| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

ميادة العسكري
mayadaaskari@gmail.com

 

 

 

 

الأثنين 10/5/ 2009

 

رحيل الباشق

ميادة العسكري

كان معتصم يحدثني عنك ..
قال .. كان لا يبرد ابدا ..حتى في ابرد شتاءات البادية عند تحول البرد الى سكاكين توخز العظام، كان يضحك من وقوفنا حول النار ..

كتمت في نفسي يومها .. لم أقل له بأن بعض من البشر يخلقهم الله ليكونو اكبر من الحياة نفسها .. لا يبردون مثلما نبرد ولا يخافون مثلما نخاف وحتى ايمانهم بالله اقوى وارسخ ..

**

تذكرت عندما طرح احدهم سؤال عليك .. قال : الا تخاف يا أحمد

قلت له في وقتها : نعم أخاف، ولكني أخجل من تبيان مشاعري

يومها كلمتني ..قلت : كنت في أعلى قوس الله المتوهج بالالوان .. كنت في أعلى نقطة فيه .. تراب المعركة كان – لا يزال- يزين بدلتي، وبسطالي الاسود تحول الى لون ترابي ..وددت لو مسحته وتيممت به .. فهو تراب طاهر .. أتعلمين؟

طبعا كنت أعلم ..ان كل ذرة فيه طهر منزل من الجنة ..فكيف وتراب هذه المعركة قد اثير وهو يدافع عن العراق ضد الارهاب المستشري كالسرطان

قال : عندما سألني فلان ان كنت لا اخاف قلت له نعم، اخاف .. ولكن هل تعلمين كيف أخاف؟

قلت: نعم .. أعلم ..

قال وهو يضحك : تكذبين

قلت: عليك لا اكذب ابدا ..ولا اواري ولا اداري ..انت ابن روحي ..فكيف لام ان تكذب على فلذة روحها ؟

قال : اذن قولي كيف أخاف؟

قلت: الخوف عندك يا أحمد يصعّد الادرينالين ويرفعه كما يحدث عندما نصعد في دولاب الموت ..

أطلق ضحكة رجت المكان

قال : يعتقدون ان احمد يخاف .. انا لا استطيع ان اخاف مثل الاخرين

قلت: انت تقنن الشعور وتجريه في قناة واحدة ..تنسيك ادميتك الاعتيادية وتحولك الى راسية من الرواسي.. ودرع من فولاذ على صدر العراق ..

**

توفى والدي في بغداد ..قبل سنوات كثيرة ..

كل ما اذكر من ذاك النهار الحزين هو دخولي مع اختي الى غرفته في مستشفى الراهبات ..

رأيته مسجيا وقد فارق الحياة ..

تقول امي باني اتجهت نحو زجاج نافذة الغرفة وصرت اضرب رأسي به .. تقول بان الامر لزم عدد من العاملين في المستشفى لابعادي من النافذة تلك ..وكان يمكن لامي ان تقول لي باني قتلت سبعة ودمرت المستشفى بدون ان اتمكن من الدفاع عن نفسي لان نصف الساعة تلك وخروجنا من المستشفى امور مسحت من ذاكرتي تماما

**

ذاكرتي للاشياء دقيقة وتصل حد التفصيل الممل، الا في موقفين اثنين.. رحيل والدي ، ويوم جاءني خبرك يا أحمد ..

وها انا اقولها وقد ماتت فيّ كل الوان هذه الحياة ..

لم اكن اعلم بانك ربيع هذا العراق الا بعد ان رحلت ..

لم اكن اعلم بأن الثكلى تموت مع ولدها ..كل ثانية بعده ..

**

هوى السقف فوق راسي

وغابت شمسي

**

كنت انتظر مكالمته بعد عودته من عمان ..تأخر ..وعندما جاءت رسالة عبر الهاتف، اعتقدت انها منه ..

كتب اللواء عبد الكريم خلف ..احمد الفحل استشهد ..

اتصلت به وقلت وانا ارتجف : كريم، هذا الشقة مو حلو

قال : وداعة علي ابني وعلي ابنج مو شقة !!

لا اعرف على وجه الدقة ما حدث بعدها

ولكني اجزم بان سقف بيتي هوى فوق رأسي يومها ..

**

كان في السادسة من عمره عندما رأى طائر الباشق يحفر في جذع نخلة في بستان ابيه ..

كان يجلس ساعات وهو يتأمل الطائر يعمل بلا هوادة .. وفي يوم، جهز العش، ووضعت انثى الباشق بيوضها..

لم يتكلم احمد في الموضوع البتة، كان سر بينه وبين نفسه .. كان يجلس قبالة النخلة ساعات واضعا راحة يده الصغيرة على خده وهو يتأمل فتحة عش الطائر الغريب.. وفي يوم، تأخرت الام بالعودة الى عشها .. دب القلق في اوصال احمد الصغير .. فصعد النخلة واطل على العش..

أطمأن أحمد الى وجود البيض ونزل .. وسرعان ما جاءت الام بعده ..

ومرت الايام وفقس البيض عن طيور باشق صغيرة ..

لم يكن أحمد يلمسها البتة خوفا عليها من امها التي قد تتركها ان احست باقتراب يد غريبة من فراخها ..

ويستطيل الصبر وفي نهايته تتعلم فراخ الباشق الطيران .. وكانت احداها من نصيبه ..

قال : لم أكن احب شيء في الكون بقدر حبي لهذا الطائر الغريب .. كنت اصيد له العصافير الصغيرة وفي يوم نظرت اليه وقررت أن اطلقه .. فانا احب الحرية ..ولا استطيع ان اسجن مخلوق حتى لو كان هذا الطائر الذي ربيته وكبر معي ..

وقف أحمد من على سطح دارهم في العلم واطلق الباشق ..

قال .. حلق طويلا وفي صباح اليوم التالي عاد ووقف على كتفي ونزل ليقف على راحه يدي .. واطلقته مرة اخرى .. واستمر هكذا سنتان ..

كنت انظر اليه وابتسم في داخلي واقول له .. ستحلق اليوم وتعود لي غدا ..

**

وتمر سنتان ..

والطائر يحلق ويعود الى صاحبه ..

وفي يوم مطير عاصف ..كان احمد يقف خلف النافذة ينظر الى الحقل الممتد امامه .. واذا بالباشق يأتي طائرا من بعيد ليقف على سلك من اسلاك الكهرباء .. غص قلب احمد قبل ان يهوي الطائر ارضا ..

ركض احمد خارج المنزل باتجاه باشقه ليجده قد فارق الحياة ..

وقف احمد تحت المطر وقد اختلطت دموعه بماء الله المنهمر

**

قال لي ..دفنته في حديقة الدار الخلفية ولا ازال الى اليوم اذكر الالم الذي كان يعتصرني .. وقف ابي الى جانبي وجعلني ادفنه واهيل التراب عليه .. والى اليوم لا ادري لماذا جعلني انا اقوم بالدفن ..

**

لم يكن احمد يدري ان دفن باشقه سهل عليه تقبل فراقه ..

يومها ..لم افكر كثيرا بقصة الباشق ..

الى ان رحل احمد .. من دون وداع .. ومن دون ان اهيل بيدي التراب عليه لاقتنع بانه رحل ..

 


 

free web counter