| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبد المنعم الأعسم

malasam2@hotmail.com

 

 

 

 

الجمعة 2 /3/ 2007

 



متى يصبح هذا الوزير رجل دولة..
ومتى ينصرف طواعية؟



عبدالمنعم الاعسم

اما اسم معالي هذا الوزير فلا تتوقعوا مني ان اجازف برأسي لاعلنه على الملأ، وعذري ان اصابع بعضكم ستتجه اليه، واذا ما اعلنت اسمه فلا تتوقعوا انه سيلجا الى المحاكم للشكوى والتظلم واحقاق الحق لأن ثمة طريق اقصر للقصاص يوصلني جثة الى ثلاجة مستشفى اليرموك، واذا ما اقتص مني، وعُثر على جثتي فلا تتوقعوا ان يجازف احد في اتهام معاليه حصرا بالتورط في الحادث.. وهكذا ستختزل القضية الى حادث، ولا من شاف ولا من دري.
/ليس هذا مهما.. المهم ان معالي الوزير لم يعد يرصده احد على مكتبه منذ شهر ونيف إلا مرتين او ثلاث، وفي هذه المرات القليلة كانت العشيرة قد استنفرت، والتنظيم السياسي وُضع في انذار جيم، وطاقم كبار الموظفين، وغالبيتهم من العشيرة والتنظيم، اصدروا اوامر صارمة بمنع دخول المراجعين الى الوزارة، هذا اليوم، حتى اشعار آخر ، فيما اخذ اسطول الحُماة المدججين بالسلاح وضع انبطاح على سلالم الوزارة  وحولها، ونُصبت الراجمات ومناظير الديجيتل على اسطح البناية، آنذاك يسأل الوزير سكرتيره وهو موظف مسلكي "شكو ماكو؟" يرد الرجل الذي يحمل ملفا ضخما بين يديه بالقول" كلشي تمام  أغاتي" فيطلب اليه الانصراف ريثما يناديه بعد ان يلتقط انفاسه، ومن حقه ذلك، فالطريق من المنطقة الخضراء الى بناية الوزارة شاق، اكثر مما تتصورون،  وبكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
عندما مدّ معالي الوزير راسه الى احد مكاتب الموظفين جفل وعاد مسرعا. نادى السكرتير على عجل: " منو هاي السافرة؟" وقبل ان يجيب الرجل ازداد صراخ  معاليه : "آني مو امرت ما اريد اشوف سافرة بالوزارة" اراد السكرتير ان يقول شيئا لكن زئير الوزير ارتفع: " لا تكول لي هاي مسيحية.." لم يجب السكرتير وفضل الصمت، فيما الوزير يغلي ويولول، ولم يهدأ البركان إلا حين قال الرجل، ويبدو انه يعرف موضع تنفيس بالون وزيره:" أغاتي.. عدكم موعد ويه التلفزيون.. كلشي تمام.. الاسئلة والاجابات جاهزة" آنذاك هدأ معاليه وسحب من احد ادراج مكتبه قارورة عطر لماء الورد. سكب منها قطرات في يديه ثم لطم بهما وجهه، وانصرف على الفور الى مهمتين عاجلتين، الاولى تهدئة النفس حتى لا تظهر علائمها المتجهمة على الشاشة الملونة، والثانية، قراءة الاجابات التي اعدها كتبة الوزارة ردا على اسئلة مراسل التلفزيون، المتفق عليها.
هدأت خواطر الوزير بعد اللقاء التلفزيوني، لكنها سرعان ما تكدرت عندما قرأ بطريقة مدرسية متعثرة سطورا على ورقة مصورة عن جريدة محلية تشير الى شكوى على الوزارة، آنذاك صرخ بالسكرتير: "كلي هذولة ما عندهم غير هاي الوزارة يشتكون عليها؟" لم يجب السكرتير على هذا التساؤل الفج، وقد يكون يعرف الجواب لكن حوصلة الوزير اضيق من ان تستوعب دواعي الشكوى ونحيب المشتكين، ثم قال له ليغير مزاج معاليه: "أغاتي.. العفو.. سيد رؤوف ينتظر في غرفة الاجتماعات.. فات الموعد وياه نص ساعة" فاستنفر الوزير وسحب من درج المكتب قارورة ماء الورد. سكب منها قطرات في يده. لطم وجهه بعجالة، وركض الى لقاء ضيفه.
عندما قارب دوام الوزير على الانتهاء كان قد انجز مهام مضنية حقا، كان قد حلل فيها خبزته، بينها اكثر من عشرين مكالمة على ثلاثة من اجهزة التلفون المحمول، عشرة منها مطولة ضحك خلالها الوزير حتى سعل فسمعه الكثير من الموظفين، وبينها صلاة الظهر الى فاطر السماوات والارض، اعقبها لقاء مع صديق قديم، تناول ذكريات عن ايام  اوربا التي لم يتعلم منها معالي الوزير، ولا صفة واحدة من صفات موظف عادي، ناهيك عن رجل دولة.
