| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. مهند البراك

 

 

 

                                                      السبت 23/2/ 2013

 


القائد الأنصاري " خدر كاكيل "

د. مهند البراك             

في يوم الشهيد الشيوعي 14 شباط . .

ليس من السهل الكتابة عن شخصية من ابرز شخصيات و مناضلي منظمة الانصار في نضالهم الشاق ضد الدكتاتورية في الثمانينات، تحذراً من خطأ او نقص في وصف او تقدير . .شخصيّة تأثر بها رفاقه و كثير من البيشمركةالانصار من عرب و كرد و كلدانيين و ايزيديين و صابئة و اصدقائهم . . رغم انه لم يحصل على تأهيل علمي او اكاديمي و لم يحمل رتباً او نياشيناً . .

كان ابن عائلة فلاحية متوسطة، من مواليد 1929 من اهالي مدينة رواندوز الكردية الجبلية العريقة بتأريخها الحضاري و العسكري في المنطقة، و الغنية بموقعها الجبلي الحصين و بأهلها الاشداء الرحماء، المدينة التي اشتهرت بمواقفها الثورية التي دفع ابناؤها نساءً و رجالاً اثماناً كبيرة لمواقفهم التحررية و الاممية . . بعد ان دكّتها طائرات و مدفعيات الحكومات الشوفينية المتعاقبة، و هدّمت احيائها و بيوتها و منشآتها و هجّرت اهاليها برجالهم و نسائهم و اطفالهم لمرّات و مرّات . . و لم تستطع ان تلين او تكسر ارادتهم !

سكنت عائلته في اطراف المدينة، و درس في مدرسة ابتدائية و اضطرته ظروف الحياة كابن وحيد لشقيقات . . للعمل مبكراً في الزراعة، ثم في البناء اضافة الى ممارسة انواع المهن من اجل توفير لقمة العيش لعائلته، من صاحب مقهى الى خبّاز . . نشط في العمل النقابي في نقابة عمال البناء و نقابة الخبازين و تعلّم من الحياة معاركتها و الصدق و الكرم و التعاطف مع ابناء منطقته و شعبه، الذين من اجلهم انخرط في النشاط النقابي ثم في وحدات الانصار العائدة للحزب الشيوعي و التي تشكّلت اثر انقلاب شباط 1963 الدموي، منحازة بذلك الى ثورة ايلول القومية التحررية، اسوة بعديد من رفاقه، و شارك في العديد من المعارك خلالها . .

و كان مام خدر كاكيل ممن لمعوا في معركة هندرين الشهيرة عام 1966 بجرأته و بسالته، التي استشهد فيها اعز اصدقائه و ابن خاله البيشمركة حاجي جرجس، الذي شكّل استشهاده نقطة تحوّل كبير في حياته بعد ان اقسم على الرّد لدمائه . . و شاركه في المعركة بنشاط ابن بلدته و صديقه الفقيد مام الياس الشهير ـ الذي استشهد له فيها ابنه صالح، و جرح ابنه الثاني انور جروحاً بليغة لايزال يعاني من آثارها، فيها (1) ـ ، تلك المعركة التي شكّلت نصراً كبيراً للثورة الكردية و اضطرت السلطة بخسارتها فيها الى تبني نهج اللامركزية.

لم يكن كادراً حزبياً متقدماً، و انما صار من القادة العسكريين الميدانيين في منظمة انصار الحزب الشيوعي العراقي . . لخبراته المتنوعة بما شارك و ما قدّم في المعارك و في المواقف الحاسمة فيها من جهة، و بتواضعه و حبه لرفاقه مهما كانت قومياتهم و بايمانه العميق بعدالة قضية الفقراء من جهة اخرى، في وقت تمتع فيه بالبساطة و روح النكتة . . حتى صار اسماً ذائع الصيت في الثمانينات خلال سنتين من نشاطه و هو في خريف العمر في صفوف قوات الانصار المشكلة حديثاً آنذاك عام 1979 . . حتى استشهاده.

و قد لعب الانتصار الذي حققه بيشمركة انصار سرية روستي بنجاحهم باقتحام ربيئة " سري سرين " بقيادته لهم في ليلة 30 / 31 / 1982 آذار ذكرى تأسيس الحزب من ذلك العام، الذي كان اول انتصار من هذا النوع للمنظمة آنذاك، خطط له و قام باستطلاعه ثم قاده الشهيد كاكيل، فاتحاً بذلك الباب عريضاً لعمليات اقتحام الربايا العسكرية، و صار يلقّب بـ " ذئب الربايا العسكرية " في المناطق الجبلية العاصية هناك، التي صار منتسبوها يخافون البيشمركة ان ورد اسمه في المنطقة . .

