| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

أ.د. محمد الربيعي
alrubeai@gmail.com

 

 

 

الأربعاء 15/2/ 2006


 

عودة الى موضوع الحرية الأكاديمية وانتهاكات الحرم الجامعي

أ. د. محمد الربيعي *

عندما كتبت حول الحرية الأكاديمية وانتهاكات الحرم الجامعي لم اكن اتوقع ان تثيرالمقالة مشاعر قوية عند جمهرة من الأكاديميين العراقيين، وتدفع العديد منهم للدلو بدلوهم، وطرح قناعاتهم ومخاوفهم وتوقعاتهم، والتي في مجملها تتفق بان الاوضاع سيئة وتزداد سوءا يوما بعد يوم، وبدرجة صورها البعض بأنه اكبر تحدي يواجههم في حياتهم حاليا بعد مشكلة انعدام الامن والسلامة، والمشكلة الاخيرة هي مشكلة عامة تواجه العراقيين جميعا. ومن الامثلة على خطورة الوضع الحالي المتمثل بأستهداف العقول العراقية قتل الدكتور عبد الرزاق النعاس احد اساتذة كلية الاعلام وتعرض الاستاذ مؤيد الخفاف من نفس الكلية الى الاعتداء الجسدي من قبل ملثمين وتوجيهم تهديدات بالقتل لبعض الاساتذة الاخرين. وتتحدث المصادر عن سلسلة من العنف تشهدها جامعة بغداد منذ مدة من دون تحديد الاسباب او الجهات التي تقف وراءها.

ولاستلامي ردود عديدة من جهات مختلفة حول الموضوع، بالاضافة الى حصولي على معلومات اخرى من مصادر داخل بعض الجامعات حول الاعتداءات التي يواجهها اعضاء الهيئات التدريسية والتدخل في شؤونهم الاكاديمية من قبل جهات مختلفة بصورة مباشرة او غير مباشرة، والتأثير السلبي لممارسات بعض الطلبة على العملية الاكاديمية يجعلني اعود للموضوع مرة أخرى.

من ضمن الردود جائتني رسالة الكترونية من احد اساتذة جامعة بغداد فيها ما يقلق كثيرا وما يحزن كثيرا وما يغضب كثيرا. ادرج مقاطع منها لاعطاء فكرة عن الوضع الحالي الذي يعيش فيه اساتذه الجامعات العراقية، علما ان رسائل وصلتني من مصادر اخرى تحمل اخبارا وأراءا مشابهة: (..اقول لك ان الاستاذ في هذا الوقت قد أهين وضرب بالكراسي من قبل الطلبة لا لشيء الا لانه يخالف اراء هؤلاء الطلبة .... واصبحت القيم من النوادر وانتهى دور الاستاذ الجامعي واصبح كالنعامة يخبئ رأسه في التراب والجامعة والحكومة واقفة موقف المتفرج وبعض الانفار يشجعون هذه الممارسات ضد الاساتذة... الكثير من زملائنا الاساتذة قد اغتيلوا وقتلوا بأيدي هؤلاء المتخلفين القتلة... الاستاذ في زمن صدام كان لا يستطيع ان يقول رأيه اما الان فأنه يستطيع ان يقول رأيه ولكن لا اعتقد انه سيكون على قيد الحياة اذا قال رأيه بصراحة).

هل حقا يمكن ان يحدث هذا في احدى اقدم معاقل الفكر والبحث العلمي في الشرق الاوسط. تصور ان استاذا في العلوم الانسانية اراد تحقيق هدف الجامعة في تحفيز العقل من خلال اثارة الاسئلة غير المرغوب في اثارتها. ماذا سيحدث لهذا الاستاذ؟ اترك الجواب لزملائي في كليات العلوم الانسانية!

