| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

مثنى حميد مجيد

muthana_alsadi9@hotmail.com
 

 

 

الأثنين 5/4/ 2010



ديالكتيك البكالوريا في زمن فاشي، إلى طلبتي وزملائي المدرسين

مثنى حميد مجيد

قبل سنة ونيف كتبت مقالة بعنوان - الديالكتيك في العملية التعليمية ، إلى طلبتي وطالباتي وزملائي المدرسين - أشرت فيها إلى إمكانية تبني المنهج الديالكتيكي كأداة فاعلة أو كرديف ديناميكي وداعم ومؤثر في مجمل العملية التعليمية. ومما ذكرت في مقالتي إننا - حين نطبق المنهج الديالكتيكي في مسألة معينة أو موضوع محدد بفاعلية وضمن معطيات وبينات وحقائق متوفرة مستوفين في ذلك مباديء وقواعد ومفاهيم الديالكتيك تتوفر لنا إمكانية في وضع إستنتاجات وتوقعات مستقبلية ممكنة.
وأكدت في مقالتي أيضا وبتركيز النتائج الجيدة التي تحققت لي على المستوى الشخصي كمدرس جاد وحريص على إيصال طلبته إلى أعلى مستوى من المعرفة اللغوية قبيل دخول الإمتحان الوزاري للسادس العلمي والأدبي والنتائج المتفوقة التي حققها الطلبة على مستوى المدرسة والمدينة وعامة العراق فقلت:

- سأذكر هنا فقط حادثة يتذكرها طلبتي النجباء في إعدادية الشطرة في السادس الإعدادي ، علمي وأدبي. دخلت الصف في أحد أيام الأشهر الأخيرة السابقة للإمتحان الوزاري. وكتبت على السبورة قطعة علمية تتناول موضوعآ طبيآ وقلت لهم عليكم أن تدرسوا هذه القطعة وتستخرجوا مترادفات الكلمات وتحفظوها بالإنكليزية. مسحت السبورة وكتبت لهم أسئلة كثيرة وتركت لهم الإجابة عليها ليوم اخر وهكذا لأيام ركزت في تدريسي لهم على تلك القطعة العلمية الطبية. في الإمتحان الوزاري وجد الطلاب نفس القطعة التي كتبتها لهم كسؤال أول وهي قطعة مجهولة خارجية والسؤال الأول يشكل صعوبة حتى للطلبة المتفوقين ودرجته المخصصة هي %30 .في تلك السنة كانت إعدادية الشطرة ضمن المدارس العشرة الأولى المتفوقة في العراق وأحرز طلبتي أعلى الدرجات في الإنكليزية وحتى الضعفاء منهم نجحوا بدرجات عالية زادت على السبعين والثمانين.
في بغداد كانت الأسئلة تسرق وتمنح لأبناء الذوات أما في إعدادية الشطرة فلم تسرق ولم نستخدم خرافة التنجيم في إكتشاف أكثر الأسئلة صعوبة.-

والحقيقة إني طبقت فقط وببساطة منهجآ ديالكتيكيآ حيويآ وتفصيليآ في دراستي لتاريخ الأسئلة الإمتحانية والأسس والعوامل المختلفة التي تتحكم بها، الخاص والعام ، الذاتي والموضوعي منها. ووضعت أمام ناظري أن كل تراكم كمي تتحكم به قوانين بنيوية خاصة به وأخرى عامة يمكن الوصول إليها بتفكيك كامل وتفصيلي لأكبر عدد ممكن من الأسئلة الإمتحانية للسنوات السابقة فجمعت ما إستطعت من الأسئلة الوزارية لسنوات متعاقبة عديدة ربما لأكثر من عشر سنوات وصنفت مفرداتها جميعا قواعديا وصوتيا وبنائيا في جداول أولية ومن هذه الجداول إشتققت جداول أخرى أكثر تخصصا بنمط معين من الأسئلة أو المفردات ثم قمت بعد ذلك التفكيك التفصيلي لكم الأسئلة بتركيب صياغات جديدة محتملة لأسئلة جديدة معتمدا على إستنتاجات ، معطيات ، قواعد لمستها تتحكم في طبيعة الإختلافات والتباينات بين أسئلة سنة وأخرى تعقبها بسنة أو سنتين أو ثلاث.إن الديالكتيك يميل إلى معرفة تفصيلية شاملة بالمادة أو الشيء الذي ندرسه وهكذا لم أترك جملة أو كلمة أو مقطع صوتي أو إسم أو فعل أو صفة أو حال ... إلا قلبته مصنفآ مقارنا محللا موقعه في الأسئلة الإمتحانية لسنوات عديدة.وهكذا إستخرجت للطبة أمورا مفيدة جدا وركزت إهتمامي وإهتمامهم على الأسئلة المحتملة التي سوف يواجهونها أمامهم في إمتحان البكالوريا.

