| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبد المنعم الأعسم

malasam2@hotmail.com

 

 

 

الأحد 25/5/ 2008



دردشة مع ارهابي

عبدالمنعم الاعسم

مرة اخرى، بعد ثلاث سنوات، وفي بغداد ايضا، اقف (صدفة) امام عراقي من افراد شبكة القاعدة برتبة داعية (اعلامي) احاوره عن قرب من موقع الند للند، فكلانا طليقين، لكن كلانا مطلوب للاخر خارج المكان الذي جمعنا، وهو منزل صديق قديم في حي عُرف بالسخونة: هو مطلوب لي، او على وجه الدقة للعدالة وحكم القانون اللذين اؤمن بهما عن جرائم بحق المدنيين لا ينكرها، وعن دعوة للردة لا يتنصل عنها ، وانا مطلوب له بظنة الكفر وجريرة التحريض ضد التطرف ومشيئة محاكم الشارع التي يستطيع ان يعقدها صاحبنا في اية لحظة فيكون حاكما وجلادا في آن.
وكما اظهر "الامام الارهابي" في المرة السابقة ثقافة شديدة الاضطراب حيال الحياة ورسالة التسامح ومعنى الدولة والقوانين والمستقبل، فقد شاء هذا الداعية (ابو براء) ان يتحدث عن القيم والانسان والموت بعبارات إنشائية كأنها نشيد مدرسي حفظه عن ظهر قلب، واصر ان يمر بالزمن كفضلة من الحياة لا لزوم لها .. يا للعجب!.. هكذا قلت مع نفسي.. أي فكر هذا؟.. فالزمن عنده ماض فقط, فتوحات واسماء وقصص متجهمة تنتهي، عادة، بالجنة او عذاب النار.
عبثا حاولت ان اجرجر الداعية الى الحديث عما يجري هذا اليوم، هنا في العراق، او في مكان آخر، وما سيجري يوم غد، فقد كان بابا موصدا، وحين سألته عما يريدون ان يحققوه للعراق في المستقبل ردد بصوت مسموع "المستقبل.. المستقبل" ثم اطلق ضحكة سرعان ما قطعها وعاد عنها الى التجهم والاستعاذة من الشيطان الرجيم وكأنه ارتكب معصية وجوب الاعتذار من الخالق.
كان الجدار سميكا بيننا، لحد اني لم اكد اسمع كل ما يقول. وحتى اشجعه على الافصاح عن ارائه حاولت ان امثل دور الساذج الذي لا يعرف إلا طراطيش الاخبار، وقد حققت هنا نجاحا محدودا، وعندما قلت له ان عليكم ان تشرحوا اراءكم وتتناقشون حولها حتى لاعدائكم كنت كمن لدغته في موضع حساس فقد جاءني منه صوت مبحوح ذكرني بصوت ايمن الظواهري: انهم لا يفهمون غير لغة القوة.. ثم ماذا نقول لنسائنا اللواتي ينتظرن بفارغ الصبر امرا بالهجوم الاستشهادي، ويستعجلن الوصول الى رحاب النبي؟ هل نقول لهن عليكن ان تنتظرن حتى يقتنع الكفار بارائنا؟ .
قلت لابي براء: لكن، الم يتناقض هذا مع الاية القرآنية "وجادلهم بالتي هي احسن" او مع " ولكم دينكم ولي دين"؟ فأعتدل الرجل في جلسته وكأنه قبض علي متلبسا بجريرة الجهل وضعف الحجة، وقال: انهم جاءوا غازين الى ارض الاسلام، ولم يتركوا فرصة للجدال والمناقشة ولا لكفاية حق الدين، فأستحقوا القصاص. ولم أشأ ان احاججه بأسباب الهجوم على مركز التجارة الدولي ولا الهجمات على قطارات مدريد وانفاق لندن وملاهي بالي حتى اظهر له الجهل مدخلا الى نقاش كنت انتظره بفارغ الصبر.. وسأعاود الى عرضه.
