| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبد المنعم الأعسم

malasam2@hotmail.com

 

 

 

الخميس 3/7/ 2008

 

ست لوحات من داخل العاصمة العراقية
حرب وسلام في شوارع بغداد

عبدالمنعم الاعسم

1-
بغداد تبدو كعالم روائي، فلنبدأ من اليوم الذي وصلت اليه العاصمة العراقية في الثامن عشر من من اذار 2008.. آنذاك كان سكان العاصمة يسخرون من الوعود عن قرب نهاية للعنف والجريمة والمليشيات والفساد وهجمات القاعدة.
لكن الوضع الامني تحسن، فجأة، منذ اواسط ابريل فيما البيانات الرسمية لا تذكر السبب الحقيقي في هذا التحول الذي هو، في المقام الاول، يعود الى تفكيك المليشيات التي تتخذ من اسم المهدي اسما مباركا لها، والى وقف تدفق عناصرها واسلحتها وخرافاتها وممنوعاتها الى العاصمة من مصدرها الرئيسي في مدينتي الصدرفي الرصافة والشعلة في الكرخ، إذ شعر سكان العاصمة كما لو انهم خرجوا من كابوس، وقد جاء هذا الانحسار مسبوقا بحملة امنية مركزة على خلايا القاعدة الاجرامية في عدد من الاحياء وضرب وخنق خطوط حركتها من والى العاصمة.
وطوال ثلاثة اشهر شهدت بغداد انواء متقلبة، مناخية وسياسية ومزاجية على حد سواء، تكفي الاشارة الى تسعة عشر عاصفة رملية اغارت على العاصمة خلال تسعين يوما في وقت تراجعت، الى ادنى منسوب لها، المجابهات ذات الطابع الطائفي واتصلت الجزر السكانية المتحصنة ببعضها عبر اقنية كثيرة، منها الاسواق والمتاجر الكبيرةالمفتوحة وحدائق الزوراء والمشتل وبعض المرافق الجامعية والمواصلات والبعض القليل من دوائر الحكومة، وعلى الصعيد المزاجي حدث ما يمكن تسميته بالانقلاب الايجابي، لكن الحذِر والخائف، معبرٌ عنه في انتعاش الامل، لأول مرة، بامكانية تطبيع الحياة المدنية واستمرار التحسن الامني، من جهة، وتنامي التيار الوسطي الاجتماعي الذي ينأى عن المؤسسة السياسية، ويخرج على طاعتها، من جهة اخرى .
كل ذلك مقابل استمرار الكثير من عناصر الانفجار والازمة والعنف والاستئثار ونعرات الطائفية والعزل والثار في مفاصل الحكومة وفي مناهج وسياسات ومواقف فئاتها المتنفذة ، وفي استمرار تردي الخدمات، بخاصة في المناطق والاحياء الفقيرة والمهمشة، وكذلك في انحطاط الجملة السياسية لمعالجة ازمة حكومة المحاصصة وتدني سمعة اطراف هذه الازمة، وتشرذم العديد من الكيانات، القليل منه لاسباب مبدئية، والكثير تشم منه روائح التكسب والصراع على الزعامة والفرص.
اوجز "كاظم" صاحب مقهى افتتح مقهاه توا بحذر في الكرادة الامر بالقول" لقد مللنا هذه الدوامة. لم نعد نخاف. نحن ندفع ثمن اخطاء السياسيين الذين اعطيناهم اصواتنا".
يمكن القول، من دون مبالغة، ان ثمة في بغداد سباق محموم، ومفتوح وشرس، بين خيار الخروج من الدوامة وخيار تكريس الدوامة، ومما يعقد الامر هو ان الخطاب السياسي للاعبين لا يعكس حقيقة النيات المبيتة، فثمة العديد من خطوط الحكومة لا ينظر بارتياح الى التحول في المزاج الشعبي ومظاهر خروج الجمهور عن الطاعة، وثمة-اكثر من ذلك- معلومات تتسرب من وراء الكواليس عن صفقات تستهدف لجم الملايين واعادتها الى بيت الطاعة واختطاف اصواتها بلافتات المراجع والتكيات والرشوة والوعود الباذخة.
وفي خط السباق هذا حدثت مفارقة جديرة بالتأمل والمعاينة من زاوية اخرى، إذ افتتح في 26 من ايار جسر الصرافية الذي نسفته عصابات القاعدة باحتفال خطابي تخللته "وصلة طرب" على ايقاعات الجالغي البغدادي بحضور ومتابعة ممثلين عن الحكومة والمرجعيات الدينية، الامر الذي عُدّ سابقة في عهد اتخذ (هو او مليشياته) نمطا دينيا معينا للاحتفال في مثل هذه المناسبات وفرض الكثير من القيود على هوامش الفرح والفن واغلق المسارح وصالات السينما وضيّق على المطربين وانشطتهم، كما عد فاتحة لتفكيك الصرامة الدينية التي فرضت قسرا طوال سنوات التغيير بزعم حماية الحشمة واحترام المناسبات الدينية وانتهت الى شكل من اشكال الدول الدينية الطائفية.
ويشاء احتفال جسر الصرافية "الرسمي" بالجالغي البغدادي ان يكسر الجدار الاول بين الحياة المدنية البغدادية المكبوتة وبين الانعتاق الى صوت جديد قد يبدو زلة لسان لكنه بعين المراقب صوت ضرب مكامن كثيرة.