كان مجمل نشاطي الانف الذكر ينصب على تفكيك ـ الموضوع ـ بذاته أي معرفة قوانينه الخاصة المتحكمة به في حالة من التراكم الكمي عبر عقد من السنين أو ما يزيد. لم يتبق أمامي غير السؤال الأول وهو قطعة خارجية يفترض بالطالب أن يفهمها بالسرعة الممكنة ويجيب على أسئلتها وقد قمت أيضآ بجدولته على مر السنين فلاحظت إن موضوع القطعة ، كقانون عام ، يتغير كل سنتين إذا لم يتكرر في إمتحان الدور الثاني ، فإن تكرر في الأخير يحتمل تكرره في السنة الثالثة.لا توجد قطعة يتكرر موضوعها في سنتين متتاليتين مع أخذ إمتحان الدور الثاني بالإعتبار.عموما وبعد تدقيق في جداولي وإستنتاجاتي في طبيعة السؤال الأول وضعت إحتمالا رئيسيا أمامي وهو أن موضوع القطعة الإنشائية للسؤال الأول سيكون طبيا أو يعالج مرضا ما. بعد توصلي وبثقة إلى هذا الإستنتاج طرحت أمام نفسي ديالكتيكيا بعض الأسئلة لها علاقة بالذات لا بالموضوع مثل ـ من يكتب السؤال الأول ؟ بلا شك إختصاصي كان بالأصل مدرسا ؟ إن القطعة النثرية تحتاج إلى كاتب متمكن من صياغة قطعة تختزل كم من الأفكار وبمهارة وقدرة على تكثيف مفردات لغوية لا تتجاوز السقف اللغوي المتفق عليه عالميا في إختبارات طلبة المرحلة الإعدادية فهل يمتلك هذا الإختصاصي الثقة الكاملة على كتابة قطعة متكاملة وتتوفر على كل الأسس والقواعد المنهجية العالمية دون المغامرة بالوقوع في الأخطاء أو في أقل تقدير الهنات ورداءة الصياغة الصحيحة والرصينة ؟ ماذا سيفعل للخروج بحل يريحه ؟ سيلجأ حتما إلى المصادر التي لدية فيقوم بتلخيص هذا الموضوع أو ذاك ، ينقل جملة من هنا ومقطع من هناك ويضيف من عندياته ما يجعل القطعة ذات صياغة جديدة خاصة به يضعها كسؤال أول.وواصلت طرح الأسئلة على نفسي ـ أي الكتب هي الأقرب إلى المشرف الإختصاصي والتي من المحتمل أنه سيلجأ إليها ؟ الجواب ـ لا شك أنها كتبه المدرسية التي غالبا ما يعتز بها ويعود إليها.وهنا طرأت في ذهني فكرة أن أعود إلى المناهج القديمة التي درسناها في الإعدادية في الستينات من القرن المنصرم.ورحت أنقب في البيت عن كتبي المدرسية القديمة ولم تكن لدي مكتبة بل كانت كتبي مكدسة في صناديق كارتون وكاد اليأس يصيبني في العثور على كتبي القديمة حين لفتت والدتي المرحومة إنتباهي إلى وجود صندوق كارتون صغير في باحة البيت الخلفية يحوي بعض الدفاتر والمجلات فذهبت وقلبته وإذا بي أجد كتاب القراءة الصغير العزير لمادة اللغة الإنكليزية بغلافه الأحمر الغامق الذي درسناه في السادس الإعدادي ورحت بفرح أقلب صفحاته الرطبة والمتيبسة وإذا بي أجد الأستاذ الإختصاصي قد لجأ إليه فعلا قبل سنتين وأكثر ليلخص منه قطعتين للسؤال الأول وقد وجدت أن القطعة الوحيدة ذات الموضوع العلمي التي تبقت له ليصيغ منها سؤاله الأول هي قطعة الإسعافات الأولية ومعالجة الكسور مما زاد ثقتي في إستنتاجي الأول وهو أن القطعة المحتملة لهذا العام وأقصد به عام 1986 ـ 1987ستكون قطعة علمية ذات طابع طبي.وكما ذكرت كتبت النص على السبورة ودرسته للطلبة بكافة تفاصيله ومفرداته ليأتي نفسه في الإمتحان الوزاري.