لم يكن هذا اللقاء مع (ابو براء) الارهابي صدفة، ولم يكن مخطط له ايضا.. بإختصار كانت ثمة "مشكلة عائلية" تربطه بأصحاب المنزل، واحسب انه غامر بهذه الزيارة واللقاء بـ(غريب) والحديث معه، فإن افراد القاعدة ينقطعون، عادة، عن اسرهم واقاربهم، وينصرفون عنها الى علاقات جديدة بأسر اخرى من "المجاهدين" واحسب ايضا ان الدائرة ضاقت من حول افراد تنظيم القاعدة، وبخاصة في العاصمة، بعد ان قطعت اوصالهم وفككت ملاذاتهم (معسكراتهم السرية) في شارع حيفا والفضل والاعظمية وهور رجب والعامرية وابو غريب والطارمية إذ اصبحت هذه الاحياء فخاخ لهم.
سألت (ابو براء) بسذاجة باردة: هل انتم الذين قتلتم المطران فرج رحو في الموصل؟ ردّ بسرعة ممزوجة بفخر وعناد: نعم.. ماذا في ذلك؟ قلت: لكن النبي محمد حرم قتل عصفور عابر، واورد في حديث له ان عصفورا قتله صياد شكا الى ربه يوم القيامة بالقول ""يا رب ان فلانا قتلني" ابتسم الرجل ساخرا، وقال كمنتصر: مشكلتكم هي انكم لا تعرفون اصل الاحاديث التي توردونها، او انكم تجتزئون منها ما يفيد حجتكم، واضاف " تكملة الرواية هي قول العصفور ان فلان قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة".
* وهل في قتلكم للمطران المسالم منفعة تذكر؟
ـ نعم، بل منافع كثيرة لو تعلمون.
*ما هي؟
ـ المحكمة الشرعية التي قضت بقتله تعرف تلك المنافع، ونحن نثق في قراراتها، ثم انظر كيف عم الكفار النحيب والخوف والكمد.
* ولمَ القتل؟ ولمَ تتفاخرون بالقتل؟.
ـ لان الله سبحانه امرنا بقتل الكفار بقوله "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" وقال في سورة المائدة " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ".
وفيما كنت اجاهد للاحتفاظ بأنضباط شكلي فوق غليان لا امسك عنه وبدور الساذج المشغول عن هموم السياسة الى اعالة اسرته. سألته: انكم تجازفون بحياتكم.. الا تفكرون بحياة مدنية وبمسرات الدنيا؟ قال: جميع هذه المسرات خادعة.. انها ضلال وكفر وتطيل وقوفك امام حساب الاخرة.. المجاهدون الذين يفتدون بأرواحهم في سبيل الله موعودون بمسرات الجنة، يوم يستقبلهم الملائكة بالتهليل ويزفونهم الى مسرات الجنة.. خالدين فيها ابدا.
المكان الذي التقيت فيه صاحبنا تحول الى كابوس كأنه فُرّغ من الاوكسجين والالوان والعيون.. كل شئ معتم، وكل الكائنات متشابهة ومن غير عيون، حتى ضاق العالم شيئا فشيئا عن فسحة صغيرة، لا تزيد عن قبر.
من داخل القبر جاءني صوت (ابو براء) يقول وهو يتوعد بأصبع غليظ يرتجف: موعدنا الحساب.
لا ادري هل كان (ابو براء) قد قبض عليّ متلبسا بتمثيل دور الجاهل وانا امطره بوابل من الاسئلة المدرسية 'المصنعة' الساذجة عن الحياة والموت والتسامح والشهادة واولي الامر واهدار الدم، ام انه كان مسرورا بلقاء متعلم، او نصف متعلم، يجهل اصول الدين وملازم الجهاد في نصرة الاسلام لكي يكسب مثابة الله عن موعظة حسنة يقدمها باللسان، إن لم يقدمها بالقلب 'وهو اضعف الايمان'.
ولم يكن الرجل لينكر انه ارهابي، لكنه كان يتحدث عن ارهابيان، او مفهومان للارهاب، الاول، ارهاب الاسلام لاعدائه 'وترهبون عدو الله' والثاني ما اسماه بأرهاب القوى الصليبية والصهيونية والكافرة.. الاول مشروع ما دام يتم، بالنية المسبقة، على يد المجاهدين بصرف النظر عن الاذى والموت الذي قد يصيب الابرياء، والثاني ضد الشرائع، على الرغم من المجاهدين انفسهم عملوا في خدمته عقودا، ونالوا عونه ودعمه وسلاحه في الكثير من الاحوال.