2-
محاولات فرض القانون وهيبة الدولة ووقف التجاوزات وضبط عمل دوائر الدولة واستعادة الحد الادنى من لوازم النظام العام وانهاء فوضى وتداخل الصلاحيات وكف حمل السلاح واستخدامه المفرط في المناسبات تصطدم في الكثير من الاحوال بمقاومة شرسة من هوامش اجتماعية وسياسية تعارض العهد الجديد فتتحدى، تعبيرا عن ذلك، اجراءات التطبيع، كما تواجه مقاومة جمهور تحلل من اية 'اوامر' وضاق باشارات الانضباط والصبر وكِلف الحياة الباهضة.
2-6 قال احد كتاب الاعمدة في صحيفة بغدادية هذا اليوم مايلي: "لا تأمنوا جانبهم. ابتسامتهم صفراء. استمعوا الى تصريحات سواق السيارات، لا الى تصريحاتهم".
لقد استعنتُ في تنقلاتي اليومية والكثيرة طوال اشهر ثلاث باكثر من مائة من سيارات التاكسي. انه عالم روائي زاخر بالمنوعات والتناقضات قدر ما هو انساني. مثلا، لم استمع الى حالة قبول واحدة حيال حزام الامان الذي تفرضه شرطة المرور على سائقي السيارات وتنبه اليه السيطرات الامنية المكثفة في الشوارع العامة، لكن عدم الرضا هذا في نهاية الامر، يتوزع، في اشكال التعبير عنه، بين السخط على الحكومة والامريكان والشرطة والسياسيين والمقارنة بين 'فوضى' هذه الايام و'سعادة' ايام النظام السابق، وبين الضيق منه في خلال ساعات الظهر، شديدة الحرارة، والقول بان حزام الامان لا جدوى منه في شوارع ضاقت بالسيارات والسيطرات، وازدحمت(غالبيتها الساحقة) بالحفر والازبال وبسطات الباعة والعربات التي تجرها الصبية والحمير واصبحت السرعة، في هذا المشهد، من الذكريات.
قال لي سائق تاكسي: هل تعرف لماذا فرضوا علينا هذا الحزام؟ قلت له: 'نعم اعرف.. انه اجراء ضروري لتقليل الاصابات والفواجع في حوادث المرور' اطلق الرجل ضحكة ساخرة، وقال: ' اكيد انك قادم من الخارج' واضاف 'لا، يا ابن الحلال، انهم وجدوا طريقة جديدة لنهب ارزاقنا الشحيحة بفرض المخالفات.. انظر الى هذا الضابط كيف يترصدني في حين يهمل واجبه في تخفيف الاختناق في الشارع' قلت له: 'لكن يمكنك تجنب هذه المخالفة باستخدام الحزام، وكفى الله المؤمنين شر القتال' اجابني وقد رمى بالحزام من على كتفه بعدما تاكد من عدم وجود اثر لشرطة المرور ' عمي، شيفيد؟ الثوب انشك، بعد شيخيطه'.
شوارع العاصمة بغداد، الان، تصلح مادة لتأليف مجلدات.. انها مقطع عرضي وعمودي عياني لما يدور في العراق كله من مخاض عسير. هنا الريف بكل ازيائه وعلاقاته و'ثقافته' يتبختر على طول الارصفة والساحات، ولا غرابة في ان ترى شارعا عريضا قد اقتطع من خاصرته بسلسلة متراصة من الخيام، او ترى بعرانا او قطيعا من الغنم او عدة بقرات تقيم في شارع له شأن في المدينة، وعلى بعد اميال هناك اعتصام لمعلمين يعلنون احتجاجهم على اجراءات من شأنها إفقارهم، وثمة-الى جانب ذلك- فتيات وشبانا بازياء وهيئات عصرية، وعلى شكل مجموعات، تتحدى تلك الشعارات والفتاوي والتحذيرات بوجوب الحشمة وملازمة المنازل، وثمة سيارات من كل الاجناس والعصور، بينها تربط ابوابها بالحبال والخرق واخرى من احدث الاجيال وقد خرجت توا من المصانع الالمانية واليابانية والامريكية.
باختصار، ثمة حرب وسلام في شوارع بغداد.. لنتذكر سواستبول التي تحدث عنها تولستوي، إذ التقت هناك الانهار ودخان المعارك ونداءات الحكمة بالعودة الى سلام منشود.. اقول سلام منشود.

