| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. مصدّق الحبيب

 

 

 

                                                                                     الثلاثاء 7 / 1 / 2014



قراءة في كتاب الدكتور علي السعدي
التسويات الكبرى في المقدسات الثلاثة : الدين - الدولة - الانسان

مصدق الحبيب

هل تشير هوية الكاتب وسيرته الى فحوى وغرض وقيمة مايكتب؟ ام ان "الكتابة" بمعناها وتوجهها هي التي تعرّف كاتبها وتسلط الضوء على شخصيته فترسم لنا ملامح سيرته؟ الجواب، على الاغلب، هو ان هذين الاحتمالين يتزامنان في حلقة متصلة يتبادل فيها السبب والنتيجة دورهما بالتناوب والتعاقب. وهذ هو الامر الذي يجعل بالامكان ان نرجع الى ماحيث نبدأ على محيط هذه الدائرة المتواصلة. وقد يعترض البعض بان التعرف على الكاتب ليس باهمية وقدر معرفة واستيعاب مايكتب الا حينما يكون اصطفاء مانقرأ امرا حاسما في جني ثمرات مانتعلم منه وخاصة عند من يبدون اهتماما استثنائيا بربط الاثنين معا، . على انني ارى ان سبب ترجيح تشخيص الكاتب اولا هو ماتتيحه هذه الفرصة من امكانية اتخاذ القرار الانسب بالنسبة للقارئ وممارسة الخيار التي هي في التحليل الاخير هدف المعرفة الاسمى. كنت قد تعرفت على الدكتور علي السعدي من خلال متابعتي لما يكتب فكانت معرفتي به وثيقة كـ"كاتب" للحد الذي اصبح اسمه دليلا عاما لاختيار مااقرأ مع الثقة العالية المسبقة بانني سأتمتع واتعلم من اي موضوع أقرأه له.

يتفرد علي السعدي بطريقته الخاصة في الكتابة والتي لا تحاكي، على حد علمي، ايا من الكتاب العراقيين والعرب الذين شكلت كتاباتهم قوام الخطاب العربي على الاقل خلال القرن العشرين وماقطعنا من شوط في هذا القرن الجديد. يظهر تميز كتاباته جليا خاصة في مسألة ربط التأريخ والاجتماع والفلسفة بالواقع السياسي والثقافي وهو بهذا يقدم النموذج الامثل الصالح من الكتاب الذين تقف الثقافة العربية اليوم بأمس الحاجة لهم. فهو باحث اكاديمي تدرب على اصول البحث العلمي الجاد في علم الاجتماع ، ومحلل سياسي حصيف يمتلك ادواته التحليلية الملائمة ويستخدمها بالطريقة السليمة، وكاتب موسوعي شامل ولكن ليس بالمعنى التسطيحي للموسوعية في امتدادها الافقي من المعارف والذي قد يكتفي بالطفو على اكبر مساحة ممكنة من الموضوعات، انما بمعناها العمودي المكثف الذي تستلزمه الضرورة والذي يلزم بدوره الكاتب ان يغور الى الاعماق التأريخية واللغوية والاقتصادية والاجتماعية من اجل تثبيت معنى ودلالة وتطور مصطلح او ظاهرة ما قبل البدء باستخدامها في سياق مايكتب. ولايعني هذا انه من الاكاديميين القابعين في صومعات اختصاصاتهم الدقيقة ، فهو الصحافي المتمرس الذي يعتمد احيانا على ان يشهر كاميرته ليدع عدستها تلتقط مايواجهها من مشاهد ويبرز قلمه ليصف ماتسجله العدسة بحيادية نزيهة وهو يجوب في ارجاء الوطن العربي الكبير جغرافيا وثقافيا. هذا اضافة الى ان السعدي اديب متمكن وشاعر يمتلك لغة سليمة ومرهفة المشاعر وبليغة في شكليها الفصيح والعامي. ولايفوتني ان اذكر بثناء عال موضوعيته وتجرده عن الميول والاتجاهات وترفعه عن حقن الكتابة بتلميحات الانحياز السياسي او الديني او الطائفي او المناطقي انما نراه يقف بوضوح الى جانب انسانيته ووطنيته العراقية. فهو بمجمل ذلك يصبح "الكاتب المفكر" بمعنى ان تنصب اشتغالاته على انتاج وصقل وتطوير المادة المعرفية وتحليل وتفسير تشعباتها وافرازاتها وتغييراتها ، خلافا لما يعمل عليه "الكاتب المنظّر" الذي يقدم شروحا منهجية للفكرة المعرفية و"الكاتب المثقف" الذي يكتفي بابداء الرأي وطرح الموقف اعتمادا على دائرة معارفه الواسعة، وهذا التصنيف هو مايجترحه السعدي نفسه في معرض تشريحه للمنظومة الثقافية.