وحين سألته عما إذا يعتبر نسف جسر الصرافية أو تفجير سوق الصدرية وذبح عراقيين ابرياء امورا مشروعة ام ان تقرب فاعلها الى الجنة ورضى الله ورسوله، صمتَ قليلا، ثم ارسل اليّ نظرة استنكار وريبة وراح يشتم الامريكان والشيعة والاكراد والحكومة بسيل من العبارات المتداولة في خطب الظواهري، ثم قال من غير حماس: انهم يغسلون عقول السذج من ابناء الامة ويجعلون منهم ابواقا لهم. نسف الصرافية اوقع نصف بغداد بيد المجاهدين، وتفجير الصدرية كان تفجيرا لبؤرة كانت مستنقعا للخوارج، لكن الصليبيين عملوا على تزوير الحقائق وارادوا ان يطفئوا نورالله بأفواههم، خسئ شانهم.
اردت، بحذر كبير، ان اجر (ابو براء) الى الحديث عن سبب عدائهم للحياة المدنية: للشوارع والاثار والحدائق والالعاب الرياضية والفنون والانشطة الترفيهية والسياحة وحفلات الاعراس والتعليم العام، لكنه كان يتهرب من هذا المفصل من الحديث مكتفيا بالقول: ان دولة العراق الاسلامية المظفرة ستهدم 'بعد ان تستيقظ الامة' كل ما بناه الكفر والاحتلال والانظمة العلمانية في هذا البلد وستلقي به الى المزبلة لتبني بدله عراقا جديدا هو عراق الخلافة الذي يقدم الاسلام الحقيقي الى العالم على هدى دولة طاليبان الشهيدة، وعندما الححت بطلب المزيد من الايضاحات لم يتحرك خارج حدود الجمل الانشائية التي بدت كنصوص مرخص بها، ممنوع عبورها.
في مناقشة (ابو براء) العراقي الذي يقاتل في صفوف شبكة القاعدة ظهرت لي جملة من الحقائق، منها موصول بالمأزق الذي تتخبط به الجملة الاسلامية الجهادية المتطرفة، وعزلتها، واستنفاذ شحناتها الدعائية والتعبوية، وانحسار حماستها وجاهزيتها وتفاؤلها بالنصر القريب، ومنها- وهو المهم- ما يتصل بأنهيار حلم تصنيع بيئة عراقية دينية سلفية شديدة التطرف والعدوان، قابلة لاستقبال واحتضان المشروع الارهابي الطاليباني، لكن الاكثر اهمية هو ان (ابو براء) كان خلال حديثه مشتتا بين ثلاث نزعات متصارعة، عراقية رافضة للبربرية المستوردة من وراء الحدود، وطائفية مريضة تجد بالمذابح الجماعية ضد اتباع الطائفة الاخرى شفاء لها، وغريزية بمواجهة الغريب الوافد، جيوشا وافكارا ومدنية.
وجهت الى (ابو براء) سؤالا عن سبب نكسات القاعدة في العراق، فلم يجد تعليلا لذلك غير العودة الى الماضي.. قال: لقد انكسر المسلمون في معركة احد، لكن الانتصارات توالت بعد ذلك. قلت 'لكن التاريخ لا يكرر نفسه دائما.. ثم من قال بأن القاعدة هي الاسلام نفسه؟' وهنا، في هذا السؤال،اكتشفنا بعضنا بعضا كما لو في صدفة: اكتشف الرجل اني لم اكن ساذجا.. واكتشفت انه لم يكن سعيدا بحشوة الرطانات التي تعلمها.
ـــــــــــــــــ
'
لا مخلوق اشجع من الحصان الاعمى'.
                                     
حكمة يونانية
ـــــــــــــــــ

جريدة ( الاتحاد) بغداد







 


 

Counters