3-
في شوارع العاصمة وحاراتها سادت لسنوات شرائع الغاب، واختفت بسبب الخوف والتهديد المقاهي الشعبية تماما، وقبلها صالات السينما والمسارح بعد ان فجرت عصابات 'الجهاد' الكثير منها وصارت طعما للنار وفخاخا للتنكيل الطائفي، ثم اغار عليها جيش المهدي وامر اصحابها تحت التهديد بوقف خدمات الترف واللهو الشعبية مثل الزار والدومينو والالعاب الالكترونية وبالامتناع عن عرض الاغاني والمسلسلات من اجهزة التلفزيون او متابعة المباريات الرياضية، كما اختفت مقرات وانشطة فرق الاعراس ومحلات تسجيل وترويج الاغاني.
لكن مع اتساع حملة فرض القانون في بغداد، وانكسار التنظيمات الارهابية الاجرامية، وتراجع سطوة المفارز المسلحة عاد، منذ اوائل ايار، البعض القليل من تلك الهوامش المدنية، بكثير من الامل والقليل من الاطمئنان، وسرعان ما اتسعت في الطول والعرض، تكفي الاشارة الى ازدحام حدائق الزوراء بالالوف من العائلات التي تنتشر في صورة حلقات، بخاصة في بومي نهاية الاسبوع، يضاف الى ذلك مواكب الاعراس التي بدت في شكل احتفالات انفعالية تتحدى 'حراس الحشمة' الذين استخدموا في معاقبة 'المتمردين' .
على ان ثمة الكثير من ارصفة شوارع العاصمة كفت ان تكون ممرا للمشاة او اقنية للانتقال بين المتاجر ليس بسبب الحفر والتجاوزات فقط، بل وايضا بسبب انتشار مولدات الكهرباء من جميع الاحجام على الارصفة وفي مفارق الطرق، هذا فضلا عن الاصوات ودوامات الدخان الاسود التي تطلقها هذه المولدات، وعن تلك السواتر الكونكريتية التي تمتد على في بعض الشوارع التجارية (المشتل. الاعظمية. البياع) لحماية المواطنين من شظايا السيارات المفخخة ومن نثار الهاونات الطائفية.
لقد تحققت بعض النجاحات في اعادة تاهيل الشوارع والساحات وانهاء التعدي او التجاوز عليها، لكن تلك الحملات تنتهي في غالب الاحيان الى الفشل، والغريب ان هذه الفرق كانت تصطدم بمليشيات ومافيات تتولى حماية هذه التجاوزات(لقاء اتاوات من الكسبة) تحت شعار زائف 'الناس تريد تعيش' وقد حدثت في مدخل السوق التجاري لمدينة الكاظمية معركة ضارية بالسلاح بعد ان استعانت فرق البلدية المدعومة بالجيش لرفع البسطات والمحلات غير المرخص لها على امتداد شارع يشكل مفتاحا للمرور، وشاهدتُ بعيني آثار الحرائق والرصاص على الحدران على طول الشارع فيما اكد لي شهود عيان في الموقع سقوط قتلى وجرحى بين الشرطة والباعة، وروى لي اخرون كيف عثرت القوة الامنية على ترسانة من الاسلحة والهاونات والذخائر في مخازن تحت الارض، وقل تحت عربات وقوائم حديد وخشب لدكاكين متراصة يترزق منها كادحون لا مورد لهم غير هذه لاعالة اسرهم الفقيرة، ويدفعون نصف رزقهم الشحيح الى اشباح مسلحة.. يجللها السواد.

