ماجد فيادي
ندوة في موضوع: الديمقراطية: نظام وفلسفة حياة، ام آليات انتخاب فقط؟
عرض: ماجد فيادي
أقامت لجنة تنسيق التيار الديمقراطي في المانيا الاتحادية، بالتعاون مع الديوان الشرقي ـ الغربي، امسية ثقافية في مدينة كولون يوم السبت 25 حزيران، استضافت فيها الدكتور حميد الخاقاني، الشاعر والكاتب ومدرس اللغة العربية والادب العربي الحديث في جامعة مارتن لوتر بمدينة هالة الألمانية، وأدارها كاتب هذا العرض. جاءت الامسية تجسيدا لنهج يتبعه التيار لتفعيل العمل مع منظمات المجتمع المدني. الأمسية حملت عنوان (الديمقراطية نظام وفلسفة حياة، ام آليات انتخاب فقط؟).
بدأ المحاضر في التأكيد على أهمية الحوار والجدل العقلاني بين الشركاء الاجتماعيين والسياسيين كشرط لإمكانية الاستفادة من النجاحات والاخفاقات في كل عمل نقوم به، فما دام هناك نقد وتحليل لما قام، ويقوم، به الانسان من أفعال، يصبح الوصول الى الافضل ممكنا، أما الانكفاء على الاخطاء وتجنب البحث في اسبابها، فلن يفتح باباً للنجاح أبدا، ولن تقوم معه ديمقراطية حقيقية. من هنا اخذ مدخله الى تعريف وتحليل الديمقراطية في الغرب وما يقابلها من ديمقراطية في الدول العربية والاسلامية.
الديمقراطية الغربية
أوضح المحاضر بأن الديمقراطية التي تعرفها الأنسانية اليوم هي مُنجز للفكر الساسي الغربي. وبعد أن عرض سرداً تاريخياً لنشوء الديمقراطية كمفهوم يوناني قديم لم يبدأ تشكيل ملامحه الأساسية إلا في عصر التنوير في القرنين الـ 17/18، انتقل الى أن الديمقراطية ممارسة، تستوجب أن تتفاعل فيها جميع الاطراف وجميع الأفكار، لكي تثمر عن شيء يرسخ الفكر الديمقراطي ويطرح الاسئلة الجديدة التي من شأنها أن تفتح الباب لتحليل الماضي والحاضر ونقدهما، وإيجاد أجوبة ناجعة على التحديات التي يطرحانها، وانتاج الجديد الذي يتلاءم والتطور الحاصل في المجتمع الانساني. وأشار إلى العلاقة الجدلية بين مفهومي الحرية والديمقراطية، وهنا استشهد بمقولة للمناضلة روزا لوكسمبورك تقول فيها أن ( حريتي هي حرية ذوي الفكر الاخر المختلف معي)، وعكس من خلالها كيف ينظر الغرب الى الديمقراطية كمفهوم وممارسة.