كان الرائد في عمليات اقتحام الربايا العسكرية، التي كانت هي مصادر الخطر في الجبال . . الرائد في خلق روحية اقتحام العدو في قلعته ـ و ليس الهروب منه ـ في تلك الظروف الصعبة آنذاك، و كان صاحب فكرة (التسلل الحذر . . ثم الهجوم على الربيئة المقامة على اعلى قمة في المكان، التي ان تم اقتحامها تسقط الربايا التي تحتها فتفر او تُلغى بعدئذ (2) . . و ان الاستطلاع هو الاساس).

فكان يقضيّ اوقاته كصيّاد بسلاح و ناظور حاملاً قفص طائر القبج، متجولاً في اعالي الجبال ليصيد ماتوفر، برفقة احد الانصار من الشباب الكتومين او لوحده . . و لم يمنعه الليل و الظلام من جهوده المتواصلة تلك كما شهدتها حين كان يتجوّل في اعالي جبال: روستي، كلالة، كوشينه و وادي دار السلام . . نهاراً و ليلاً .

و قد تفاجأت بعد ظهر ذات يوم بدعوته لنا ـ حيث كنا نصيرين نتجول عند الحصار في روستي ـ . . لتناول لحم مشوي لم يقل ماهو، حين كان اللحم شحيحاً آنذاك . . لم نشاهد دخاناً و ذهبنا الى مكانه الشبيه بمغارة، و تفاجأت باستخدامه للسماق بكثرة على قطعة لحم تشبه لحم الدجاج او الارانب . قال دعوتك للتذوق فقط، و بعد ان تذوقت و كان لذيذاً قال انه ثعلب !! فتركته، و قد ضحك كثيراً و قال :
ـ لم استطع اصطياد سوى ثعلب اليوم . . ولابد ان اعود بصيد للمقر لاني وعدت، و همس باذني موجهاً نظري بالناظور الى اطراف كوشينة : هل تشاهد تلك الربيئة ؟ انها مقامة منذ الامس فقط . .
ـ انها قريبة جداً منّا !!
ـ طبعاً و مغشّاة جيداً . . لاتخبّر احداً، انها هدفنا القادم !!

و بعد اعتذار منه . . خفض رأسي و اداره بيده الى جهة اخرى، كي يختفي رأسي خلف ساتر من احجار كان قد اعده، و قال " لاحظ تشكيل الربايا و كيف انهم يحملون الماء على ظهر بغل من نبع في الاسفل" . . حتى فهمت من كلامه و توضيحه، اماكن منابع الخطر التي تهدد موقعنا و كيف انها تتغيّر يومياً وسط هدوء كان يسود المنطقة آنذاك . .

عرفت لاحقاً انه كان يستصحب كل مرة نصيراً ممن توسّم فيهم الاهلية، لتدريبهم على الاستطلاع في جولات الصيد، كما علمت من الشهداء ملاعثمان عنكاوي، ابو فيروز ـ جمال عاكف ـ و ابو سحر . . حتى خلق بتجاربه و حزمه و تواضعه اعداداً صارت بعدئذ من خيرة كوادر الانصار، منهم الشهيد سعدون الذي صار بعد ذلك عضو م. س للحزب الشيوعي العراقي .

و يرى العديد من البيشمركةالانصار ممن عايشوه و جمعهم النضال معه انه كان ينطلق في افكاره و خططه من واقع منطقته و من اسس التقاليد التأريخية و الملاحم البطولية التي حققها ابطال وحدات البيشمركة على مرّ عقود في كردستان العراق، على اساس ان النصر العسكري هو الذي يخلق النصر السياسي و ان الاساس هو جمع كل ما من شأنه ان يحقق ذلك، سواء بنوعية المقاتلين و ايمانهم بعدالة قضيتهم او بمعرفتهم لتضاريس و تكوينات مناطقهم، و ان ذلك هو الذي يجلب السلاح و المال للحركة، و اختلف بذلك مع وجهة كانت تتزايد بتغليب حساب موازين القوى المحيطة . .

و قد دخل الشهيد كاكيل بصراعات داخل التنظيم حول ضرورة اختيار يحقق انسجام اعضاء الهيئات العسكرية فيما بينهم لأجل تحقيق النجاحات الميدانية، و قد نجح في قسم منها، و لم ينجح في آخر كان يعتمد على التقييمات التنظيمية الحزبية المجردة . . الاّ ان التطورات اللاحقة اثبتت صحة رؤياه، حين استطاعت مجاميع بارتزانية صغيرة ان تلف الجماهير حولها بجرأتها و نجاحاتها انتصاراً لمطالبها!! حين ساد الانسجام بين اعضائها، و بينهم و بين آمرهم، التي حققت وحدة الارادة و العمل، و حققت استعدادهم للتضحية احدهم في سبيل الآخر، في وقت تصاعد تحديّ الجماهير للظلم و للعسف القومي الشوفيني.