يطرح السعدي مادته المكثفة في هذا الكتاب عبر سبعة فصول ومقدمة. ولاتنحو المقدمة منحاها التقليدي في طرح فكرة الكتاب العامة وعرض محتوياته انما هي مقدمة بمثابة الرواق الفكري التمهيدي الذي سيقودنا الى اروقة اخرى متشعبة تؤلف خارطة موضوع الكتاب. يتناول السعدي ماجرى ويجري من مجازر في عراق مابعد الغزو الامريكي والتي تتحمل مسؤوليتها الاولى الجماعات التكفيرية المتشددة التي يتطابق فكرها وسلوكها المتزمت الالغائي مع ماحدث في الاساطير الوثنية قبل نزول الرسالات السماوية. وفي هذا الاستهلال يكشف لنا الكاتب المفارقة في دعاوى محاربة المحتل الكافر بوسائل تقنية من صنع الكفار وبامكانيات مالية ولوجستية من طابور الخونة الذي يدور في فلك الكفار فتتحول وبشكل سافر ادعاءات محاربة الكفر الى الضلوع في خدمته بخذلان الدين وابطال كلمة الحق واسطرة القتل. من هنا نلج الفصل الاول من الكتاب والموسوم "الدين بين مبعث الايمان ومنطق الاسطورة" الذي يبدأ بمناقشة المقدسات الثلاث: الله، والدولة، والانسان مفصلا علاقة الانسان بالدين والدولة منذ فجر التاريخ وصولا الى توصيف الوضع العراقي الحالي الذي يخلص فيه المؤلف الى القول بان العراق الجديد مازال يبحث عن الخيار الفصل في موضوع الدين والدولة وعن هوية من ستكون له الكلمة الراجحة. وهنا يأتي مأزق العلمانية واشكالية الدين. فاذا ماتم فصل الدين عن الدولة بموجب الدستور في الدولة العلمانية يبقى للدين تأثيره في السلوك السياسي للناخبين والمنتخَبين. ومن ناحية اخرى ففي الدولة الثيوقراطية يصعب، واحيانا يتعذر، الجمع بين متطلبات النص الديني المقدس الثابت وضرورات السياسة المتغيرة. لكن مايمكن الركون اليه في المطاف الاخير هو امكانية تعديل الدستور الوضعي للدولة العلمانية كلما اقتضت الضرورة في حين لايمكن تعديل النص الديني الثابت بل يمكن شرحه وتفسيره. وذلك هو ما يقود لامحالة الى اختلاف المذاهب باختلاف التفسيرات والذي قد يتعقد ويتفاقم حين يحتكر كل مذهب الحق الالهي ويرصفه لجانبه. يواصل المؤلف النقاش الى المعتقدات الدينية والتسويات الكبرى، جدلية الدولة كمخلوق والمواطن كخالق لها، والتحولات النمطية لدور الدولة من المتحكم للحاكم للخادم ثم للحكم مستقبلا. ففي حين ارتكزت الدولة في الماضي والحاضر على القوة والغريزة والخوف، سيكون بمقدورها ان ترتكز على العقل والادارة والاشراف في المستقبل. الحضارة ومابعدها والتأريخ وماقبله هو موضوع المبحث الاخر في هذا الفصل الذي يناقشه المؤلف بأناة وبشواهد تاريخية ويأتي في معرض نقاشه الى التفريق العلمي الدقيق بين المصطلحات التي تختلط في الادب المؤلـَف والمترجم كثنائيات السياسة والفكر السياسي، الولاء والانتماء ، المجتمعية والاجتماعية، والماضي والتأريخ. ويخلص الى تبيان المنهجية القويمة لعلم التأريخ والمتلخصة بالاجابة الشافية عن الاسئلة الثلاث الكبرى: ماذا حدث؟ كيف؟ ولماذا، ليتبين لنا ان الخلل الجوهري في ازمة كتابة التأريخ يكمن في طرق وتوجهات الاجابة على السؤال الثالث وماقد يحيده عن المسار السليم، والذي قد يكون، على الاغلب، بسبب احادية المنهج وعدم اعتماده على الحقول الاخرى المساندة كالاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والبنية الثقافية الجامعة والمصقولة والمتطورة.