يقول الدكتور حميد الخاقاني أن مقومات الديمقراطية كمفهوم غربي، يستند الى الفصل بين السلطات الثلاث، وضمان الحقوق والحريات الأساسية للجماعات والأفراد إزاء الدولة وإزاء بعضهم البعض، وحرية الرأي والأحزاب والإعلام واحترام الحريات الدينية وحقوق الانسان، والفصل بين الدين والدولة، والحفاظ على البيئة، مؤكداً على استقلالية المحكوم عن الحاكم ثقافياً، وحق المواطن في حرية تلقي الأفكار والمعلومات والوصول إليها دون عوائق، وذلك لمعرفة وإدراك الظواهر وتحليلها وتشكيل خياراته بحرية في شأنها. ثم تناول هذه المستندات بالتفصيل، وكيف يتم التعامل معها في اوربا تحديدا، معتمداً على حقائق تاريخية، أدت الى ترسيخها وتجديدها باستمرار، مشيراً الى أن الديمقراطية ممارسة تحتاج الى المتابعة في التطبيق واعادة انتاج المفهوم مع كل مرحلة جديدة، لانه مفهوم ثقافي ـ سياسي ـ اجتماعي بالدرجة الأولى، يختلف عن الحقائق والوقائع الفيزياوية مثلما نراها في الحياة المادية، كالجبال والأنهار. هذه الأشياء ملموسة، واضحة المعالم، في حين تتشكل المفاهيم الثقافية في رؤوس الفلاسفة والمفكرين ومخيلاتهم قبل أن تنتقل إلى الحياة، ولا تصبح ذات معنى إلا في ملاحظتنا لها، ومعايشتنا إياها في الحياة اليومية للمجتمع. ثم أكد على أن وصول اي مجتمع اوربي الى الديمقراطية لا يمكن عزله عن الصراعات الطبقية والاجتماعية التي شهدتها هذه المجتمعات وما تزال. كما لا يمكن النظر إليه بعيدا عن فعاليات منظمات المجتمع المدني، التي تشير إلى نوع من ديمقراطية قاعدية، وعن حركة الدفاع عن حقوق المرأة، و الحفاظ على البيئة، والدعوة للسلام ومناهضة الحرب، مشدداً على أن التراجع في اضطهاد المرأة والتمييز ضدها ساهم بشكل مباشر في تعميق الديمقراطية الغربية، بالاضافة الى الصراع المثمر بين الاجيال وتفاعلها داخل المجتمع. هذه كلها أسهمت في التعجيل بوصول اوربا وديمقراطيتها الى ما هي عليه اليوم، رغم نواقصها، وما يُمكن أن يطالَها من نقد.
وفي حديثه عن مفهوم العدالة وعلاقته بالديمقراطية وحريات الانسان، مثل حرية اعتناق الفكر والديانة وحقوق الفرد ضمن المجموع، فقد اكد ان هذا المفهوم، شأن مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، له طابع كوني يشترط المساواة التامة بين الناس بمختلف أجناسهم وأديانهم وخياراتهم الفكرية والسياسية، ومنع استغلال الطبقات الاجتماعية لبعضها البعض، أو استغلال مجموعة قوية لأفراد أو لمجاميع ضعيفة، كما أنه يفقد معناه حين نقيسه بمقاييس الأيديولوجيات والأديان والطوائف والقوميات، وجميعها مقاييس ضيقة في النهاية.
في ختام حديثه عن الديمقراطية الغربية وصيغها المتباينة من بلد لآخر، اوضح أن العقل الاوربي بعد كل تجاربه، السلبي والإيجابي منها، في هذا المجال، اصبح منفتحا كإنفتاح مفهوم الديمقراطية، يحلل ويعيد تقييم الماضي، وانتاج ثقافته الجديدة المستندة على نقد الذات واستنباط الحلول، التي تدفعه نحو الامام، حتى لو وجدنا نواقص، أو أخطاء فادحة هنا وهناك، فالديمقراطية الحقيقية تعلّمنا معرفة الأخطاء والتعلّم منها.