اقول: بعد ان كتبت اعلاه قررت ان لا ابلبش في براغي الحكومة اكثر من هذا، غير ان
ثلاث رسائل وصلتني تعقب على الموضوع اضطرتني للمواصلة، واحدة  منها طاشت فعبرت من فوق الموضوع بعيدا الى سوء القصد، واثنان اصابتا كبد الحقيقة، وقد خطط صاحباهما وجه الوزير الذي اعنيه، وفي احدى هاتين الرسالتين ذكّرني القارئ (ر.) بـ “مآثر” اخرى لمعاليه، من بينها واحدة تفيد انه ترأس، مرة، اجتماعا لخبراء في اختصاصات وزارته، ودخل الحديث في تفاصيل لم يسمع بها الوزير سابقا، لكنه كان يمثل دور المنصت، المتأمل، المهتم، غير ان النعاس غلبه في غمرة المسافة بين قدرته المعرفية المتواضعة والمعلومات المتداولة، وقبضت عليه عيون البعض متلبسا بالنوم، فيما كانت المناقشات تتشعب وتتمحور وتتلخص، ولم يستيقظ إلا بعد ان هز البناية انفجار سيارة مفخخة على بعد مائتي متر.. آنذاك انزلق الحديث الى خارج جدول البحث.
غير ان القضية برمتها قد تطرح سؤالا ساذجا، لكنه مناسب، عما اذا كان معالي الوزير قد تلقى معارف دقيقة عن وظيفته الخطيرة التي لا تقتصر على الجلوس الى طاولة فارهة، ولا على ممارسة اصول الحديث في السياسة، وفنون الولاء لقيم القرية، والفئة، والطائفة، والسؤال يجر السؤال عما يمكن لمعالي الوزير ان يقدمه للشعب، وهـو في الحق لا يملك سوى لقب الوظيفة او كما يسميها البعض بالحقيبة.
في كتاب (المفهوم الحديث لرجل الدولة) للمفكر اللبناني الدكتور حسن صعب نتعرف على المكانة الخطيرة التي يحتلها الوزير في بناء الدولة، من قدماء المصريين الذين كانوا يتعاملون معه بوصفه آلهة حتى (امير) ميكافيلي الدعيّ في القرن السادس عشر  مرورا بمحاولات افلاطون اعداد رجال دولة لأثينا في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد انشا لهذا الغرض اكاديمية تخصصت في تخريج فلاسفة يديرون هذه الدولة، والاشوريين والبابليين الذين نظروا اليه كشخص "مصطفى" من الناس، واليابانيين الذين عدوه مبعوث العناية الالهية، الى عصور النهضة حيث اعتبر رجل الدولة كصانع للمعجزات والخوارق.
ولرجل الدولة ملامح في شخصيات هوميروس وخواطر الفردوسي وفي دواوين الحماسة، ويخلص صعب الى القول " انه  ما يزال لدى كل مجتمع مفهومه للقائد او رجل الدولة الذي يختلف عن مفهوم المجتمع الآخر تبعا لاختلاف الظروف والاحوال" لكن ثمة ما هو مشترك بين الجميع يتمثل في وجود تمييز بين رجل الدولة الذي يقود الامة وبين السياسي الذي ينقاد للامة، كما يتمثل في "ان رجل الدولة لا يتجاهل الواقع، لكنه لا يخضع له، بل يحاول استخدامه للسير بالمجتمع والدولة نحو الافضل" انه كما يقول جيفرسون " يعير آراء الانسانية الاحترام اللائق بها، بدون ان يصبح اسيرا لها، وهو هنا اقرب الى الطبيب الذي يحاول شفاء مريضه حتى ضد ارادته الظاهرة، منه الى المحامي الذي كان يدافع عن موكله في اية حال ما دامت اجرة الدفاع مضمونة".
ويعتقد الكاتب ان رجال الدولة يتوزعون على نوعين، الاول تمثيليين "يرضون رغبات مريديهم" والثاني خلاقين "تقوم قيادتهم على قوة اشاعتهم لقيم معينة في ظروف معينة، او على اعتمادهم لبرنامج منهجي لتحقيق حاجات معينة".
بعد هذا السرد احسب ان معالي الوزير قد غط، الآن، في النوم.. فحذار ان توقظوه.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
ـــــــــــــــــ
" “الغاية النبيلة لا تحققها وسيلة رذيلة”.
                                   محمد حسنين هيكل