4-
نعم، لقد اتسعت بوضوح مساحة السكان الآمنين على حياتهم في بغداد عما كانت عليه قبل شهرين ونيف فان المراقب الموضوعي يرى بوضوح اكثر تلك الحقيقة التفصيلية المتمثلة في انه لا يزال عدد كبير من العراقيين غير آمن على حياته.. ومن يدعي ان هذه الحقيقة مبالغ فيها فان عليه ان يعلل الحاجة الى هذه السيطرات الامنية "الخانقة" في جميع شوارع العاصمة الرئيسية السبعة الاف ، وغيرها الآلاف من الساحات والازقة التي جميعا تشكل دورة الحياة اليومية في العاصمة، وعليه ايضا ان يفسر لماذا تستمر في التصاعد والاتساع والتركّز حملة قرض القانون ومفرداتها اليومية من المداهمات وقطع الشوارع والمطاردات الليلية والقصف الجوي والقاء الهاونات التي تكاد ان تشمل جميع احياء العاصمة، فضلا عن جرائم الاغتيالات التي تستهدف اسماء بصفات ومراكز محددة، ويشير المواطنون باصابع الاتهام الى مسؤولية مليشيات معينة عنها، واكد لي مسؤول امني بان بعض جيوب جيش المهدي المنفلتة والانتقامية تقوم بهذه الاغتيالات التي تطال مسؤولين محسوبين على حزب الدعوة والمجلس الاعلى.
خطة فرض القانون ساعدت، بالاستناد الى المعاينة والارقام والوقائع، على نقل ملايين من سكان العاصمة من خطر الابادة اليومية الى التوصيف الانساني البسيط للحياة الآمنة، وهو تحول مهم على حياة كان سكان العاصمة فيها جميعهم، ومن غير استثناء، تحت التهديد بالموت وعلى مدار الساعة، ما اضطر اكثر من مليونين من سكانها، في السابق، الى النزوح الداخلي وعبر الحدود الى دول الجوار، ولم يكن ليتحقق ذلك-طبعا- قبل تفكيك الكثير من خلايا الارهاب والجريمة المنظمة وانهاء سطوة الزمر المدنية المسلحة ومحاكمها وانشطتها القهرية.
غير ان عناصر و"شروط" المواطنة الآمنة في العاصمة بغداد لا تزال غامضة، جنب "شريحة" من السكان ما زالت غير آمنة على حياتها، وبتحديد ادق: ان حياتها مطلوبة على يد بقايا المليشيات وشبكات الارهاب والعصابات الاجرامية المحترفة، وتمكن الاشارة هنا، اولا، الى جميع المقيمين في المنظقة المحمية في كرخ بغداد من كبار المسؤولين ومستشاريهم وحماتهم والعاملين معهم، والى العسكريين في الجيش والشرطة، وبخاصة من ذوي الرتب الكبيرة، والى الموظفين الكبار والمترجمين والعاملين لدى الشركات والسفارات والقوات الاجنبية، والى النساء غير المحجبات اللواتي يظهرن في مناطق نفوذ الجريمة وفي مرمى رصاصه، والى رجال الدين من ممثلي الطوائف ووجهائها، والى الصحفيين واصحاب الرأي ومصوري التلفزيون من غير تعيين، والى اخوة وعائلات المطلوبين للارهاب والمليشيات، والى الاغنياء والتجار واصحاب الاعمال وعائلاتهم ممن يجري ابتزازهم تحت الاختطاف او التهديد به، والى السياسيين وقادة الاحزاب والكتل والنواب والمشاركين الفاعلين في الانشطة العامة، والى الالوف ممن هجروا منظمات العنف والجريمة والارهاب، أو ساعدوا السلطات في حملة تفكيك شبكات الجريمة، والى الكثير من المواطنين الذين يمثلون اهدافا للثأر عن سواهم.
كل هذه الشريحة تعيش في الواقع نصف حياة آمنة، هي الوجه الاخر للازمة الامنية التي تضرب العاصمة، ويمكن استباق التحليل بالقول ان هذه الشريحة رهن اختطاف تنظيمات العنف وعصاباتها حتى يتم تحريرها.. والادق: حتى تحرر نفسها.