يتناول الفصل الثاني الوسائط الدينية في العمل السياسي مستهلا النقاش بعلاقة الحركات الاسلامية الاقليمية بالفكر السياسي والسلطة سواء تلك الحركات التي استلمت مقاليد الحكم او تلك التي احتفظت بتأثيرها البالغ على السلطة النافذة في الماضي والحاضر. المفارقة الجديرة بالانتباه التي يلتفت اليها المؤلف هنا والتي يعبر عنها ببلاغة ب "نمو المسلمين وتضاؤل الاسلاميين" والتي تشير الى ازدياد اعداد المؤمنين الذين يمارسون الشعائر العقائدية جنبا الى جنب مع هبوط شعبية الاسلاميين كأداريين لمرافق الدولة التي شهدت تراجعا شنيعا في ادائها تحت رعاية السلطة الاسلامية. يؤكد المؤلف ان الدولة عبارة عن فكر وبناء ولايمكن للاداء الجيد في مرافقها ان يتم بالسحر او الشعارات، انما يستلزم رفع الاداء فكرا سياسيا واضحا لاتتغلب فيه الغيبيات على الواقع ولايصادر الايمان دور المسؤولية والحساب. واذا ارتكزنا على الالية الديمقراطية في عمل الدولة فالديمقراطية الحقيقية لايمكن لها ان تعمل تحت الوصاية، سواء كانت وصاية الدين او العسكر او المشايخ. فهي اما ان تخرج كلية من تحت الوصاية لتكشف عن وجهها الطبيعي الجميل او ان تبقى بمثابة المساحيق الكثيفة التي تخفي وجه السلطة القسرية القبيح. وفي موضوعة الاقلية والاكثرية الحاسمة في تكوين الهوية الوطنية، يرى المؤلف ان الاحزاب الاسلامية لم تكن مهيئة لوضع مفهوم الاقلية والاكثرية في سياقه الصحيح الذي يستلزم بنى فكرية جديدة لاتتوفر عليها هذه الاحزاب. على اننا قد شهدنا تفاقما مفزعا لهذه الاشكالية في الحالة العراقية عندما تحدد مفهوم الاقلية والاكثرية مذهبيا حيث ان الاكثرية المذهبية قطريا هي الاقلية اقليميا فيما تقف الاكثرية اقليميا كأقلية قطرية. فبينما تسعى الاكثرية القطرية الى الحصول على امتيازات الحكم، يزداد توجه الاقلية الى معادلها الاقليمي، وهوالوضع الذي سيبقى مربكا ومعرقلا لنمو الهوية الوطنية الى امد غير مسمى. وليس بامر صادم ان نرى تقاعس اوعجز الاحزاب الاسلامية عن تقديم المعالجة الفكرية السليمة لمسألة الهوية الوطنية اضافة الى عدم قدرتها على جعل الديمقراطية منطلقا بنيويا لها. وفي هذا الصدد يكشف لنا المؤلف وبشواهد تأريخية مفارقة اخرى وهي ان العراقيين هم من اوائل الشعوب التي عرفت ومارست الشعور الوطني. فرغم سلسلة الحروب المدمرة عبر التاريخ العراقي الطويل ، كان الهدف محددا وواضحا وهو الاستيلاء على السلطة، فيما بقيت الجغرافية الارضية والسكانية موحدة لحد كبير. وفي الرجوع الى جذور العنف والاضطرابات السياسية في العراق يأخذنا المؤلف في رحلة تاريخية تبدأ من المقاربة الذكية بين مصادر العقل والسلوك ومااورده لنا حول آباء القانون الثلاثة في الحضارتين الصينية (لاوتسي، كونفوشيوس، وموتزو)، والرافدينية ( اوركاجينا، اورنو، وحمورابي). وعبر مناقشة شيقة يوصلنا المؤلف الى الاستنتاج بان الاخطر في صراع المجتمعات هو الصراع من اجل امتلاك حقيقة النص المقدس واكتساب شرعيته. وهذا هو الموضع الذي تصبح فيه السياسة اداة للدفاع عن المعتقد ووسيلة فاعلة لدحر الخصوم ، مما يجعل العنف كثواب مبارك. على ان تبرير الدفاع عن المعتقد هو مايتمسك به الطرفان، الدولة وخصومها على حد سواء، ومالضحية الا عموم الناس الذين يدعي الطرفان حمايتهم وخدمتهم. هنا ايضا يتنبأ المؤلف بسلسلة من النهايات تأتي في مقدمتها نهاية السياسة التي، كما يوضح المؤلف، كانت قد بدأت من العراق وقد تنتهي فيه ايضا! وذلك حينما تستبدل الاخلاق بالبراعة النفعية، والقيم باسعار الامتلاك، والصدق بالرياء، وقد تتركز مثل هذه الصورة المشينة للسياسة في ممارسة السلطة فتكشر عن انيابها الثلاثة: حفرة للمتمردين ومتراس للشعب وهراوة للمعارضين. وهاهي قد تحولت في العراق من كونها فن لادارة الممكن في ظل المتغيرات الى كونها فن ادارة الفساد في ظل الثوابت. في مبحثه الاخير لهذا الفصل يحلل المؤلف معطيات الواقع حول مستقبل الكونفدراليات والفدراليات المحتملة في المنطقة ويخلص للاستنتاج بان الوضع القلق غير المتجانس مايزال متشظيا بين شمال طامع يسعى الى قضم المزيد، وجنوب مهيمن يروم السيطرة، وغرب مضطرب ومجهول المصير.