من ناحية اخرى، كان يضيق ذرعاً باعلام البيشمركة بنبرته المهددة في اوقات الانحسار . . و يصفه بالمكابر و المُبالِغْ، لأن الجماهير تعرف الواقع و تدفع ثمنه، في وقت تحتاج فيه الى عمليات تنتصر لها و تقويّ ارادتها، كما يصف.

و لا يسعني الاّ ان اذكر تقديرات ملازم هشام و الفقيد ملازم فائز اللذين اكملا الدراسة العسكرية و توليا مراتب امراء افواج بعدئذ حول افكار و رؤى كاكيل، حيث وصفاها بكونها اسس حياة و كفاح الانصار. و قد بقيت مآثره و افكاره مرشدة لنشاط عدد بارز من وجوه و كوادر البيشمركةالانصار لاحقاً . . منهم على حد معرفتي، آمر السرية المعروف هزار روستي آنذاك ـ الذي كان احد ابطال صدّ الجيش الصدامي في كلي علي بك عام 1975 ـ، الشهداء : ملا عثمان عنكاوة، ابو داود كربلاء، ابوفيروز بغداد، ابو سحر ديوانية، ابو ميلاد الثورة ـ بغداد و غيرهم . . في وقت صار فيه اسم الشهيد خدر كاكيل اسماً مؤثراً بين اوسع اوساط البيشمركة .

استشهد القائد الانصاري في مأساة اقتتال الأخوة في بشت ئاشان في ايار / 1983 و كان نائب آمر الفوج 21 / ليوزه، مقره عند شاخي ره ش قرب قرية جيزان . . حين وقع مع عدد من الانصار بكمين متفوق، و حاول القتال الى النهاية ببندقية برنو ـ بعد نفاذ عتاد الكلاشن ـ مدافعاً عن رفاقه، حين اصابته اطلاقة في صدره احسّ بانها القاتلة و سلّم مامعه من اوراق طالباً تسليمها للرفاق، و ساعته و نقود طالباً ايصالها الى اهله . . سلّمها الى نصير كان معه امره بالانسحاب .

وكان في اوراقه الاخيرة ملاحظات و خطة لإقتحام ربيئة اساسية من ربايا سري حسن بك . . ردّاً على العملية التي لم تنجح لأول محاولة جريئة لإقتحام ربيئة عسكرية على احدى قمم كورك، قادها معاون آمر سرية رواندوز الشهيد ابو فيروز، و استشهد معه فيها الشهيد شه مال ـ يوسف محمد امين وسطه ـ . . في ظرف مؤاتي حيث كان الجيش الصدامي يلعق جراحه جرّاء هزائمه الكبيرة في الحرب المجنونة ضد الجارة ايران، و كانت وحداته تقلل من كثافتها في المنطقة، فيما كانت الدكتاتورية تعدّ مخططاً خبيثاً . . انتج مأساة بشت ئاشان بُعيد ذاك .

في الختام و بعد الوقوف اجلالاً لبطولة الشهيد خدر كاكيل و رفاقه الانصار . . لابد من القول ان كتابتي المتواضعة هذه اضافة الى اعتزازي الكبير بذكرى الشهيد البطل خدر كاكيل، تأتي بعد الحاح كثيرين بالكتابة عنه . و كمساهمة مع الجهود المبذولة للتعريف بتأريخ حركة الانصار و فكرها و شهدائها الخالدين، و خاصة الكتابة عن من ندر او من لم يكتب عنهم لأسباب متنوعة . . في مقدمتها مرور الزمن على احداث لم تدوّن و تناقص شهودها .


22 / 2 / 2013

 

(1) لابد من التذكير هنا، باستشهاد ابن الشهيد كاكيل آمر الفصيل عثمان خدر كاكيل ـ الشهيد سركه وت ـ في معركة هيلوة الشهيرة في دشت اربيل عام 1986 .
(2)
مستنداً في ذلك على " ان الربايا العسكرية، هي وحدات عسكرية نظامية تترابط بينها و تعود لوحدة عسكرية اكبر، كترابط وحدات المشاة . . و عادة ما تشغل قيادتها اعلى قمة و ان لم تشغلها، فإن سقوط اعلى القمم بيد البيشمركة يخيف ربايا القمم الاوطأ و يصيب منتسبيها بالذعر و يسهّل استسلامهم"



 

 

free web counter