الديمقراطية العربية والاسلامية
تناول الدكتور حميد الخاقاني مفهوم "الديمقراطية" في الفكر العربي والاسلامي المستند على الشورى والبيعة، وهو ما أنتج لنا ،في النهاية، نظام الخلافة، والذي استمر، بأشكال مختلفة، منذ الخلافة الراشدة حتى سقوط الخلافة العثمانية. واستشهد المحاضر للتدليل على الحاكم الصالح وغير الصالح بنصوص من الحديث النبوي وكتب الفقه الشيعية والسنية، وكذلك فيما يتعلق بمفهوم البيعة ومعانيه ودلالاته غير الديمقراطية من الناحية الفعلية، واظهر مدى التقارب بين المذهبين ( السني والشيعي) من حيث المعنى والتطبيق، فالاثنان يشتركان في أن يُسلِمَ المرء خالصةَ نفسه وطاعته ودخليةَ أمره كاملة لمن يبايعه من خليفة أو ولي أمر، أو من يتبعه ويقوم بتقليده من فقيه مجتهد. وقدم نماذج تاريخية، قديمة ومعاصرة، تشير إلى ابتعاد الممارسة السياسية ـ الدينية الاسلامية، وغير الاسلامية أيضا، عن مفهوم الديمقراطية، كما نعرفها في الديمقراطييات الحقيقية، في الغرب وغير الغرب، خاصة فيما يتعلق بالمرأة وحقوقها، كذلك في أمور أخرى كثيرة، حيث تتسع دائرة المحرمات لتطال كل شيئ تقريبا. ومردُّ ذلك هو أن النظام السياسي القائم على الدين ينطلق من منظومة فكرية شمولية تحدّد للإنسان كل شيئ، وتقدم له أجوبة مطلقة ونهائية، ليس له إلا الأخذ بها وطاعة من أتاه بها. مثل هذه المنظومة لن تُقيم نظاماً ديمقراطيا حقيقياً بأية حال. قد تأخذ من ديمقراطية الغرب آلياتها لتؤسس، من خلالها، استبدادها. عندها تصبح طاعة الله المطلقة طاعة مطلقة لم يتحدث باسمه. هكذا كانت الأحوال في الماضي، وهكذا هي في الحاضر أيضاً.
أشار المحاضر في حديثه عن الاسلام والديمقراطية إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية، تناقض التطبيق السياسي ـ الديني، وتجعل من ممارسات الحاكم باسم الدين، ما عدا استثناءات نادرة، خروجا على الدين وما جاء به. وأوضح أن التاريخ العربي ـ الاسلامي يحفل بمثل هذه الممارسات التي أصبحت طابعا له، وهي سمة بارزة فيمن يحكم باسم الدين، في بلاد العرب أو الأعاجم. وقد عزا أسباب ذلك إلى غواية السلطة، وركوب الدين مطية لها، واعتماد الحكام على شكل تربية ثقافة الاتباع والتقليد التي ينشأ عليها الانسان المسلم، من تقديس لأولي الأمر من حكام وفقهاء، الأول هو خليفة الله ، أو الرسول، على المسلمين في الارض، وطاعته واجبة بحكم بيعة المسلمين له، والثاني هو الأمين، الحافظ للدين وعقائده، فهو واجب الطاعة فيما يقول ويفعل.
وبناء على هذا فقد خرج المحاضر بسؤال يقول: كيف يمكن لانسان تربى على مثل هذه المفاهيم، وصيغ عقله وسلوكه في إطار مثل هذه المنظومة الفكرية أن يكون قادرا على بناء نموذج ديمقراطي عصري وحقيقي، دون أن يعيد النظر في مقولات هذه المنظومة ومفاهيمها، ويخضعها للتساؤل والنقد الجذريين؟؟؟
وعلى أساس سؤاله هذا أخذ ما حصل في ساحة التحرير نموذجا، معتبراً أن اعتقال الشباب وصيدَهم، وتلفيق تُهَم واهية ومضحكة لهم، واستخدام العنف تجاه المتظاهرين، وادخال البلطجية لتفريقهم، يتناقض، تماماً، ومفهوم الديمقراطية، أللهم إلا إذا اعتبرنا أن لـ"ديمقراطية" السلطة برابرتها، ويريد لها أصحابها أن تكون متميزة بهذا على غيرها.