في الفصل الثالث يناقش المؤلف المجتمع والدولة والثقافة ويفرق بين مصطلحات المجتمع والمجتمعية، وبين الفئة الاجتماعية والشريحة الاجتماعية. وهو هنا ايضا يغور في الاساس اللغوي والتاريخي للمصطلح والتطور الاجتماعي والسياسي المؤثر فيه. كما يتحدث عن الهوية الوطنية والهويات الفرعية واسباب التكامل ومعوقات النضوج والمراحل التي تعيشها الهويات وهي حسب مايدرجها السعدي: الالتباس والاشكالية والمشكلة والازمة والمأزق والمعضلة. أما عن واقع الثقافة العراقية وتحولاتها البنيوية فالمعالجة تنطلق من محاور ثلاثة: في المحور الاول، الثقافة والهوية الوطنية، حيث نفهم ان الثقافة عبارة عن مفهوم مثقل بالمتناقضات، وبالمعنى النصي ، فالثقافة لاتتصف بكونها كيان ديمقراطي ، انما هي نتاج فردي يفترض تفوقه واكتفاءه بذاته. ولذا فقد تكون مجرد اطار عام للهوية الوطنية من دون القدرة على انتاج الهوية الوطنية. وفي المحور الثاني، المثقف والقرار السياسي، يتم التأكيد على واقع علاقة الثقافة بالسلطة التي يمكن ايجازها بخيارين: اما التبعية والاحتواء، أو الاستقلالية والفناء، وهذان الخياران لم يتغيرا في العراق الجديد عما كانا عليه في ماقبل سقوط الحكم التوليتاري. ولكن ماهي هوية تلك السلطة؟ هنا، يقدم المحور الثالث وجوه السلطة الثلاثة: المال والدين والدولة. يستخلص السعدي مايلي حول وضع العراق الجديد: انتقل العراق من االدولة الاستبدادية الى الدولة الهلامية، ومن شعب موحد قسرا الى مجتمعيات منقسمة طوعا تحكمها جماعات وفقا لاعرافها وطقوسها. فلاهو دولة تدير شعبا، ولاهو مجتمع يخلق دولة.

يختص الفصل الرابع بمناقشة الاصوليات والبعد الاجتماعي، مركـّزا على الاصوليات الدينية والايديولوجية والاعلامية. تشترك الاصوليات الدينية - من آلهة سومر الى كونفوشيوسية الصين، وبوذية الهند، وزرادشتية فارس، الى اسلام العرب- بتمسكها بالاصل المقدس للعقيدة المنطوي على الفكرة المركزية للقوى الالهية المسؤولة عن ادارة الحياة، ومافي ذلك من اختلاف جوهري اتت به الايديولوجيات اللاحقة كالعلمانية والشيوعية والقومية. فبينما تعتبرالاصوليات مصدر فكرتها الاساسية مصدرا سماويا، تدرك الايديولوجيات ان مصادرها ارضية. كذلك ترى الاصوليات الوجود كنتاج لفعل الهي، في حين تؤمن الايديولوجيات بان الوجود هو مادة الفعل الاساسية وليس نتاجه العرضي. يرى المؤلف الماركسية والدين وهما يسلكان نفس الطريق في معرض التراجع عن المبادئ الاولية. فلم يكن الدين مصدر للحب والتسامح عندما دخل تكوينات الدولة ولم تتمكن الماركسية ان تكون مصدرا للرفاهية والحرية حينما عملت الدول بتعاليمها وفلسفتها. الاصولية الاخيرة هي الاصولية الاعلامية التي تحاكي بقية الاصوليات بقدر ماتبحث عن وسائل تعبيرية لترويج خطابها في الوقت الذي دخل فيه الاعلام الى الساحة كأحد اهم واخطر الاسلحة المستخدمة في مواجهة الاخر ودحض توجهاته.

