موقع الناس     http://al-nnas.com/

الكتلة الديمقراطية - الليبرالية ضمانة اقامة الدولة المدنية الاتحادية *


عبدالمنعم الاعسم

الخميس 2 /11/ 2006

في تلخيصات سابقة توصلت لها بحوث ومناقشات المؤتمرات التي نظمتها لجنة دعم الديمقراطية في تموز من العام 2005 جرى التوصل الى ان الدولة المدنية الاتحادية " تقوم على قاعدة من التشكيلات الاجتماعية والانسانية والخدمية والنقابية المستقلة، وهي تلعب الدور الرائد في تصويب السياسات وتأمين مشاركة الشعب في صياغة السياسات العامة وتدفع صانع القرار الى احترام الراي العام والاسترشاد به" ونحتاج الآن الى اغناء وتطوير هذه التلخيصات والمضي قدما في البحث عن المعوقات التي تحول دون نهوض هذه القاعدة وبخاصة ما يتعلق بالبعد السياسي لتلك التحديات، واعني به التيار الديمقراطي والليبرالي، قوى ومنظمات وشخصيات.
من جانبي اعتقد ان التشريعات المدنية الاتحادية الدستورية في العراق، على اضطراب وتناقض وغموض نصوصها، سبقت، بمسافة ما، الوعي السائد لدى الملايين العراقية، وكان تسييس هذه التشريعات واختزالها الى شعارات حزبية وفئوية وطائفية، من قبل بعض الاطراف، قد اساء الى مفهوم الدولة المدنية الاتحادية الحضاري والمتقدم، وشوّه تطبيقاتها واحاط مستقبلها بالغموض والشكوك، ويمكن متابعة هذا التناقض في امثلة لا حصر لها برزت خلال الانتخابات الاخيرة، وفي حمية الجدل حول قانون الاقاليم والدولة المدنية الاتحادية.
والحقيقة الاكثر بروزا هي ان جمهور وقادة احزاب الاكثرية البرلمانية الذين اعلنوا التزامهم اقامة الدولة المدنية لم يجسدوا هذا الالتزام في مفردات بائنة وقد تصرف بعضهم كولاة امر مطلقي السلطة، بل واقام البعض منهم محميات في قلب الدولة الجديدة، فيما يعلن ساسة التوافق وجبهة الحوار ومكونات من الاغلبية معارضتهم السافرة لفكرة الدولة الاتحادية من اساسها، لكن، على الارض تكشف شعاراتهم بصدد وحدة العراق وضرورة اقامة حكومة قوية مركزية عن تناقض سياسي صارخ إذْ اقام بعضهم مستوطنات لا تعترف بالمركز وجماعات مسلحة تقاتل الحكومة وتنخرط بعض امتدادات هذا الطيف في مشروع العنف المسلح.
مقابل ذلك، نشأ، موضوعيا، ما يمكن تسميته بجزر من الوعي المدني الاتحادي بين النخب والاوساط المتعلمة والمتنورة، تضيق وتتسع بحسب اتجاهات ووتيرة واشكال الصراع الضاري مع مشروعي الارهاب والطائفية السياسية(الاخطر على الدولة المدنية الاتحادية) وقد شهد العام الماضي، في الاتجاه الصحيح، سلسلة من الندوات وحلقات البحث عن موجبات التوعية بالثقافة المدنية الاتحادية في بغداد والبصرة والكوت وبابل والديوانية وشهدت كل من اربيل والسليمانية ومدن كردستانية مثل هذه الفعاليات، ونشرت صحف عراقية واسعة الانتشار دراسات وموضوعات كثيرة عن مفاهيم ومعاني هذه الدولة كما قدمت اقنية التلفزيون المحلية ندوات ومناقشات تناولت جوانب(نظرية) من الموضوع، عدا عن المئات من وفود الشباب والنساء من منظمات المجتمع المدني التي زارت دولا عديدة وتعرفت على تجاربها في مجال بناء الدولة المدنية الفيدرالية.
ان تفعيل دور القاعدة الاجتماعية وتكوين وسط فاعل للملايين العراقية الى جانب الدولة المدنية الاتحادية، كما نرى، لا يتحقق من دون حماية هذا الخيار من خطر الطائفية السياسية ومن اطماع قوى التوسع في الخارج، كما يستوجب اطلاق الحرية لعمل منظمات المجتمع المدني بعيدا عن تاثير السلطة، واحزابها، والترويج لمعارف علمية وتطبيقية للدولة المنشودة عبر سلسلة من عمليات التوعية التي تتصل-قبل كل شئ- بالحاجات الضرورية لمواطني هذه الدولة، وحصرا، الى اقناع الملايين بجدوى هذا الخيار كبديل عن سلطة الدين والطائفة وسلطة المركز التي تحتكر القرار، وبوصفه حلا للمشكلة القومية في العراق من جهة وسبيلا الى توزيع عادل للخدمات والثروة بين السكان من جهة ثانية، وهذا يعني اعادة بناء منظومة المفاهيم ذات الصلة بطبيعة هذه الدولة وسماتها وما يميزها عن الدولة المركزية، ولا تقتصر هذه البنية المعرفية على التشريعات الدستورية والقوانين المستمدة منها، فقط، بل وايضا على تجارب الدول الحية وبخاصة الدول الاقرب الى الحالة العراقية.
