| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. مصدّق الحبيب

 

 

 

السبت 25/12/ 2010



قراءة موجزة في اصول العنف عبر التأريخ

مصدق الحبيب

"غالباً ما تُغطى اعمال العنف بالكذب والخداع، الخطيئتان اللتان لايمكن صيانتهما الا باستمرار العنف. ولذا فإنه لابد ان يكون الاحتيال المبدأ الاساسي في الحياة لكل من ينتهج العنف كسبيل لبلوغ غاياته "

               الكساندر سولشنتزن، الروائي الروسي الحائز على جائزة نوبل لعام 1973

منذ فجر التاريخ، لجأ الانسان الى اساليب مختلفة من العنف واستخدام القوة لاشباع حاجاته الشخصية بما فيها الجسدية والنفسية والاجتماعية. ولم تأت الاعتبارات الاخلاقية والمعنوية، ولم تنشأ مفاهيم الضمير والانتماء والمصلحة العامة, كما لم تظهر الانظمة السماوية والدنيوية الا في فترة متاخرة من تأريخ الانسان على هذه الارض لتحد من شيوع العنف وتبدأ ببناء المجتمع الانساني المتميز بأنظمته وهياكله الاجتماعية والاخلاقية والقانونية التي جعلته مختلفا اختلافا نوعيا عن مجتمعات الحيوان المحكومة بهياكل ونظم شريعة الغاب . وعند ظهور وتطور الانظمة الاقتصادية والاجتماعية التي نظمت حياة الانسان، ابتدءا من نظم الملكية الخاصة وتشكيلات العائلة الاساسية الى نظم التجمعات المدنية الحالية، مرورا بأنظمة وهياكل متعددة ومتباينة كانظمة القبيلة والدين والدولة والحزب والوحدات الاقتصاديه والتكتلات الاجتماعية والعرقية والطبقية والمهنية المختلفة، اتسع مفهوم الحاجة الشخصية وتداخل مع حاجة الجماعة، وامتدت مع ذلك التوسع والتداخل ، ممارسات العنف لاشباع الحاجة التي انتشرت في ذلك الوقت الى دوائر اكبر لحماية نظم التجمعات التي ينتمي لها الافراد، فا نتقل تسبيب القتل ، على سبيل المثال، من الدافع الفردي الى الجماعي، وهكذا برر الانسان قتل اخيه الانسان لحماية العائلة والدفاع عن شرف القبيلة والجهاد في سبيل الدين والذود عن حدود وكرامة الدولة واعلاء مبادىء الحزب وما الى ذلك من اسباب بدت ضرورية وحاسمة لمن مارس فعل القتل. وبنفس الطريقة ايضا ابتكر وبرر الانسان بدائلا عنيفة اخرى للقتل في فترة لاحقة من الزمن وذلك لتناسب تلك البدائل مع ظروف وحاجات معينة. على ان هذه البدائل تراوحت واختلف مداها من السجن والتعذيب والابعاد الى التجويع والاضطهاد والعزل والتهميش والتمييز والتهديد والتخويف والاهمال وهضم الحقوق المشروعة.

ولو القينا نظرة متفحصة عامة على تطور العنف وعلى من مارسه في هذه الارض عبر تأريخ الانسان على وجهها, لوجدنا ان هناك ثلاث مجموعات بشرية رئيسية مسؤوله بشكل جوهري عن ممارسة العنف وتبريره كوسيلةمشروعة لتحقيق اهدافها المعلنة وغير المعلنة, وهذه المجموعات هي: المجرمون الاعتياديون، والسياسيون، ورجال الدين. على ان من واجب الانصاف التوضيح بان ذكر المجموعتين الثانية والثالثة لايعني فئتي السياسيين ورجال الدين برمتهما وبشكل شمولي لايميز بين الصالح والطالح ، انما يخص اولئك الذين تطرفوا في معتقداتهم وسلوكهم في حقلي السياسة والدين وبالشكل الذي جعل الغايه لديهم مبررة للوسيلة .

فمجموعة المجرمين الاعتياديين تمثل كل من يسقط من خلال شبكة النظم الاخلاقية التي يرسمها المجتمع الذي يعيشون فيه، وكل من يتجاوز حدود الضمير وقيم الانتماء والمصلحة العامة كما تقرها الاعراف الاجتماعية. ولعلماء النفس والاجتماع والتربويين وخبراء القانون والجريمة نظرياتهم المختلفه حول الاسباب المؤدية الى سقوط هذا الفرد دون غيره في منزلق الخطيئة وتبنيه لوسائل وادوات العنف . على ان هذه المجموعه لاتزال تنمو مع الزمن وترفل في توسعها وتقدمها للحد الذي اصبح فيه سلوكها الاجرامي صناعة ذات هيكل مؤسسي منظم ومحكوم بنمط خاص يضمن منافعها الموغلة في الفردية والانانية، لكنها تعمل ، سواء بشكل فردي او جمعي، وبقدر مايتعلق الامر بتعنيف الاخرين، وفق مباديء شريعة الغاب.. حيث لاتمنعها اي ضوابط او قيود من ان تفعل ماتشاء اشباعا لحاجاتها الآنية الانانية، الكبيرة منها والتافهة، الاقتصادية والجنسية والاجتماعية والنفسية، بما فيها الحاجات المريضة والشاذة للافراد والمجموعات كتلك التي تتركز حول الرغبات الطائشة كنزوات العبث واللهو والشهرة. وتشير تجارب المدنية عبر التأريخ الى ان افضل من يردع هذه المجموعة ويحد من نشاطاتها الاجرامية هو سلطة القانون الدستورية الصارمة والنزيهة التي تمنح المجتمع صلاحيات تعقّب ومطاردة ومقاضاة ومعاقبة كل من تسول له نفسه الانحدار في منزلق جرائم العنف والحاق الاضرار بارواح وممتلكات مجتمعه او مجتمعات اخرى. ويتمثل الرادع المنطقي الاكثر فعالية اقتصاديا والامثل قانونيا بجعل كلفة العواقب اكبر بكثير من المنافع التي يستحصلها المجرم من جريمته.

