موقع الناس     http://al-nnas.com/

خمس زوايا لسقوط وعودة البعث

من همجية الحزب الواحد الى مستنقع الجهاد

 

عبدالمنعم الاعسم

الجمعة 24 /11/ 2006

هزيمة منكرة ام قصاص؟
كل احزاب نظم الدكتاتورية والاستبداد في العصر الحديث تنهار مع انهيار السلطة نفسها، لكن ثمة في هذه الحقيقة تفاصيل موازية يمكن اجمالها في القول ان سرعة انهيار احزاب نظم "الحزب الواحد"وامكانيات نهوضها مرة اخرى، على نحو ما، يعود الى عوامل عديدة ومعقدة، ربما في مقدمتها شكل ذلك الانهيار، واستيعاب دروس الهزيمة، يشار بهذا الصدد الى ان غالبية الاحزاب الشيوعية في “المعسكر الاشتراكي” التي حكمت بنظام الحزب الواحد كانت قد تخلت عن السلطة سلميا وبواسطة صناديق الاقتراع، باستثناء الحزب الروماني الذي انتهى بالقوة المسلحة وبفاجعة مقتل نيكولاي تشاوشيسكو وزوجته، ولم تقم للحزب قائمة بعد ذاك.
والعبرة، هنا في التالي: ان تخلي الاحزاب الشيوعية سلميا عن السلطة فتح لغالبيتها فرص النهوض وتجديد سياساتها وهياكلها، وإنْ على نحو متفاوت يتصل بمستويات ذلك التجديد وصدقيته وعمقه، وفي المثال الروماني الاستثنائي تكمن، الى حد ما، تجربة ومصير حزب البعث الذي حكم العراق بالحديد والنار مرتين، انتهت الاولى باثقال مذابح 8 شباط، وانتهت الثانية باوزار ثلاثة حروب كارثية، وعملية عسكرية خارجية، وكانت بوخارست، عشية اعدام الدكتاتور الروماني تعج بمليوني متظاهر يلوحون له بالاستعداد للقتال من اجله لكي لا يرحل، وكانت بغداد في الثامن من نيسان قد شهدت جماهير تحمل صدام حسين وهي تفتديه بالروح والدم لكي يبقى رئيسا مدى الحياة، فيما دخلت هذه الظاهرة في علوم السياسة بعنوان غسل المخ لمصادرة الارادة مؤقتا.
كان يمكن، منطقيا وتاريخيا، ان لاتقوم قائمة لحزب البعث، بعد السقوط المخزي لنظامه الفردي الدموي المغامر، في التاسع من نيسان عام 2006 على يد القوات الاجنبية، وكان واضحا لمن عايش احوال الحزب عن قرب ان ملايين الاعضاء المجندين بالقوة والخوف وبدواعي تامين الامتيازات والوجاهة والكسب وتجنب التنكيل قد تخلوا عن الحزب طواعية بعد ان رفع سقف القمع وسيف الارهاب، وثمة الكثير منهم كانوا ينتظرون الفرصة المواتية ليتنفسوا الهواء الطلق خارج صفوف هذه الثكنة الامنية التي اذلّت الشعب واعضاء الحزب على حد سواء، وقد استعدت الاعداد الغفيرة من اولئك الاعضاء للانتقال الى الحياة السلمية الجديدة، والى التفاعل الايجابي مع عملية التغيير، فيما سلم نفسه للسلطات الجديدة الكثير من قادة الحزب والمطلوبين الى السلطات( طارق عزيز. سلطان هاشم. سعدون حمادي..) بل وصار يوشي بعضهم ببعض وقد شملت الوشايات مخابئ صدام حسين وولديه، فيما اختفى، او هرب الى خارج الحدود، بضعة الاف من اركان اجهزة البطش واشرس حماة الدكتاتور والحلقة الضيقة من اصحاب الامتيازات والمراكز الامامية لسلطة الحزب.
وكان هذا التحول(الاضطراب) في قيادة وقواعد البعث سيمضي قدما في الاتجاه الصحي لو احسن التعامل معه، بتطمين اعضائه وتحريم نزعات الانتقام والتخويف والتهديد العشوائي والكيدي والتمييز او الابعاد الوظيفي، من قبل القوات الاجنبية وادارة بول بريمر في المقام الاول، ومن قبل الجماعات المتنفذة في مجلس الحكم والمشهد السياسي، وايضا من قبل الفئات السياسية التي عارضت الوجود الاجنبي ووجدت في “الوسط البعثي” لا سيما في مناطق التمويل البشري لمؤسسات النظام الامنية والقمعية، قاعدة شعبية للوذ بها واستقطابها وتحريكها لجهة الخندقة والعنف، والنشاط السياسي فيما بعد.
لقد تعامل الكثيرون مع البعث كاسلاب ومواقع وامتيازات وقصور ودور سكن، اوكجثة، قبل ان يكتشفوا انهم، بافعالهم تلك، بعثوا بهم، وبها، الحياة.