من المفيد أن اشير الى اني عندما عملت في التعليم العالي مباشرة بعد سقوط النظام البعثي، لمست عن كثب تدخل القوى السياسية وغيرها، وبصورة متزايدة في عمل الادارات الجامعية، وتعرضت بصورة شخصية كما تعرض العديد من العاملين في ادارة التعليم العالي الى اعتداءات الطلبة ولضغوطهم المستمرة لفرض أنماط معينة على الحياة الجامعية بتدخلهم المستمر في كل شاردة أو واردة من امور الجامعة والعمل الاكاديمي، خصوصا عندما شرعت في وضع مسودة لنظام اتحاد طلابي ديمقراطي للجامعات العراقية. ولكني في تلك الايام كنت اتوقع ان تتحسن الاوضاع، وكنت اعزي ذلك الى ان ما يحصل هو بسبب قلة الخبرة والعزلة الشديدة التي عانت منها الجامعات العراقية في الماضي، وكنت اعزي الفوضى التي لازمت الاسابيع والاشهر الاولى الى انعدام المستلزمات الاساسية من البنى التحتية بعد النهب والسلب والحرائق التي اصابت معظم المؤسسات الجامعية وتلكؤ عملية الاعمار والى عجز الادارات الجديدة للجامعات من ممارسة عملها بصورة كاملة وناجعة نتيجة هيمنة المستشارين الامريكيين قليلي الخبرة سواء في التعليم العالي او الادارة الجامعية او الحياة الجامعية الشرق اوسطية على كل مفاصل عمل النظام الجامعي مما ادى الى احباط واسع بين القيادات الجامعية وترددا في التعامل الديمقراطي الحر مع المسؤول الامريكي لوزارة التعليم العالي. هذا بالاضافة الى ان القضاء على النظام الصدامي وفر اجواء جديدة من الحرية والديمقراطية مما أدى الى بروز محاولات من بعض اطراف السلطة الجديدة لفرض حالة جديدة من الأمر الواقع تريد بها فرض هيمنتها على مفاصل الحياة الجامعية.

ويبدو انه من المبالغ به قول البعض بان ما يحدث اليوم مماثل لما كان يحدث ايام العهد البائد بسبب بسيط ان الجامعة لم تعد تخضع لسيطرة الدولة وفلسفتها المؤدلجة، التي لا ترى في الانسان الا ماكنة تخدم اهداف وتطلعات النظام. الا انها اليوم تخضع لابتزازات وضغوط مستمرة متناثرة ومن جهات مختلفة تعرقل عملها وتتدخل في شئونها او تحاول فرض تقليد او ممارسة معينة لا تمت صلة الى مهمتها العلمية والتعليمية. وقد يعود هذا الى انعدام سيطرة الدولة على الاوضاع الامنية وعدم احترام بعض الطلبة لحرمة الجامعة وتفهمهم الخاطئ لمفهوم الحرية الاكاديمية. ويحتمي هؤلاء الطلبة تحت واجهات معينة، الا ان مصالحهم لا تمت ابدا بصلة بمصالح القوى الارهابية والعصابات المنظمة التي تتعمد العنف والقتل والخطف للاكاديميين والاطباء والعلماء العراقيين لكي تحقق هدفها في ارجاع العراق الى عهد الدكتاتورية المقيتة وجعله مركزا للارهاب العالمي ومعاداة الغرب.

ويمكن تقسيم القوى (بداخل الجامعات يمثل الطلبة معظم منتسبيها) التي تعمل على قمع العمل الاكاديمي والكلمة الحرة وتعيق تحقيق التآلف والاخوة والمنفعة العامة داخل الجامعات وبما يخدم مصلحة الوطن والتقدم الاجتماعي والتكنولوجي الى المجاميع التالية:

1- قوى او افراد من بقايا النظام السابق او من تلك التي فقدت مواقعها ونفوذها داخل الجامعات بحيث لم يعد من صالحها ان ترى الهدوء والسلام يعم ربوع الجامعات ولا ان تتحول الى ورشات عمل مستقلة للفكر الحر لتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي الحقيقي للعراق.
2- قوى سياسية تريد "تطهير" الجامعة من كل اكاديمي بعثي او متعاون مع النظام السابق، وقوى طائفية تريد التخلص من كل اكاديمي ينتمي الى طائفة من غير الطائفة التي تشكل الاكثرية في المحافظة التي تنتمي لها الجامعة.
3- قوى او افراد من بعض الاحزاب السياسية الدينية تريد ان تكون الجامعة جزءا من المجتمع الاسلامي بالصورة التي تراها للاسلام فتتدخل في شئون الادارات او تحاول فرض تقليد او ممارسة معينة لا تمت صلة الى مهمة الجامعة، كممارسة الشعائر الدينية التي لا تمارس عادة الا في الجوامع او الحسينيات او عن طريق الاجتماعات السياسية المخصصة لدعم اتجاه او قوة سياسية معينة. وهم باسلوبهم هذا يريدون ان تخضع الجامعة لمعايرهم وقيمهم الاخلاقية متناسين ان مثل هذا الاسلوب كان قد اتبع سابقا فتحولت الجامعات الى ثكنات عسكرية.
4- عصابات او افراد هدفها ابتزاز اساتذة الجامعة عن طريق التهديد من اجل مصالح فردية وكثيرا ما يتم تنفيذ هذه التهديدات اما بضرب او قتل الاستاذ. ويجد هؤلاء الافراد مجالا واسعا لتنفيذ جرائمهم نتيجة لانعدام الامن وسيطرة الدولة.
5- مجاميع او افراد لها مصالح شخصية في التخلص من واحد او اكثر من اعضاء الهيئات التدريسية، فتقوم بالتحريض على ضربه او ابعاده او قتله.
6- افراد من الانتهازين الذين لا يهمهم الا مصالحهم الانانية الضيقة يضعون عملهم الجامعي في خدمة مصالح بعض القوى الطلابية المؤثرة مما يمنح هذه القوى تأيدا ودعما يساعد في نشر مناخ الخوف في المحيط الجامعي.