5-
عالم الصحافة في بغداد، من غير مبالغة، لا يشبه أي عالم آخر مسجل على تقويم العصر الحديث، وبايجاز، هو تلخيص مكثف للطور الاستثنائي الذي يعيشه العراق.. طور الانتقال من العلبة الآسنة الى المجهول.. إذ تتداخل وتتصارع وتتجاور (وتتقاتل بشراسة ايضا) هناك جميع الخيارات والاهواء والمصالح، وبايجاز اكثر، ان هذا العالم يشق طريقه الى التطبيع عبر 'حرب' يومية ضارية يشارك فيها الجمبع ضد الجميع، ولا تخل بهذه الصورة البلاغية حالات الاستقطاب وتَشكُل الكتل والتحالفات 'والاخوانيات' والمصالح السياسية والفئوية والقبائلية والمناطقية والطائفية التي كثيرا ما تنفلش وتستحيل الى بؤر متناحرة، وقليلا ما تصمد بفعل قوانين واستحقاقات الصراع على السلطة والنفوذ.
وعالم الصحافة في بغداد هو عالم السياسة في العاصمة، فلا اثر ولا ظلال للسلطة في ملاحقة ووأد الاراء وحقوق التعبير والتنكيل باصحابها، ولم يحدث ان قاضت الحكومة صحيفة او صحفي عن رأي ما، ولم تتخذ الحكومة طوال السنوات الخمس اجراء يذكر بايقاف عمل مرفق اعلامي محلي (اقول محلي) باستثناء إغلاق مكاتب بعض الفضائيات بتهمة التحريض والتجييش، وعدا عن حالات التدخل في عمل وادارة وسياسة اقنية اعلامية'رسمية' تمولها الحكومة.
وإذ تنأى السلطة عن دور الرقيب على الصحف المحلية فانه، دائما، ثمة 'سلطة' اكثر فتكا وعنفا وايغالا في التخويف من سلطة الحكومة تتمثل بالجماعات المسلحة، من جميع الانتماءات، ومافيات الجريمة والفساد، وكذلك عيون القوى الدينية الريفية التي كثيرا ما تهيّج الشارع 'المتريّف أصلا' ضد حق التعبير، فضلا عن حالات التنكيل والتضييق من قبل القوات الاجنبية، وقد سقط المئات من الصحفيين العراقيين في عمليات اغتيال منهجية وتوزعت دماؤهم بين جميع الاطراف المتناحرة، واصدرت محاكم تكفيرية وميلشوية احكاما بالموت على عدد كبير من الاعلاميين، اضطر العديد منهم الى الهرب الى خارج العراق ونفذت في بعضهم الآخر قرارات القتل في ميادين الاحداث او في منازلهم او على الطرق العامة، وقد اخفقت السلطة والهيئات المدافعة عن الحريات في وقف التعديات على الصحافة والصحفيين فيما سجلت غالبية اعمال القتل بحق الاعلامييم في مسؤولية اشباح او نيران مجهولة.
ومن الطبيعي ان تؤثر اجواء التهديدات والقتل على إداء الصحفيين العراقيين، إذ يحتسب اصحاب الرأي الجرئ، المستقل والحر بخاصة، من نتائج انتقاد مراكز نفوذ من قوى العنف والفساد والسطوة في الشارع، وتتراجع الى ادنى المناسيب مساحات الجدل والنقاش في القضايا العقدية ذات الصلة بالعقائد والمحرمات والزعامات السياسية والدينية ورؤوس الفساد، وتهرب تلك الانتقادات الى اقنية الشبكة العنكبوتية في مفارقة جديرة بالتأمل برغم اهمية هذه الشبكة في ترويج التنوع السياسي والفكري، كما تؤثر هذه الاجواء والتهديدات سلبا على كفاءة الاعلام المحلي، وتعرقل تنمية واطلاق المعارف المهنية للعاملين في المرافق الاعلامية العراقية.