الاجتثاث : انتقائية حمقاء
والان، فان تشريح المواقف وتسمية الاشياء باسمائها ضروري في هذا الوقت الذي يتزايد الحديث خلاله عن البعث والبعثيين وقضية الحوار والمصالحة بما له صلة باعضاء الحزب الحاكم سابقا، فقد امعن بريمر في تجاهل حقيقة ان ثمة ثلاثة ملايين من اعضاء الحزب الحاكم يشكلون الشريان الرئيسي للدولة واداراتها المختلفة بما فيها الادارات ذات الصلة بالخدمات والتعليم والحدود والمرور والاتصالات، وهو بدلا من ان يصدر قرارا بالعفو غير المشروط عنهم (وغالبيتهم الساحقة كانت مستعدة للتفاعل مع العفو) وتركيز الملاحقة على مجرمي النظام السابق من دون صفتهم الحزبية، فانه اصدر قانونا اسماه بقانون اجتثاث البعث حشر فيه جميع البعثيين من غير استثناء تحت شبهة المساءلة والملاحقة، ووضعت قواعد اعتباطية ومهينة لتوصيف الخطايا والاتهامات وترسيم الحدود بين الجاني والبرئ، وانخرطت الجوامع والصحافة في التأليب والخلط بين صدام والملايين من المسجلين كاعضاء في الحزب، واعطيت هيئة الاجتثاث صلاحيات غريبة في تقرير مصائر وحياة ومعيشة وامن الملايين من الاسر العراقية، بل جرى زج الهيئة في سوق الصراعات السياسية ليستخدمها البعض من المتنفذين للكسب او للاسقاط السياسي ضد خصومهم، بدلا من بسط سلطة القانون وهيبته في ملاحقة المجرمين من الحزبيين وغيرهم، والاغرب ان الحملة العمياء سوقت في مسالك كيدية لاثارة الريب في سلامة ماضي وصدقية اولئك البعثيين السابقين الذين انشقوا على الدكتاتورية وقاتلوها، وكان لهم دور في فضح جرائمها واسقاطها، وقد امتد هوس الاجتثاث الى اطلاق شعارات حشرت في الحساسايات الطائفية وتولى دعاة وخطباء مساجد وكتبة في الجرائد والمواقع الالكترونية تحريك طواحين الكراهية المقيتة وتصوير البعث كجينات في دماء البشر، او في جسد اتباع طائفة معينة لا مفر من قتلهم، او ان الانتماء المذهبي للبعثي له شأن في مكانته وفي سلامة نياته.
وفي هذه الانتقائية المدمرة تكشفت لنا وقائع مثيرة عن محاولات تدليس وصفقات بين مراجع سياسية متنفذة واعضاء في حزب البعث تلاحقهم شبهة التنكيل بالشعب، كما طالعتنا شعارات منافقة لبعض الفئات الطائفية السياسية حيث تجيّش ضد البعثيين بلا تمييز، من جانب، وتستقطبهم الى داخل صفوفها، بل الى صفوف تشكيلاتها المسلحة، من جانب آخر..فالبعثيون عند تلك الفئات هم فقط الذين يعارضون برنامجها السياسي، وينبغي ان نضيف الى هذه القراءة عمليات الاغتيال المروعة، والهمجية، التي طالت اعضاء سابقين في حزب البعث، وبخاصة منهم الاكاديميين والصيادلة والاطباء، واللافت ان غالبية الضحايا من اتباع مذهب معين، الامر الذي يشير الى الجهة( الجماعة المسلحة) المسؤولة عن ذلك ولم يكن ليخفف من البعد الطائفي لهذه الجرائم ما يقال بان مرتكبيها ينتمون الى شبكات الارهاب وبهدف اثارة الفتنة الطائفية.
والحق ان انصار صدام ممن اعادوا تشكيل تنظيم حزب البعث من القتلة والمطلوبين ورجال الامن والمخابرات السابقين استثمروا، الى ابعد الحدود، اجواء الملاحقة والاقصاء والاغتيال والاجتثاث التي طالت الاعضاء السابقين للحزب من غير تمييز باعادة الاتصال بهم وبغيرهم ممن يطالهم التهديد اليومي وتكوين معادلة سياسية عراقية جديدة تجبر الادارة الامريكية على التعاطي معها وفتح اقنية اتصال وحوار مع رموزها، وربما مع صدام حسين ايضا.. وما خفي كان اغرب.