يبحث الفصل الخامس في موضوعة الانتحار المقدس والثورات المدنّسة مبتدئا بمناقشة خطاب الانتحار عند العرب الذي يبين بان ظاهرة الانتحار القتالي لم تدخل الموروث العربي الا بعد ظهور الاسلام، وذلك لدوافع دينية عقائدية تبعده عن ان يكون انتحارا فرديا، بل تضع هدفه الاول في ايقاع اكبر عدد من الضحايا، حيث يختار الانتحاري العربي الجديد اهدافا سهلة كالاسواق والمدارس والمستشفيات واماكن التجمع العامة للاطاحة باكبر مايمكن من الضحايا العزل. ولاتبتعد هذه الحالة عما آل اليه الوضع العام كنتيجة محزنة لما ندعي به من فضائل، والحال لايتعدى كونه: ذكاء دون انتاج، وعبقرية دون ثمرة، وسياسة دون تأثير! يقدم المبحث الثاني من الفصل عرضا تحليليا وجيزا لثورات العراق التي لم تكتمل ثم يعرج في المبحث الاخير وبشكل مختصر ايضا على موضوعة التسامح في الدين والمجتمع. يرى المؤلف بان التسامح في مفهومه الاخلاقي والثقافي وببعده الاجتماعي يعني غفران الاساءة بغض النظر عن مصدرها، الامر الذي يتطلب التكافؤ مابين الاطراف من اجل ان تستمد ثقافة التسامح التجذر والثبات. والتسامح في الغالب يأتي مع عدو زال خطره او خصم اثبت حياده، فيصار الى تأمل صداقته او فائدته. وهو بهذا عبارة عن دعوة اصلاحية مقترنة باحلام الفلاسفة واخلاقيات الاتقياء ولايمكن الحديث عنها خارج انساقها السياسية والاجتماعية والفكرية، والا فما الجدوى من شق طريق جميلة وسط الحرائق؟

أما الفصل السادس فيواصل النقاش في مسألة الاصلاح والثورة في ستة مباحث: الفكر العربي ودعوات الاصلاح، العرب والحداثة، الحاكميات العربية، الثورات بين الجامع والجامعة، الثورة والغوغائية، والثورة والبطولة. يعطي المؤلف اسبابا بنيوية عديدة حالت دون قطف ثمرات الاصلاح التي بدأت مبكرة في المنطقة منذ محاولات جمال الدين الافغاني ومحمد عبدة وعبد الرحمن الكواكبي. من هذه الاسباب :

- اولا، اننا نملك فكرا سجاليا لاحواريا يستحضر فيه الكلام دون الاصغاء وينتهي الى معارك الغائية تبطل عمليتي التداول والتبادل اللذين يوفرهما الحوار وتنمو فيهما المعرفة وفوائدها.

- ثانيا، انحسار تجاوب المجتمع وتضاؤل ردود فعله مما يلغي عمليات ربط الاسباب بالنتائج واللواحق بالمقدمات لانها مجتمعات يختلط فيها الموروث بالخرافة والغرائز بالاوهام.

- ثالثا، غياب القيمة الاستعمالية للمعارف التي تتجسد في تحويل الفكرة الى انتاج مادي يخدم حاجات المجتمع. فبدون ذلك تصبح النظريات والافكار محض ترف حالم.

- رابعا، اننا قد تعودنا على اغراق الفكر بالخطاب الذي قوامه الشعارات الايديولوجية والديماغوغية والمنطق المطلق الالغائي.

