نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. مهند البراك

 

 

 

 

الثلاثاء 11 / 4 / 2006

 

 

 

المحاكمة ودفاع الدكتاتور الديماغوجي !

( 2 - 2 )

 

د. مهند البراك

وفيما يسعى لتسويق نفسه بكونه لم يحقد على احد (كذا) وبكونه يدين الحقد، فان صدام الأكثر تطرفاً لشخصه الذي يدعوه هو بـ (صدام حسين) والأكثر انغلاقا ووحشية، يحاول ان يسوّق نفسه كمعتدلاً في الظروف الراهنة التي هو المسؤول الأول في الأعداد لها وساهم الى حد بعيد في صنعها في بلادنا والمنطقة ـ اضافة لمسؤوليته الأولى عمّا جرى في البلاد بسبب حكمه ـ . . وحيث تمّر الآن في احدى صفحات مسيرتها حول اختيار رئيس وزراء جديد، تتصف ببروز تطرف وتعنت لم يستفد القائمون به من تجربة البلاد تحت صداّم المرير . . رغم كل الفوارق والتفاصيل .
بعد ان جرى تسمية من فاز بفارق صوت واحد على منافسيه في قائمته هو ولم يحصل على تاييد القوائم العراقية الأخرى كلها بسبب ادائه الذي لم ينجح في دورته السابقة وبسبب السياسة التي يتبنّاها، والمدعوم الآن بميليشيات طائفية ذات نشاطات مسلحة كثيرة التنوع لاتبالي بالأساليب للوصول الى غاياتها، في ظروف اعمال ارهاب تجري ضد طائفتها تقوم بها اطراف طائفية منافسة لها واطراف لم يكشف النقاب عنها بعد، في محاولة لأثارتها ـ تلك الميليشيا ـ اكثر وبالتالي في محاولة لجرّها وطائفتها الى حرب طائفية اوسع . .
وفي الوقت الذي لابد فيه من القول ان الحاكم السيد رؤوف عبد الرحمن، قد نجح الى حد بعيد في ضبط وادارة سير المحكمة وتركيزها على وجهة مقتضيات قضية الأتهام موضوعة البحث. لا يزال يتساءل كثيرون ، الا يستغل صدّام المحاكمة التي تسير على اساس كونها محاكمة عائدة لمحكمة الجنايات العليا . . . الا يستغلها للعب دوره السياسي الديماغوجي الذي يستمر في الألحاح على فرضه، في وقت لايزال يشكّل فيه رمزاً لفلوله الأرهابية الدموية التي تنسق او تتوافق مع مجاميع الأرهاب الأصولي الدخيلة على البلاد . . لكونه ليس من اختصاصها، رغم نجاح المحكمة في اغلاق المكرفونات لدى تجاوزاته المتكررة .
من جهة اخرى، استطاعت المحاكمة استعراض جوانب هامة كانت خافية على اوساط اقليمية ودولية والرأي العام فيها خاصة، عن آلية عمل جهاز دولة صدام القمعي، ودوره كرئيس جمهورية فيه، والأجراءات والصياغات المبهمة والتحوطية التي مارستها الدكتاتورية في حكمها( آليات، ممارسات، مكاتبات، مراسيم . . ) في اساليب كان مخطط لها منذ بداية استلام البعث العفلقي الصدامي الحكم ثم تصفيته للعصابات الأولى التي اوصلته للحكم وبنائه عصابات واجهزة دموية ارهابية جديدة بمناهج (احدث)، والتي ازدادت بعدئذ اثر انتفاضة آذار 1991 التي شملت المحافظات الكوردستانية واغلب محافظات الجنوب والوسط حيث سقط العديد من الوثائق والمستمسكات الجرمية التي تدينها . . لتضييع المسؤوليات في سلوك الدكتاتورية وحروبها الأكثر دموية وشوفينية، كوسيلة لحماية مجرميها، الأمر الذي عكس عدم ثقة الدكتاتور بكبار رجاله . . وعمل على الوقاية من مخاطر تسربها الى المعارضة او الى جهات قانونية دولية، بعد بطشه الداخلي وحروبه التي اعلنها على دول المنطقة.
فاستعرضت المحاكمة اسلوب التصديق والتوقيع على القرارات الهامة بالتلفون وشفهياً!! ومصطلحات "القضايا الخاصة" و " القرارات ذات الطبيعة الخاصة " التي لم تحدد، والتي في وثيقة واحدة منها التي لها علاقة بـ " قضية الدجيل " وعرضت على الشاشات المحلية والدولية وتناقلتها وكالات الأنباء . . احتوت على أمر باعدام الآلاف رجالاً ونساءاً، من القوى الأسلامية والحزب الشيوعي العراقي، اضافة الى اعتقال عشرات آلاف آخرين لكونهم من ذويهم فقط !! ممن تمكنوا من القبض عليهم، على حد تعبير الوثيقة المعروضة بنفسها .
