| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. ماجدة غضبان المشلب
Masaash2000@yaoo.com

 

 

 

السبت 5/2/ 2011

 

صفحة من مذكرات الطفولة

ابو الوفا

د.ماجدة غضبان المشلب

كان اسمه ابو الوفا، واسم خطيبته التي حدثني عنها والتي كانت تعيش معه في شقته في لبنان ماجدة ، لم يخاطبني ابدا كطفلة ، فقد سماني منذ اليوم الاول الذي حل به ضيفا على بيت خالي الانسة ماجدة ، وقد اشعرني هذا بشكل خفي وغير مكشوف حتى بالنسبة لي انني انثى.

ربما كان حبي الاول ، لازلت اذكر وجهه الاسمر وجسده المشدود الممشوق، مثلما اذكر الحفرة المستطيلة العميقة في فخذه، حين كشف عنها امام جدتي وقص عليها كيف اجبره الاسرائيليون ان يأكل لحم فخذه نيئا، كان يرتدي زي السبعينيات الذي يكشف عن ذكورة صارخة، قميص ملتصق بشدة بظهره مفتوحا من الامام ليظهر صدره المكسو بالشعر الكثيف تتدلى بين غابات الشعر المثيرة قلادة ذهبية منحوتة على شكل خارطة لبنان ، ومما زاد في تعلقي به تلك الخصل السوداء الكثيفة التي استرسلت حتى كتفيه ، في زمن كانوا يدعونها الخنافس ، وبنطاله الضيق الذي يتسع اسفل الركبة كثيرا (جارلس).

لا اعرف حتى هذه اللحظة كيف تجرأت ان اسمح لكل هذه المشاعر ان تعتمل في صدري ، ولم اكن سوى طفلة بعد لم اتجاوز العاشرة من عمري ، او كيف سمح خيال طفلة ان يقحم نفسه في عالم الكبار النائي ويسمي هذا حبا ، كنت ارتعد حين اراه ، واشعر انني السندريلا الثانية في الكون عندما يحدثني بجدية عن الاوضاع في لبنان وكتاب رأس المال لماركس والمادية الديالكتيكية، بعد ان اخبره خالي انني قارئة نهمة وانه يعول علي وعلى امثالي ان نحمل الرايات اذا غيبهم الموت.

كان موفدا من الحزب الشيوعي اللبناني عاد مع خالي الذي اوفد ايضا من قبل الحزب الشيوعي العراقي الى لبنان ، كان هناك الكثير من الحديث عن السياسة امام طاولة الويسكي وما يصاحبها من وجبات خفيفة، وكان ايضا الكثير من الحديث عن الحب والمرأة وحقوقها وخطيبته السعيدة الحظ كما كنت اراها ماجدة، لم يحددوا موعدا للزواج ولكنهم كانوا على يقين ان هنالك موعدا مع الموت في كل لحظة.

الموت هذه النهاية التي تبدو الان مهولة وبائسة ، لم تكن كذلك حين يتحدث ابو الوفا عن القضية والتفاني في سبيلها والنضال مهما كلف الامر للوصول الى مرفأ آمن ما كان يبدو له قريبا.

عندما سافر لم اجد الجرأة لاسأل خالي عنه، لكني كنت اتسلل خلسة الى غرفته حين يكون غائبا لاقبل صورة ابو الوفا الموضوعة في الدرج مع كثير من الصور الاخرى.

حتى هذه اللحظة وبعد مرور اكثر من خمس وثلاثين عاما يرتجف قلبي منتشيا ، اعلم انه قد استشهد في احدى المعارك مثلما غيب خالي واذيب بعد ان مات في زنزانة التعذيب بماء الذهب ، كأنهم يخشون قيامته كالمسيح ، لكنني لازلت ارى ابو الوفا العشق الذي لم ولن يتكرر، العشق الذي يأخذ في القلب حيزه الاخضر، وما اظنني اجد في القلب اكثر من حيز مزهو بخضرته صيفا وشتاءا مثل الذي اقام فيه ابو الوفا ليذكرني ببهجة الايام الحالمة، ايام العالم البيضاء التي زخرت بأنتصار الشعوب على الطغاة.

لقد ابهجتني دوما يابو الوفا ، لم ارضخ يوما ، ولم اساوم على قلبي، لم انس ابدا انني آنستك منذ تلك الايام التي حللت فيها ضيفا على بيت خالي ، وسأكون كذلك .. وان لم اكن اشد وفاء منك لنفسك ولمبادئك وللوطن .

صدق من سماك ابو الوفا!
 

free web counter