ماجد فيادي
الجمعة 28/5/ 2010
سلام جومبي
ماجد فيادي
في سبعينيات القرن الماضي عاش العالم في اغلب واهم مناطقه شيئا من حياة الرفاه الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي ، رافق ذلك موجات من الإبداع الفكري على مختلف الأصعدة، في الثقافة والأدب والفن والعلوم والمودة، ما يميز هذه السنوات إنها بداية تحول العالم الى قرية صغيرة، تنتشر فيها الأفكار بسرعة دون أن تعرف للحدود معنى . كانت سنوات جميلة لم يعرف أهميتها إلا من عاشها شابا، وبالرغم من أنني لم أكن حينها بذاك العمر لكنني تأثرت بها ، فقد انتقلت من عمر الطفولة الى المراهقة ، واستطعت أن أسافر خارج العراق برفقة والدي ، والتقي بمجاميع تتناقش وتتحاور في مختلف المواضيع دون قيود ، مما جعلني منفتحا على الجميع في تناول ما يمكنني فهمه. الذي جعلني أتذكر هذه الحقبة من حياتي، أن سيدة ألمانية شابة ، في احد أيام العمل ، في الساعة السادسة والنصف صباحاً، كانت تستقل الحافلة متوجهة الى العمل و تجلس الى جانبي وتضع في أذنها سماعات الموبايل، تستمع لأغنية بصوت عال ، مزقت بها هدوء صباحي الجميل، الذي بدأته مستمعا لاغاني عصفور الصباح فيروز .صوت الموسيقى العالي ذكرني بسلام جومبي، احد أبناء الجيران ، بلونه الزنجي وشعره النكرو ولحيته اللينينية وبنطاله التشارلس والقميص الضيق الملون ، حاملا على كتفه جهاز تسجيل ، وبأعلى صوته يستمع لأغنية "سانتياغو " أو "عمي يابو الجاكوج " ، وأحياناً كثيرة الى أغنية Y MAMY BLU، أو احدى أغاني فرقة بوني . إم . اخذ سلام لقبه من مظهره الأفريقي وولعه بالفن والقراءة والخط، كما كان يرقص الهيوة ولا أحسن راقص بصري . كان جومبي صديقا لأخي ويأتي الى بيتنا اكثر مما يتواجد في بيته، يحلو له جمع الأصدقاء والخروج ليلا في جولات بالدراجات الهوائية في شوارع المدينة ، ويجلس ساعات بالقرب من جهاز التسجيل لكي يكتب كلمات الأغاني ليحفظها، مثل أغنية "بقرة حاحا" لاحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وله قدرة ممتازة على الخط ويحفظ من الحِكم الإسلامية ما لا يحفظه إمام جامع . كان جومبي أفضل من يزين لوري أبو حسين بجمل مثل (لا تفكر لها مدبر) ، وتجده أحياناً في المسرح يتدرب على عمل ما ، اذكر له مسرحية يقول في احد جملها ( بيش أتعينت ... ههههههه بالواسطة)، له لسان لاذع في النقد ، وفيلسوف في التحليل بالرغم من انه لم يكمل الدراسة الإعدادية، والده عامل فقير وأمه معوقة لا تستطيع الحركة، له القدرة على إضحاك من حوله، وإشاعة روح المرح بين الجميع، فقد كان يحب الحياة، له من العلاقات النسائية الكثير ، في العطلة المدرسية كان يعمل حدادا كما والده ليعين العائلة على مصاريف الحياة، وبالرغم من عدم حبه لكرة القدم لكنه رقص اكثر من الجميع بفوز منتخب العراق الوطني في مباريات كأس الخليج الرابعة ، ولم يحزن لأننا لم نحصل على البطولة ، له من الاصدقاء الكثير في مختلف مناطق بغداد، وفي يوم ما كنت العب الكرة فعطشت كثيرا ، فذهبت الى بيتنا مسرعا ، ودخلت الغرفة ضاربا بابها بكل قوتي لكي اشرب الماء البارد من الثلاجة، وإذا بأخي وجومبي وعدد من معارفهما جالسين في الغرفة على شكل حلقة مستديرة ، وقفزوا من أماكنهم ولا افهم ماذا توقعوا مني ! هل كان اجتماعاً حزبياً ؟!
في يوم بغيض جاء جومبي الى بيتنا خائفا مذعورا يبحث عن أخي ويطالبه بالأنتباه لنفسه ، وأن لا يتواجد في البيت فالأمن يراقبهم، وأوكل لي مهمة حرق كاسيتات جعفر حسن ، وبادرت والدتي بحرق ما يقع في يدها من كتب، أما أبي فقد اخذ كيس ووضع فيه ما تمكن من كتب وأعطاها لعمتي . انقلب جو البيت الى خوف وحزن، وتصرفات هستيرية وردود فعل سريعة غير متوقعة، وبعد أيام وفي نفس الأجواء كان رجال غرباء يأتون ويذهبون . استدعي أخي وجومبي الى الأمن، لكن الأزمة مرت بسلام، أما جومبي فلم يعد سلام الذي اعرفه، أذ فارقته الضحكة ، وحلق لحيته وتوقف عن لقاء الاصدقاء.
اشترك جومبي في الحرب التي شنها النظام المقبور ضد الجارة ايران ، ومن قبله أخوه جاسم الذي أُسر عام 1982 حتى عام 1991 ، حيث استلمته بنفسي من الفرقة الحزبية دون أن يعرف من أنا، أما جومبي فلم يعد من معركة نهر جاسم. هناك من قال انه شهيد، لم يكن يؤمن بالحرب التي شارك بها فكيف يكون شهيداً فيها ؟ البعض قال انه مفقود ، لكن جميع الأحياء من الأسرى رجعوا فأين سلام جومبي؟؟
وأنا أتذكر جومبي، التفت الى الفتاة الألمانية التي بجانبي وسألتها :
* ماذا تسمعين؟
قالت :
ـ انه "الهب هوب" .
* هل تدرسين ؟
قالت :
ـ نعم أنا طالبة جامعية في قسم الحاسوب.
* هل تعملين؟
ـ طبعا لكي أغطي نفقات الدراسة.
* وما هي هواياتك؟
ـ أنا أحب الغناء والعب كرة الطائرة.
* وكيف تنسقين وقتك؟
ـ لابد من النوم القليل وتنظيم الوقت لكي ادرس واعمل وأمارس هواياتي.
* هل لديك صديق؟
تضحك بجذل .
* لا تفهميني خطاً، فأنا رجل متزوج ، وأحب زوجتي .
تتحول ضحكتها الى ابتسامة .
ـ نعم لدي صديق ونتقابل في نهاية الأسبوع ، أو كلما سنحت الفرصة.
* هل تعرفين سلام جومبي؟
ـ لا ... من هو ؟؟
نشرت في جريدة طريق الشعب بتاريخ الخميس 2010/05/27
http://www.iraqicp.com/images/stories/tariq/2010/5/27/7.pdf