وأشار إلى الانتقادات التي غالباً ما تصدر عن كتاب أو علماء اسلاميين، ينتقدون فيها الديمقراطية، واصفين إياها بالمستورد الغربي، الذي لا يجوز لنا أن نأخذه، وقد تحدث بعضهم عن فشلها عندنا في العراق، غافلا عن أن من يقوم بتطبيقها، على نحو مشوّه، ساسة تخرَّجوا على ثقافة وتراث دينيين، لهما صورة أخرى عن الحكم، لا يجمعها بالديمقراطية جامع أبداً. ثم أن نظرية الحكم الاسلامي لم تقدم لنا في التطبيق، وعبر تاريخ طويل، نموذجا يستحق أن يكون بديلا للديمقراطية "المستوردة!". لننظر إلى نموذجين معاصرين في الحكم ، ومن مذهبين إسلاميين مختلفين هما : الحكم السعودي وحكم الولي الفقيه. هل يمكن لعاقل، مؤمن ومتدين أيضا، أن يرى فيهما خيراً للبلاد وللناس ، وحتى للدين الحق؟ وأوضح المحاضر أن من السخرية بمكان أن من يتحدث عن "استيراد" النماذج والأفكار يتصور أن الثقافات وحتى الأديان قامت خالصة دون أن تتلاقح وتتبادل التأثير فيما بينها. علم فقه الأديان والثقافات المقارن، ودراسة النصوص، يمكن أن يقدم لنا أجوبة علمية في هذه الميدان. ثم أن من يتحدث بهذا المنطق ينسى، أو يتناسى، بأنه، ونحن معه، ولتخلفنا، انما نكاد نستورد كل شيئ من الخارج، ومن الغرب خاصة، ونستخدم كل منتجات الثقافة الغربية من تكنلوجيا الى مصطلحات عرَّبناها فقط. حتى ملابسنا الداخلية تأتينا من هناك. فما أوهى حجج البعض حين يكون العقل مفلساً.
في مداخلات واسئلة الجمهور جرى اغناء الامسية، عندما ركز المتكلمين على ربط مفهوم الديمقراطية والممارسات التي تجري على ارض الواقع في العراق، عاكسين دور المواطنة والمواطن في تضيق الخناق على نفسيهما عندما ينتخبان لتمثليهما في نظام، يراد له أن يكون ديمقراطياً، أناساً غير ديمقراطيين، تحت ضغط سلطة رجل الدين والعشيرة والطائفة، وغسيل العقل عقائديا عبر إعلام واسع ومتنوع. فالمواطنون العراقيون، كما ذكرت مداخلات عديدة، انما يخدعون انفسهم معتقدين أن الديمقراطية هي ألية الانتخابات وما ينتج عنها، مما أدى الى نشوء طبقة من ساسة ورجال دين، نمت بسرعة وكونت شبكة مع المحتل ودول الجوار، انقضت على ثروات البلد تاركة الشعب يدور في فلك حاجاته اليومية. ورافق ذلك تقسيم مؤسسات الدولة الامنية الى اقطاعيات ومليشيات حزبية تأتمر بأمر الاحزاب الحاكمة، سواء كانت قومية أو دينية طائفية. وقد أشارت بعض الآراء إلى أن الخلل في التطبيق وليس في مفاهيم الديمقراطية والحريات، فلا يمكن للديمقراطية إلا أن تفشل تجربتها اذا قام على تنفيذها من لا يؤمن بها أو يدعيها. كما أن الثمن الذي دفعته اوربا، عبر حروب راح ضحيتها عشرات الملايين، كي تصل إلى ما وصلت إليه، ليس من المحتوم على العراق أن يدفعه كي تتحق فيه الديمقراطية والرقي واللحاق بركب العصر، فلو التزم أدعياء الدين من الساسة بما يعدون ويقولون، ولو تصرفوا بما يقوله جوهر الدين حقاً، لتغيير الحال كثيراً. المشكلة ليست في إساءة استخدام الدين في السياسة فقط، وانما الإساءة للإثنين معا، من خلال الفساد المالي والاداري والمحسوبيات، وكثير غيرها، مما لا يمكن ان يثمر عن ديمقراطية. ولنا في حركات الاحتجاج التي شملت حتى اقليم كردستان تعبير عن حقيقة أن قطاعات كبيرة من مواطني الاقليم يرون ان من حقهم ان يتمتعوا بحياة تسودها الديمقراطية الحقيقية بعيداً عن الفساد الاداري والمالي وعلاقات الحسب والنسب بتسنم المسؤليات في دوائر الدولة والحكومة.