسكو دي روبيرتس للعمل معه كمساعد مخرج في فيلم" رجال في الاعماق"، وارتبط بعلاقة صداقة مع فتوريو موسوليني ابن الديكتاتور الايطالي، الذي كان مسؤولا عن قطاع السينما، الا ان روسلليني لم يعمل في اي من تنظيمات الحزب الفاشي. ثم جاءت اول افلامه الروائية" السفينة البيضاء"عام 1941، ومن ثم اعقبه بفيلم" الطيار العائد" عام 1942، و" رجال الصليب" عام 1943، وفي تلك الفترة ارتبط بعلاقة صداقة وعمل مع كل من فيلليني والممثل الدو فابريتسي. بعد اندحار الفاشية في مدينة روما عام 1943 بدأ روسلليني عمله بفيلمه الشهير " روما مدينة مفتوحة" الذي قدمه كمخرج مرموق، قام ببطولته الدو فابريتسي، اما بقية الممثلين فكانوا من عامة الناس. وبعد فيلمه الثاني" بايزا"، بدأ باخراج فيلم" المانيا العام صفر" الذي اخرجه عام 1946، وفي عام 1948 تسلم رسالة من ممثلة اجنبية شهيرة اسمها انجريد برغمان تثني على فيلميه" روما مدينة مفتوحة"و" بايزا" وتدعوه الى الاستفادة منها كممثلة في حالة حاجته لوجه نسائي من السويد يتحدث الانكليزية بطلاقة، فهي لن تنسى اللغة الالمانية، اما في الايطالية فلاتعرف سوى جملة" انا احبك"، وعلى ضوء هذه الرسالة، بدأت واحدة من اشهر قصص الحب بعد انجاز فيلم" سترومبولي ارض الرب" بطولة برغمان، ومن ثم فيلم " اوربا 1951، وفيلم ثالث" سفرة في ايطاليا". وقد قدم روسلليني للشاشة 50 فيلما كتب قصة وسيناريو 43 منها.
يقول روسلليني" افلامي تعكس جزءاً كبيراً من حياتي الشخصية. هي اشبه بالوثائقيات السينمائية يمكن رؤية الكثير من فنطازيا مرحلة الشباب التي عشتها، واكتشافات الحياة، مثل الزنبور" الدبور" الذي ظل يطنطن للاسماك المارة امام مرآة الماء. بعدها جاءت الحرب والاحتلال، حيث كانت القصص تجيء على ضوء طلبات الذاكرة، وهي تحكي كل ما كنا نرغب في عيشه".
يقول حول فيلم " روما مدينة مفتوحة" هو فيلم الخوف، خوفنا جميعا، وبالاخص خوفي انا. فانا الاخر كنت مضطرا للاختباء، وانا ايضا كنت هاربا، وانا ايضا كان لي اصدقاء ورفاق القت السلطات الفاشية القبض عليهم وقتلت بعضهم. لقد كان خوفا حقيقيا، لربما من الجوع، اومن التعذيب، في تلك المدينة المفتوحة التي صورتها بفيلمي، لربما بسبب الجوع ولربما بسبب الرعب الذي وصفته في فيلمي هذا، بعدها جاء فيلم" بايزا" الذي وصفه البعض بانه يحمل القصة الاجمل، ولربما الاخيرة والذي يتعرض الى محنة نهر " البو" ومياه القصب، مما جعل الجميع يندهشون من معرفتي لحقائق ايطاليا واقاليمها، فانا قضيت طفولتي متنقلا بين هذه الاقاليم..".
وبمناسبة الذكرى المئوية شاهدت العديد من دور السينما فيلما قصيرا مدته 17 دقيقة من اخراج السينمائي الكندي في مادين بعنوان" ابي يناهز المائة عام من عمره" كتبت السيناريو له ابنة المخرج الراحل النجمة السينمائية ايزابيلا روسلليني، ومثلت فيه. هذا الفيلم هو تحية لابيها. وتقوم ايزابيلا في الوقت الحاضر بمهمة ترميم الافلام القديمة التي اخرجها والدها وهي تقول " لزمن طويل كنا نعتقد بان الافلام القديمة باقية كما هي الى الابد، لكن في الاعوام العشرين الاخيرة ادركنا بان النسخ القديمة لهذه الافلام معرضة للتلف وستكون في النهاية عرضة للامحاء مع مرور الزمن".. وهذه المهمة ( ترميم الافلام) تجعلها تتذكر الوقت الذي كانت فيه صبية، حينما ذهبت لتشاهد احد العروض المسرحية التي كانت امها النجمة انجريد برغمان تلعب الدور الرئيسي فيها، كانت نجمة هوليوود الكبيرة، بعد التصفيق الاخير للجمهور، تبدو مكتئبة، وحين سألها زوجها روسلليني عن السر في حزنها اجابته بانها لاتستطيع الا ان تشعر بالمرارة لاختفاء العرض المسرحي بعد الانتهاء منه، وتقول ايزابيلا بانه من المجحف حقا ان لايبقى من اي مسرحية جميلة سوى قصاصات من النقد وبضع صور من خشبة المسرح ولقاءات مع الصحفيين. كانت امها تقول" من حسن الحظ لاتزال السينما موجودة، ستبقى الافلام الى الابد" لكنها لم تكن مصيبة تماما حول ديمومة الافلام.
وتقول ايزابيلا ان قسما من اعمال والدها روبيرتو روسلليني محفوظة في الارشيف في حالة سيئة ولايتم عرضها الا في اضيق نطاق" لم يعرض في الولايات المتحدة، في السنوات العشرين الماضية، اي فيلم له في التلفزيون، وليست هناك خطط لتحسين اشرطة افلامه او تحويلها الى نظام جديد"ماهي الاسباب؟ تجيب" ببساطة لانه ليست هناك منفعة تجارية.
تقول ايزابيلا" لقد نشأت وسط جدل دائم بين ابي وامي، ابي كان ضد التجارة في الفيلم، وامي هي نجمة هوليوود معقل التجارة، وكان الحال يعني عالمين منفصلين ومتناقضين".


المدى - 13 /1/ 2007