6-
سيأتي وقت نحتاج فيه الى الامعان مليا في خلفيات ودلالة مفردة "الحواسم" الاجتماعية والسياسية والثقافية الشائعة، واحسب ان مرادفها كـ"حرامية" ادنى بكثير من مبناها اللغوي الحقيقي، فهي في معناها الشعبي العراقي الدارج جماعات منفلتة من الجياع كانت تغير في تسعينات القرن الماضي على المتاجر وهوامش الثراء والمصالح ولا تفلت من يدها قطع الذهب والمدخولات والخرق والاخشاب وكذلك ارواح الناس الذين يضطرون للدفاع عن ممتلكاتهم، وجرى تداول مفردة الحواسم على نطاق واسع في تسعينات القرن الماضي (بتصرف) من عبارة "حسم المعركة" التي كان إعلام النظام السابق يدس فيها هزائمه الشنيعة وتآكل هيبته وقوته.
وسيكون من المفيد ان نتوقف عند تلك الدلالة العميقة المتمثلة في الثقافة الرسمية "الحزبية" لنظام صدام حسين التي روجت لشطارات السطو والعفترة والصلف والنهب والغزو، والتباهي بالاغارة على "الخصم" في جنح الليل او في حال غفلة الضحية، استعارة تراثية من ثقافة الصعاليك العربية المعروفة، وهم في ظني "الحواسم" الاوائل الذين تسجل الكتب فنونا عجيبة من لصوصيتهم وجرائمهم، وسنكتشف في افكار حواسم صدام حسين الكثير من ملامح مباهاة شاعر الصعاليك عروة بن الورد بغاراته وغارات اصحابه لسرقة مراكب التجارة والاغنام والمنازل ونهب واغتصاب النساء ، وكيف كان يصيغ منها امجادا وامثلة للبطولة، ومطولات من ارق القصائد.
وفيما اقترب نظام صدام حسين من نهايته كان الحواسم قد اصبحوا جيشا لا يقهر، وصارت لهم هيئات اركان ومقرات سرية وخطوط تاثير في الحياة العامة، وبخاصة في احياء الفقر على اطراف العاصمة، وتمايزت منهم جماعات ثرية ومتنفذة وتتحرك في محيط السلطة وتحظى برعاية واحتضان الحلقة الضيقة الحاكمة، ويتحدث الكثير من المواطنين عن اسماء حواسم معينة كانت على علاقة بعدي صدام حسين وكانت تنفذ قسما من متطلبات انشطته المالية والقهرية، وحين شكلت مليشيا فدائيي صدام كان الالوف من الحواسم الصغار اكثر مجنديها المتحمسين، واكثرهم ايذاءا للمواطنين وايغالا في اعمال القمع ضد المناهضين للنظام او من تحوم حولهم شبهة عدم الولاء لصدام حسين.
الآن، ثمة الكثير من حواسم صدام حسين، قد حسموا الامر، فاصبحوا اثرياء واصحاب مصالح وعقارات وشركات سيارات، يشير اليهم سكان بغداد بالاصابع والاسماء الصريحة، واللافت، ان اعدادا منهم، وبخاصة من ابناء الاحياء الفقيرة والمهمشة قد وجدوا طريقهم الى التنظيمات السياسية الدينية، ومليشيا جيش المهدي بخاصة، وبعضهم انخرط في قوات الشرطة والجيش، وثمة القليل من كل هؤلاء هجر اللصوصية والسطو وانخرط في الحياة المدنية، وثمة غيرهم حملوا المنهوبات الى دول الجوار. اشتروا بها العقارات والنساء والسياسيين، وصاروا يتبخترون بالدشاديش واحدث موديلات السيارات في شوارع دمشق وعمان ودبي والقاهرة.. وشاهدت بعضهم، في دمشق، يحملون حُزم الدولارات باكياس الزبالة السوداء.




 


 

free web counter