الأمر الذي يشكّل احدى القرائن الهامة في تجريم الدكتاتور كمسؤول اول عن سياسة الموت والعقاب الجماعي وتصفية الخصوم السياسيين واجثاث عوائلهم وتحطيمها، كي لايسأل احد عنهم ولكي يضيع أثرهم (1)، والتي عبّر عنها صدام بسؤاله الأدعاء العام ( هل انت متأكد من ذلك العدد من المحتجزين وعدم تسليم جثثهم ؟ يجوز انه لم يبق احد من اهاليهم ليستلم الجثث ؟! هل بقى احد من اهاليهم ؟!) . . اضافة الى التفاصيل التي لم يتوسع بها وصمت عنها، عن اغماط دولته حقوق عشرات آلاف المعدومين لأسباب سياسية بعد ان حكموا وتم تنفيذ حكم الأعدام بهم ( من تسليم جثمانهم الى اهاليهم، الى حقوقهم بقبور تكتب عليها اسماؤهم وغيرها . . ) في زمان نفذت فيه دولته احكام الأعدام بآلاف أخرى من الجنود والمراتب بتهم الجبن، وكانت تسلّم جثامينهم الموضوع عليها قطعة كرتون مكتوب عليها (جبان)، لأهاليهم مقابل استلام اثمان الأطلاقات النارية التي نُفّذ بها الحكم، منهم !
الأمر الذي لم يكن الاّ جزءاً من سياسة الموت الجماعي والأرض المحروقة والأستئصال العرقي والسياسي التي اتبعتها الدكتاتورية الوحشية في حكمها، وبمختلف الوسائل سواءاً في كوردستان والدجيل، في حلبجة والأنفال، او في الأهوار وفي سياسة المقابر الجماعية في الجنوب.
واستعرضت المحكمة التدقيقات اللغوية التي اعتمدتها الدكتاتورية لتضييع المسؤوليات واسماء المسؤولين عن قرارات الموت الجماعي والأعدامات، باستخدام صياغات لغوية مبنية للمجهول لغوياً لاتشير الى الفاعل او المقرر بالأسم كـ ( تقرر، تنسّب . . ) الذي اكّد صدام في استدراكه حول كيفية صياغة احدى الفقرات بسؤاله ( نسّبَ ام تنسّبَ )، الذي يدلل بوضوح مدى اشراف الدكتاتور المباشرعلى تلك الصياغات آنفة الذكر، ويقدّم تصورات هامة عن دائرة الشؤون القانونية لرئاسة الجمهورية الصدامية وصياغاتها اللغوية التي استهدفت غمط حقائق وحجبها بهدف جعلها سريّة غير قابلة للأستخدام كمادة اتهام او تجريم لوحدها ـ او بشكل مجرّد ـ بسهولة .
ويرى عديد من القانونيين الدوليين والخبراء ان رأس النظام، كان ضالعاً نشيطاً وتماماً في تلك الجرائم التي حدثت، من خلال طبيعة محاججاته تلك في المحكمة، ومن خلال معرفته ونقاشه في اصول كل تلك الآليات والتفاصيل اليومية المرعبة، وتدلل على انه كان اقرب مما يتصوّر من تلك الجرائم، بل وانها جرت بايعاز منه وبعلمه، ومن خلال دوره وصلاحياته التي كانت تمكنه من ايقاف تلك المجازر، وباعترافه وبالأمثلة التي اوردها هو وتناقلتها وسائل الأعلام الحي، المرئي والمسموع . . وتشكّل ردّاً قوياً على كذب ادعائه بعدم معرفته بما كان يجري لمشغولياته ؟! (2)
بل انه اعترف بصلاحياته المطلقة تلك، الاّ انه (لم يفعل لأيقاف اعمال بطش) لأن ذلك كان اجتهاده، وهو اجتهاد شرعي حسب قوله، لأنه رئيس منتخب، وانه كان يطبّق (القانون) . . الأمر الذي يعيد الى الأذهان اقواله واحاديثة التي نشرتها الصحف الرسمية اواخر السبعينات، حين قال ان قوانيننا هي هذه !! في وقت احتوت قوانينه المذكورة على اكثر من 180 مادة كانت تحكم بالأعدام في المجال السياسي والثقافي فقط !! وقال (ان ماعمله لم يكن جريمة وانما امر باحالتهم الى محكمة الثورة، وفق الأصول ) !! ولمن لايعرف ماهية محكمة الثورة يجيبه الألوف الذين كتب لهم ان يعيشوا من عشرات الآلاف الذين مروّا بذلك المسلخ البشري الذي كان معداً لأعدام اكبرعدد ممكن من المحالين اليه وهم في حالات يرثى لها جراّء التعذيب المتنوع. (3)