ما معنى كل ذلك وأين هو الديالكتيك في المسألة المطروحة. الديالكتيك هنا، إني تناولت الخاص والعام ، الموضوع والذات ، في وحدة واحدة ، فككت وركبت وأعدت إنتاج الكم المتوفر لي في أزمنة مختلفة. مثلا تناولت موضوعي كمدرس وطالب .المشرف الإختصاصي نظرت إليه عبر أزمنة مختلفة كمختص ومدرس وطالب.لم أكن جامدآ في زمن واحد فقانون الحركة لا يتحكم فقط بالطبيعة والمكان بل بالزمن ، بالتفكير ، الحركة قانون عام يمكننا من الإحاطة والتوغل في كافة مؤشرات ومعطيات الموضوع الذي ندرسه.التراكم في الكم يؤدي بالضرورة إلى تغير نوعي وهذا لا يشمل الأشياء في الطبيعة والمجتمع فقط ، مثلآ تراكم الظلم يؤدي إلى الإحتجاج ، التمرد ، الثورة. الكبت والقمع يؤديان إلى العصاب والتخريف. إستمرار النار تحت قدر الطعام تؤدي إلى تحوله من مادة مفيدة إلى فحم ، الحرية تؤدي إلى السعادة والإبداع. أما معرفتي بالسؤال الأول المجهول فهو ليس صدفة بل نتاج تراكم في تفكيري وإهتمامي ودراستي المتواصلة والمضنية لموضوعي وإهتمامي بمستقبل طلبتي. ولذلك ما طرحته ليس شيئا خاصا بي فأنا ، ورحم الله إمرء عرف قدر نفسه ، لست من المتميزين أو المتفوقين ، بل من المواظبين والمخلصين للموضوع الذي يهتمون به.وهكذا ينشأ من كل تراكم كمي تحول نوعي وما فعلته يمكن أن يفعله أي إنسان في مجال إختصاصه ، أن يضع نفسه في حالة مستمرة من التراكم تؤديء به لا محالة إلى معرفة شيء جديد ، شيء مبتكر ، إستثنائي وليس صدفة ، رغم أن الصدفة هي الأخرى من مفاهيم الديالكتيك لكنها موضوعية ، أي تبقى دائما ضمن القوانين الأخرى للديالكتيك ومرتبطة بها .

بعد سنوات ، وحين خرجت من الوطن وأقمت في السويد ، عملت قبل بضعة سنوات ولعام دراسي كمدرس مساعد في إعدادية فاشتا في ستوكهولم. طلبت من زميلتي مدرسة الإنكليزية أن تزودني ببعض أسئلة السنوات السابقة للتعرف على المنهج وطرق إختبار الطلبة فأبدت محاذرة من طلبي وقالت مبتسمة ـ علينا أن لا نشير إلى الطلبة بأي إشارة إلى الأسئلة!.لم أزعل طبعا لحذر زميلتي فأنا بالنسبة لها قادم من عالم اخر ، عالم يتحكم به العنف والطغاة والذين يتلذذون بقهر وإذلال شعوبهم في حين تعيش هي كمدرسة مرفهة في مجتمع مدني ومسالم ينعم بالإستقرار والحرية والمستوى المعاشي المرتفع. في إعدادية زميلتي ينال كل طالب نفس الإهتمام ويمنح نفس الفرص التي ينالها إبن ملك السويد أو إبنة رئيس الوزراء. المدارس في السويد حدائق خضراء للحرية والتفتح والشمس والمدرسون ملوك بتيجان .لا وكلاء أمن لديهم أو سقطة يعملون كمدراء أو مشرفين تربويين ولا مدرس أو معلم يهان أو يذل أو يحارب في معيشته وأفكاره كما إعتدنا عليه في زمن الطاغية المقبور. وهكذا فالسويديون يعتبرون كشف الأسئلة للطلبة أمر مضر وخاطيء لكن الفرق شاسع بيننا وبينهم. الخطأ والصواب أمران نسبيان وفق الديالكتيك ، إنها النسبية الجدلية التي يجب الإنتباه لها في الزمان والمكان والظرف. في زمن قادسية صدام المشؤومة ، كان ما فعلته لطلبتي صوابآ وعملآ صحيحا ، كان إنقاذا لهم من الذهاب إلى جبهات الموت العبثي للقائد الضرورة وفتحا لأبواب المستقبل أمامهم خاصة وأنهم من أبناء الكادحين في مدينة ومدرسة مظلومة من النظام الدكتاتوري. كنا نعيش في سجون رهيبة ومعتقلات تعذيب ومهانة للكرامة الإنسانية يطلق عليها مدارس. في زمن كانت الأسئلة تمنح لأبناء الذوات والمراتب العليا والمأجورين من خدم الفاشية أو تباع وتشترى ويختفي الطلبة والاباء والأمهات في غياهب السجون والمقابر الجماعية. في ذلك الزمن البغيض كان ما فعلته عملا رائعا وحقيقيا.
 

 

free web counter