من هذا نستنتج ان قوى وافراد عديدين مختلفي المصالح يدفعهم هدف زعزعة الامن الجامعي وعرقلة العمل الاكاديمي، بعضهم انتهازي وشخصي وبعضهم ايديولوجي الدوافع. تخليص الجامعة من العناصر الاولى يتم بالتدريج مع احكام سيطرة الدولة على الامن وتحقيق الامان على صعيد الشارع العراقي والقضاء على العنف وانتشار ثقافة احترام الرأي والرأي الاخر والالتزام بالمبادئ والقيم والاخلاق الوطنية والعالمية ذات الاساس القانوني. اما التخلص من المجموعة الثانية فهو عمل اشد صعوبة لما يرتبط ذلك بالوضع السياسي وبمدى اقتناع القيادات السياسية بمفهوم استقلالية الجامعة والحرية الاكاديمية كمبدأ مهم من مبادئ التعليم الجامعي. ان هذا الهدف يتطلب ان تقوم القيادات السياسية بمراجعة مواقفها من حرية الفكر والتعليم الجامعي، واذا كان من الحكمة اقحام السياسة والدين بداخل الجامعة خصوصا في الكليات العلمية والطبية والزراعية والهندسية. ومن هذا المنطلق تأتي أهمية تصريحات وزير التعليم العالي الاستاذ الدكتور سامي المظفر الذي دعا الى عدم تسييس الجامعات والى ضرورة التمسك بالثوابت والقيم العلمية والاكاديمية والتربوية وزجها في صراعات طالما حرصت الوزارة وغالبية القوى الوطنية الشريفة، الابتعاد عنها، حفاظا على المؤسسات التعليمية الوطنية ودورها الحيوي في بناء مجتمع متحضر وواع. ولربما يكون هذا احد الاسباب التي وراء المحاولة الفاشلة على حياته قبل ايام.

وادعوا في نهاية المقالة، لا بل أطالب، القوى السياسية وأعضاء مجلس النواب والحكومة العراقية الجديدة بالاشتراك مع قيادات الجامعات العراقية وأعضاء هيئاتها التدريسية عقد مؤتمر عام حول الحرية الاكاديمية لمناقشة واقرار مبادئ شرف يتمسك بها الجميع للحفاظ عليها كمؤسسات علمية وتربوية لنشر مبادئ الحرية والعدالة من خلال التعليم والبحث وتطوير أساليب التآلف والاخوة والمنفعة العامة بما يخدم مصلحة الوطن والتقدم الاجتماعي والتكنولوجي. وتتضمن توضيحا كاملا لمبادئ الحرية الاكاديمية واهميتها ومضامين حرية الاستاذ والطالب ومسؤوليتهما وحقوق الادارات الجامعية ومسؤولياتها امام الاستاذ والطالب والمجتمع، وتحديد نقاط الحريات الاكاديمية التي يجب اعتمادها كأساس لاي مشروع مستقبلي لحماية الجامعة والاستاذ الجامعي، والتي يجب ان تشكل المفاصل الاساسية التي نسعى لارساء اسسها في الحياة الاكاديمية العراقية وهي مسائل اتركها لزملائي اساتذة وقيادات الجامعات لمناقشتها وتقديم طلباتهم للدولة لكي توفر لهم الحماية الكاملة ولكي تضمن الحرية الاكاديمية الكاملة. ولابد ان اشير ان مؤتمرا كان قد عقد في بغداد حول هذا الموضوع شارك فيه عدد كبير من اداريي واساتذة الجامعات الا اني لم اعرف لغاية الان نتائج المؤتمر عسى ان يكون قد ساهم مساهمة فعالة في اغناء هذا الموضوع الحيوي والمهم وساعد في تطمين اساتذة الجامعة على حرص المسؤولين بمنع تسييس الجامعات واحترام قدسية الحرم الجامعي.



*  بروفسور في جامعة دبلن ومستشار علمي



 


 

free web counter