فيما يخص تعامل العرب مع المعرفة يقسم المؤلف المجتمعات العربية الى قسمين: القسم الراكد المستهلك لوسائل المعرفة لكنه غير القادر على انتاجها بل الانكى من ذلك هو استهلاكه للمعرفة من اجل قتلها وهذا مايظهر جليا في انتعاش ثقافة التطرف والتكفير والالغاء والبهائم الانتحارية. وخير ممثل لهذا القسم هو دول الملكيات والامارات والمشايخ. اما القسم الثاني المتمثل بالجمهوريات فهو اكثر حراكا بقليل لكن مستوى تطور اقتصاداته المتدني لايتكافئ مع مافيه من قمع. علما ان القمع ارتقى لان يكون الامر الوحيد للحفاظ على السلطة تحت غياب الحق الالهي والتوريث العائلي الذي تدعيه مجتمعات الركود. يرى المؤلف بان المنظومة العربية مقبلة على انهيارات واعادة تركيب وهي ترى امامها نموذجين: النموذج العراقي بافتراض صمود التجربة الديمقراطية ونظامها الفيدرالي وهو ماقد يصلح لمصر وسوريا والجزائر وتونس واليمن، والنموذج الاماراتي حيث تنضم عدة امارات في دولة واحدة وهو مايلائم السعودية والمغرب والاردن ولبنان. اما عن الدعاوى الجديدة وشعارات "الاسلام هو الحل وهو المتناغم مبدئيا مع الديمقراطية" فانها تجد تفنيدها الكلي في الاشارة الى الفرق الجوهري الشاسع بين حكم الدين والديمقراطية كما يبينه الدكتور السعدي بوضوح يكاد يجعل من المفهومين قطبين كاملي التنافر. فبينما يؤكد ويفرض الدين بان الملك والحكم والشرعية لله وماالانسان سوى عبد تابع طائع، تؤكد الديمقراطية في نظريتها وفي تطبيقاتها ان الملك والحكم والشرعية للانسان باعتباره الكائن الكامل الحرية والطوعي الخيار. وعن الثورات الجماهيرية الجديدة في المنطقة يرى السعدي ان تحولا جذريا قد ميزها منذ انهيار الثورات الايديولوجية. فقد اصبحت تميل الى النمط الغاندوي بدلا من النمط الجيفاروي.

في الفصل السابع والاخير يختتم الكتاب بموضوع الاقليات الدينية في العراق الذي يقتصر على اليهود والمسيحيين باعتبارهم اكثر الاقليات تضررا. يستعرض المؤلف تعداد وحالة يهود العراق منذ السبي الاشوري والبابلي الى هجرتهم الجماعية الى اسرائيل بعد تأسيسها. كذلك تعداد واوضاع المسيحيين منذ اول دخولهم للعراق حوالي 59م ولحد الان.

في الختام لابد لي ان اقول ان هذا النوع من الكتب هو ماتحتاج اليه الاجيال الحاضرة والقادمة بغية الحصول على الفهم السليم لما تتطلبه الثقافة الديمقراطية الواجب اكتسابها من اجل التطبيق القويم لاصولها في الحياة العملية.. لقد قدم الدكتور السعدي جهده هذا بأناة وعناية بالغتين فطرح موضوعاته بفصول محكمة ومتسلسلة انتظمت بمباحث مترابطة ومتصاعدة تقود القارئ الى الهدف المرجو بسلاسة وامتاع. خلافا لما تعودنا عليه في اغلب الكتب في هذا الحقل المترع بالحشو الفلسفي واللغو الفارغ، لم اجد في هذا الكتاب كلمة واحدة زائدة عن غرضها او جملة في غير محلها. فليس فيه ماأُقتضب فضاع معناه، ولا ماأُطنب فكان مملا سمجا. وبسبب هذا الوضوح والكفاءة في المعالجة ، ارى انه من الحكمة ان يصار الى اعتماد هذا الكتاب ومايماثله من الكتب القليلة ذات القيمة العالية مصادرا اساسية في المناهج المدرسية. اقول هذا مع ثقتي العالية وبغض النظر عما اذا ستأخذ مثل هذه الادبيات طريقها الى مناهج الاجيال القادمة ام لا، فهي ستصبح لامحالة من المرجعيات الاصول في الدراسة والبحث في حقول الاجتماع والفلسفة والثقافة والعلوم السياسية، على الاقل لمن يحتاجها من الباحثين الملتزمين والمجتهدين.


 

 

 

free web counter