ان الحملات الاعلامية المركزة والدراسات والفعاليات الفكرية والانشطة المختلفة التي ينخرط فيها الباحثون والجمهور على حد سواء لجهة صياغة ثقافة مدنية اتحادية بديلة عن الثقافة المركزية تساعد في تفعيل وشحذ القاعدة السياسية والاجتماعية للدولة المدنية الاتحادية ، وصولا الى تحقيق وعي يتحرر فيه مواطن الدولة الجديدة من إرث مركزي ضرب عميقا في سلوكه وثقافته، ولا ينبغي هنا-من وجهة نظري- تبسيط امكانيات احلال هذا الوعي الجديد.. الوعي المدني الاتحادي، الذي يقوم على استيعاب فكرة الدولة العقلانية المدنية وتوزيع سلطة القرار المركزية الى اقاليم اتحادية، كما يقوم على تفكيك وعي ونزعة وشعارات وميول الدولة الدينية، او اقامة اقاليم او كيانات اتحادية مغلقة.. فالامر بحاجة الى خطة ميدانية منهجية تتوزع على اقنية اعلامية وتعليمية واكاديمية وسياسية واسعة.
على انه من الواجب اطلاق السؤال التفصيلي المهم الاتي: ما الذي يعيق تفعيل القاعدة السياسية الاجتماعية للدولة المدنية الاتحادية؟
من وجهة نظري، ان العائق الرئيسي هو خليط من غلوّ ديني وافدة وثقافة مركزية صارمة متأصلة في وجدان وسلوك المواطن العراقي، ويقف هذا الموروث، بالاضافة الى الدعاية المناهضة التي تروج على نطاق واسع من قوى النظام القديم وفئات عراقية كانت تنتفع من سلطة المركز الدكتاتورية، وواطراف اقليمية واعلام عربي، وراء المخاوف من تقسيم البلاد والنظر الى الفيدرالية كنظام يتسبب في نهاية المطاف في تقسيم العراق او استقلال او سلخ الاقاليم الاتحادية.
ويمكننا اضافة عائق آخر، ذي اهمية كبيرة، الى جملة العوائق التي تعترض عملية تفعيل القاعدة السياسية والاجتماعية للدولة المدنية، ويتمثل هذا العائق في ظاهرة التطرف السياسي وسيادة الخشونة في التعبير عن الموافقة- او الاعتراض- على فكرة اقامة الدولة المدنية الاتحادية، وضعف ثقافة الوسطية والاعتدال في المجتمع، فضلا عن النزعة الشوفينية التي تعبر عن نفسها في انكار حق الشعب الكردي في خيار اقامة كيان فيدرالي في اطار عراق واحد، او اثارة الشكوك حيال مصداقية الموقف الكردي في التزام الوحدة الوطنية.
وهنا تتحدد، حصرا، وظيفة التيار الليبرالي الديمقراطي، بل وتتحدد وظيفة المفكرين والباحثين والمعنيين في الاجابة عن السؤال الاكثر اهمية: لماذا لم يؤكد هذا التيار دورا واضحا يضاهي وظيفته الخطيرة؟ ولماذا لم يجد طريقه الى مقدمة المسرح السياسي؟ ثم ما هي سبل النهوض به؟ ومن اية حلقة ينبغي التحرك نحو تحويل هذا التيار الى حركة فاعلة ومؤثرة ومقررة؟.
اضع بين ايديكم بعض المعطيات التي قد تساعد على تكوين مقاربة حية عن هذه القضية المهمة.
1- لقد شنت الدكتاتورية اشرس حملة مركزية ضد هذا التيار ودمرت كل ما له اثر بالفكر الديمقراطي واصبحت الليبرالية شبهة، والموقف المستقل عن السلطة خيانة، واجبرت اساتذة الجامعات والطلاب ومعلمي المدارس والمشتغلين بالثقافة والمعرفة وكل الفئات التي يمكن ان تحتضن الفكر الديمقراطي الليبرالي بالقوة على الانخراط في آلتها الحزبية وحتى القمعية والدعائية، وجرت عملية تبعيث منهجية واسعة النطاق بموازاة عملية تصفية امنية قهرية لاي نشاط خارج هيمنة الحزب الحاكم، الامر الذي اضطر عشرات الالوف ممن رفضوا مشيئة السلطة من المثقفين والمهنيين والاكاديميين الى الهجرة الى الخارج، طبعا عدا عن ملايين من العراقيين الهاربين من جور النظام وثمة بينهم قاعدة غفيرة للتيار الديمقراطي والليبرالي والمستقل.