اما عن اعطائه لنفسه كل تلك الحقوق البشعة لكونه منتخب ؟! فان هناك ما لايعد من الأدلة التي لايمكن الاّ ان تنفي ذلك، بدءاً من اغتصابه للحكم بانقلاب عسكري ـ عصاباتي كتب عنه الكثير، مروراً بتعامله الذي صار معروفاً مع معارضته . . وصولاً الى حكمه لحزبه السئ الصيت ذاته، الذي حكمه وحكم دولته بذات الطريقة الوحشية الدموية، حيث قتل من عارضه في حزبه وفي اجتماعات له معهم وامام الأعضاء الآخرين لقيادته وكان منهم د. رياض حسين وغيره، بعد ان ساق قيادة حزبه للموت وللتصفيه واجبر الأعضاء الآخرين على تنفيذ احكام الموت بهم والاّ يساقون هم ايضاً الى الموت، في القضية التي سميت بقضية محي ـ عايش .
انتهاءاً بمهازل انتخاباته التي فاز بها بـ 99،9 % ، وكانت عبارة عن سوق قسري للناس للأحتفال بـ " البيعة له حفظه الله" وكان من لايشارك فيها يواجه اقسى العقوبات . . اما الأنتخابات الحقيقية له كانت حين صوّت الشعب له بتركه ليواجه مصيره لوحده في الحرب التي فرّ فيها ولم يواجه مسؤولياته العسكرية وفق الأصول.
ذلك وغيره من تفاصيل لايتحملها المقال، لاتشير الاّ الى انه لم يكن منتخباً في عملية انتخابات ! اضافة الى ان ادعائه بكونه كان يطبق القوانين ويجتهد فيها، مردود عليه فيها لأن تلك القوانين لم تعبّر لاعن القوانين العراقية وروحها، ولاعن الشرعية القانونية الدولية المعترف بها، ولاتعبّر عن الحقوق الأساسية للبشر المنصوص عليها في العهود والمواثيق الدولية لحقوق الأنسان في الأمم المتحدة.
ويرى كثيرون انه في محاولاته الديماغوجية تلك في الدفاع عن نفسه، رغم انه حق مشروع له قانوناً، انما يحاول ركوب الصراع الطائفي (من موقعه الطائفي هو) باسم الدعوة المنافقة لوحدة العراقيين وبتعبيره عن كونه لايحمل حقداً على الأمام الخميني (كذا)، في ظروف الأزمة الحالية، ازمة تسمية رئيس الوزراء، التي يلعب فيها السيد الجعفري وميليشيا الصدر دورا اصمّاً قد يعرّض المسيرة الى اخطار لاتتمناها اوسع الأوساط وهي تواجه الذبح اليومي والقتل والتهجير على الهوية الطائفية .
وفيما ترى اوساط واسعة ان صدام انتهى كرجل دولة وسياسة وتنتظر مواجهته اقسى العقوبات على جرائمه وان اعمال فلوله الدموية الأرهابية لن تؤديّ الاّ الى القتل والدمار، تتساءل اوساط اخرى بقلق عن احتمال عودته لممارسة دور سياسي مخرّب بل ترى انه يمارسه الآن على الهواء في محاكمته رغم جهود المحكمة للحد منه . . وتعبّر اوساط اخرى عن القلق من ان استمرار القلق الداخلي والأقليمي وعدم الأستقرار، في مناخ دولي يبدو انه يسير نحو العنف والجريمة، قد يؤدي الى مفاجئات لايمكن التكهن بها حتى بخصوص الدكتاتور، ان لم يجر العمل حثيثاً نحو صيغة مشروع للأنقاذ على اساس التوافق الوطني والتنازلات المتبادلة، ووضع حد لقضية الميليشيات المسلحة.
وبالتالي فان قضية المحاكمة هي قضية جنائية ـ سياسية ، لأنها تحاكم مجرماً اساسيا حكم بالقتل والجريمة مع عدد من ابرز معاونيه، وهي كأي هيئة سياسية ـ اجتماعية ترتبط وثيقاً باحداث البلاد وخط مسيرتها، وبالتالي لايمكن تحقيق الأتفاق الوطني لكل الأطياف العراقية على انقاذ البلاد واعادة بنائها على اساس الأستقلال ورفض الحرب والعنف، دون انهاء قطب الجريمة.

* لقراءة الحلقة الأولى


(1) كما عبّر محققو الدكتاتورية للآلاف من المعتقلين السياسيين رجالاً ونساءاً، في عمليات تحقيقاتهم الوحشية معهم . . وبالذات للأكثر خطورة منهم عليهم بتقديرهم منذ استلام البعث العفلقي الصدامي الحكم عام 1968 .
(2) لم يعرف للدكتاتور مشغوليات يومية علمية، عسكرية، ادارية، سياسية . . بقدر مشغولياته الزائدة عن الحد بأمنه الشخصي وامن كرسيه، وفق عديد من المصادر: من التي كانت قريبة ومحيطة به، الى مصادرة دولية كثيرة التنوع .
(3) راجع ملفات منظمات حقوق الأنسان العراقية ـ ضمنها الكوردستانية ـ ، بيانات ومنشورات صحف قوى واحزاب معارضة  الدكتاتورية، ملفات منظمة العفو الدولية لتلك العقود .