اما المجموعة الثانية، مجموعة السياسيين ورجال النفوذ والسلطة، فقد اتحفتنا بالغزير من الامثلة التاريخية التي بررت فيها السلطة الحاكمة القتل الجماعي والتدمير الشامل سواء من خلال برامج القمع والاضطهاد والتمييز التي تنتهجها الانظمة السياسية ضد المعارضين والاقليات وكل من تشاء تلك الانظمة المتسلطة تصفيته او تهميشه ، او من خلال الحروب القصيرة والطويلة التي نشبت جميعها حول ادعاءات تتعلق بالسيادة والحدود والنفوذ والممتلكات الخاصة والعامة وحتى بالاختلافات الشخصية والنزعات الفردية للمتنفذين، حيث زجت في هذه الحروب الرعناء العديد من الشعوب الامنة لتحترق في اتون الصراعات الوطنية والقومية والمذهبية والعقائدية. وازهقت فيها ارواح الملايين من الابرياء وتحطمت فيها ماقاست تلك الشعوب في بنائه وتعميره من ممتلكات ومنجزات لدهور طويلة. وثمة امثلة عديدة في هذا الصدد سواء كانت ماقبل التاريخ مثل حروب طروادة وحملات سنحاريب وغزوات الاسكندر المقدوني وحروب القياصرة الرومان ، أو في مابعد التاريخ كما حدث في الغزو المغولي والحروب الانكلو- فرنسية والانكلو-اسبانية، وحروب الاكتساب الامريكية، والحرب الاهلية الاسبانية، والثورة الروسية، والحربين العالمية الاولى والثانية والحروب الهندو- صينية والكورية والفيتنامية والحرب الجزائرية والحروب العربية- الاسرائيلية وحرب السلفادوروامريكا اللاتينية والحروب الافريقية والحرب الاهلية اللبنانية والحرب اليوغسلافية وحروب العراق وافغانستان، والتي تشكل بمجموعها امثلة صارخة على عنجهية واستبداد وطغيان وعدوانية السياسيين ورجال الدين المتنفذين وحماقاتهم وانعدام مسؤولياتهم تجاه شعوبهم والشعوب الاخرى.

وليس بخاف على احد من ان المجموعة الثالثة كانت قد خطت لنفسها الكثير من المجد واخذت حصتها الكافية في تسبيب القمع والاضطهاد والقتل الجماعي والتدمير الشامل باسم الدين، رافعة راية الخالق ومتيمنة بكتبه السماوية. كما كانت هذه الفئة حريصة في كل مره على الادعاء بانها هي الجهة التي يعلو كلام الله في ماتقول وماتفعل ، وهي المخولة لاسترداد الحق وزهق الباطل وهي التي تنثر الخير وتنشر العدالة على وجه الارض ، كما حدث في الحروب اليهوديه-الرومانيه في القرنين الاول والثاني الميلاديين وفي حروب مقاومة الدعوة الاسلامية والفتوحات الاسلامية والحروب الصليبية والمظالم المطلقة المخزية للسلطة البابوية التي دامت ستة قرون ومانشأ عنها من جرائم محاكم التفتيش اللاانسانية والمحارق البشرية البشعة في اوربا التي اودت بحياة الالاف من اعلام الفكر والعلم والثقافة بتهم الالحاد والزندقة ، ووصولا الى الجرائم المعاصرة التي جلبها التعصب اليهودي-الصهيوني والتعصب المسيحي اليميني المتطرف وجرائم الارهاب الاسلامي السلفي.

وقد اثبت لنا التاريخ الحديث على ان افضل من يحد من نفوذ المجموعتين الثانية والثالثة ويحجّم من نشاطاتها المدمرة هو شيوع نظم الديمقراطية التي تصون حق تقرير المصير للجميع وتمنع الاستئثاربالسلطة والانفراد بأتخاذ القرارات الحاسمة وتعمل على اشاعة روح التسامح وقبول الاختلافات واحترام التباينات.
ولربّ سائل يسأل: هل تمكنت الديمقراطية الغربية المتقدمة من منع كوارث الحروب التي شاركت فيها او شنتها الولايات المتحدة وبعض الدول الاوربية؟ الجواب هو كلا، ولكن الامل الوحيد هو ان الديمقراطية، ورغم كونها نظاما غير امثل، فهي النظام المتوفر الاحسن نسبيا، والمجرب والذي لايزال يمنح حق الانتقاد والاحتجاج والذي يعطي صوتا لمن لاصوت له، ويسمح في نهاية المطاف بتبديل السلطة بعد نفاذ ولايتها الشرعية وحين يقرر الشعب انها لم تكن اهلا للمسؤوليات المناطة بها، وكذلك يسمح بتقويم عمل السلطه اثناء مدة ولاياتها، وتحديث الانظمة وتحسين القوانين وتعديل الدستور. كما انه النظام الذي يفتح النوافذ على تجارب الثقافات والانظمة الاخرى ويوفر فرصة الاستفادة من الاخطاء ويسلح العقول بحرية التعبير والابداع ، وهذا افضل مايمكن عمله في ظروف غياب اي آلية اخرى ممكنة لمنع الكوارث الكبرى.

 

 

free web counter