2- احتفظ المعسكر الكردي العراقي بالكثير من مقومات الصمود بوجه سياسة التفتيت والتعريب والتبعيث، اولا من خلال اقامة مناطق محررة بعيدة عن تدخل السلطة، وثانيا حين انسحبت الدكتاتورية من مناطق واسعة من كردستان لفترة تزيد على اثني عشر سنة قبل سقوط النظام، وقد دخلت الكتلة الكردستانية(على الرغم من مجازر الانفال وحملات الابادة) موحدة في العملية السياسية في العراق وظهرت كقوة مؤثرة في في الدولة الجديدة وسلطة القرار، كما يعرف الجميع.
3- لقد حصرت الدكتاتورية حملتها القمعية على التيار الاسلامي في حزب الدعوة وبعض الشخصيات الدينية السياسية (آل الحكيم. آل بحر العلوم..الخ) وابقت المرجعية الرئيسية في النجف تحت المراقبة، بل انها تركت بعض الحرية لانشطة دينية لفترة طويلة من دون تدخل مباشر، وربما على خلفية تفاهم مع بعض المتنفذين في الحالة الدينية، قبل ان ان تنقلب عليهام وتغتال رموزهم، واستطاع الجسم المذهبي ان يتكيف مع حملة التبعيث والقمع والابادة، وليس ادل على ذلك من انخراط ثلاثة ارباع مليون من الشبيبة الشيعية في تشكيلات فدائيي صدام وجيش القدس، ثم تحول هذا الجمهور الى الاحزاب السياسية بعد اطاحة النظام، وشكلوا قاعدة لبعض التشكيلات المسلحة للاحزاب الاسلامية.
4- اما الاسلام السياسي (الجهادي) فقد كان على علاقة وطيدة بالسلطة الدكتاورية السابقة، وكانت المؤتمرات الدينية التي تقام في بغداد وعمان للتضامن مع نظام صدام قد كرست مكانة رموز هذا التيار في السلطة والمجتمع، ولم يتعرض الى القمع والمطاردة والضغوط غير شخصيات دينية وعت قسوة النظام وحماقاته (البدري. عارف البصري) واستقلت عنه في دولة اغلقت نهائيا باب الاستقلال السياسي، وليس من دون معنى ان يبرز هذا الوسط غداة سقوط النظام اكثر انسجاما بل واكثر تفاهما مع فلول وقاعدة حزب البعث الحاكم سابقا.
على خلفية هذه المعطيات يمكن القول ان اللوحة السياسية القائمة على معادلة المحاصصة استندت في جزء منها الى ضعف التيار الديمقراطي الليبرالي، عدا عن الاسباب ذات الصلة بالتحضيرات الامريكية لاطاحة صدام، وقد آن الاوان لبناء هذا التيار، واعني الكتلة الوسطية المدينية التي تحمل فكر الاعتدال والواقعية والابداع والبناء والمساواة والعدالة واستقلال القضاء واحترام حق تقرير المصير للشعب الكردي وحق النساء بالمساواة مع الرجل.. وهي اسس وهوية الدولة المدنية الاتحادية.
قد يتبادر الى الذهن بان الدعوة الى تفعيل القاعدة السياسية والاجتماعية للدولة المدنية الاتحادية تنطوي على فكرة التجييش، اوعلى نية اثارة المعارك، او المزاحمة مع الآطراف الاسلامية فيما هي في واقع الامر عملية مركبة، فمن جهة، تهتم بتشخيص القوى الاجتماعية ذات المصلحة باقامة دولة جديدة تحترم حقوق الانسان وحقوقه القومية وحرياته العامة والفردية، ويحتل فيها الدين ومؤسساته مكانة معترف بها لكن على مسافة محسوبة من السياسة، ولا تُحتكر فيها السلطة والارادة من قبل نخبة مركزية، ومن جهة اخرى، تتخذ من العمل السياسي الايجابي والتوعية وبناء المفاهيم المدنية الاتحادية وترويجها بين المواطنين اسلوبا للتحرك، وفي رايي، ان هذا المنهج قد يتمايز عن التيارات الاخرى لكنه لا يصطدم، او يتخاشن، بالضرورة معها، وقد يجد انصارا له في صفوفها.
باختصار، يمكن القول ان وحدة القوى والشرائح والشخصيات الديمقراطية والليبرالية العراقية وتفعيل دورها وادائها، في شكل من اشكال العمل المشترك، من شانه ان يعزز امكانيات اقامة الدولة المدنية الاتحادية في العراق.


* ورقة قدمت الى مؤتمر لجنة دعم الديمقراطية حول الدولة المدنية الاتحادية والسلم الاهلي في العراق والذي عقد في لندن يومي 27و28 من اكتوبر 2006