انشقوا لكنهم ندموا بعد ذلك
لم يكن مسموحا لجمهرة البعثيين، في ظل الدولة البوليسية الدكتاتورية، ان يطلعوا على التيارات الفكرية والسياسية الاخرى، إلا من زاوية رفض تلك التيارات وتسفيهها، لجهة تعميم الجهالة والانكفاء والاحادية القسرية، وتكريس الوهم بان الصيغة الصدامية للبعث وخُطب “القائد” تحمل في ذايتها كفاية ثقافية في عصر التعددية والتنوع والاجتهاد، وقد شاء النظام ان يضع حراسة صارمة لامثيل لها في اي بلد في العالم على معابر الفكر والثقافة الخارجية وحفر خنادق عميقة من حول اجيال الشباب التي ولدت في العلبة الخانقة للنظام.
في مثل هذه البيئة لم يكن متوقعا ان يبادر دعاة وكتبة وجلادون وزمّارون وحراس على افواه الشعب الى ممارسة النقد والمراجعة وطلب الغفران من ضحاياهم، واعلان الندم عن دورهم المشين في تسويق هراوة الدكتاتور وتجميل حروبه الكارثية وعن الامعان في اذلال الملايين وتزوير الوعي والحقيقة الشعبية. اقول، لم يكن متوقعا ذلك، فالمراجعة ونقد الذات والندم عن الافعال الشائنة والاعتراف والاعتذار هي جميعا قيم مدنية غريبة عن ثقافة البداوة وعبادة الفرد الطاغية بمسافة حضارية شاسعة، وإذ طالبت مجموعة منشقة عن الحزب قيادة صدام-عزة الدوري الى “ان تتحلى بالشجاعة وتتحمل مسؤولية ما حصل وتعترف بفشلها” غير انها نفسها لم تتحل بالشجاعة لتكشف عن نفسها او لتقوم بعملية مراجعة واعتذار عما لحق البلاد على يد الحزب وقيادته.
والغريب ان “بعض” الذين انشقوا سابقا عن الحزب والسلطة، ومنهم من نكّل صدام بهم وبعائلاتهم، عادوا يحنون اليه ويرتدّون الى مدافعين عنه، وبعضهم ( مثل عز الدين المجيد- زوج اخت حسين كامل) لم يتورعوا عن الانخراط في المحاولة العبثية لاعادة حكم الدكتاتورية الذي اذلهم وحصد اسرهم بضراوة ووحشية، وثمة البعض الآخر من الحزبيين القدامى الذين تخلوا عن صدام لكنهم وقعوا ضحية اغواء الشارع العربي المضطرب واستسهلوا ركوب الموجه التي اعادتهم من حيث اتوا نادمين.
كل هذا لا يعني بان حزب البعث، او ما تبقى منه، خرج سالما معافى من عملية الاطاحة، او جدد نفسه، او اخذ من الهزيمة دروسا وعبرا، فالذين يتابعون عن قرب انشطته الجديدة يعرفون ان بضعة عشرات من رجال الامن والمخابرات والجلادين وقادة اجهزة القمع يتولون الآن قيادة فلول التنظيم، وسط تنافر متزايد، واحتراب سري، وشكوك وطعون متبادلة، وليس ادل على ذلك من الاعلان عن فصل عضو القيادة محمد يونس الاحمد “ لتمرده على اوامر الحزب ومقرراته” ومن البيانات المتضاربة التي اصدرها مؤخرا فرقاء متناحرون من نفس التنظيم، بل ومن المأزق الناجم عن تحالف الحزب مع قطعان القاعدة، ما ورد في رسالة وجهها “الناطق باسم الحزب” صلاح المختار الى البعثيين يقول لهم فيها “تجنبوا من يشتمكم ويكفركم برعونة احمق جاهل بدينه ودنياه ، وارفضوا اغراء الرد المتسرع عليه ، لاننا نحن من يقدم وثائق الوطنية والاسلامية ولانحتاج لوثيقة تثبت اسلاميتنا من جهلة واميين وانصاف اميين” ويضيف “ليكن اهتمامكم الاول هو الجماهير وليس الطراطير” ويخاطب حلفاء الحزب في الجهاد “ لمَ تهاجمون البعث وتشككون به اذا كنتم وطنيين او اسلاميين؟” ويعترف بوجود “محاولات العدو اختراق صفوف الحزب بالاتكاء على هذا الاسم او ذاك ، وبالاعتماد على طروحات تبدو في ظاهرها صحيحة لكنها في واقعها تخريبية “ ولا يخفي المختار ما يواجهه الحزب من تصدع يعيده الى “تامر مكشوف يجب قتله في المهد ، وكشف كل من يشارك فيه مهما كانت خلفيته وتاريخه”.
ومن زاوية معينة تبدو المعلومات المتداولة عن صفقة تعد في واشنطن وعواصم عربية لاعادة حزب البعث الى السلطة، بهيكليته وقيادته وسياساته، بمثابة نكتة سوداء، فاذا كانت تلك القيادة والهيكلية والسياسات قد تسببت في ثلاثة حروب ومذابح وضياع السيادة، فما هو الضمان ان لا يكرر الحزب، في حال اعادة عقارب الزمن الى الوراء، ذات النهج الاجرامي الكارثي؟.
اما فكرة المصالحة مع جمهور البعثيين غير المتورطين في اعمال تحت طائلة القانون فهي قابلة للمناقشة، بل وضرورية.

من الذي يقود البعثيين الآن؟
بعد ان تشكلت المراكز القيادية لفلول حزب البعث في عواصم عربية مجاورة، بعد اشهر من هزيمة صدام حسين، كانت باكورة الخطوات توجيه انذارات بالقتل للبعثيين الذين انقلبوا على الحزب وانخرطوا في الحكم الجديد، او واصلوا اعمالهم الاعتيادية في تشغيل الة الدولة، وقد نفذت اعمال الاغتيال فعلا في عدد كبير ممن تعاونوا مع العهد الجديد، واضطر مئات الالوف منهم (وغالبيتهم من المهنيين والموظفين) الى ملازمة منازلهم، وهرب الكثير منهم الى خارج العراق تحت طائلة تهديد رفاق الامس من جهة والجماعات الانتقامية المسلحة من جهة اخرى، فيما ابدى عدد قليل من البعثيين الذين واصلوا العمل في وظائفهم الحساسة الى التعاون والتنسيق سرا مع قيادات الحزب، وربما تزايد عدد المتعاونين، هنا، باضطراد، مع تزايد الضغوط وانفلات الوضع الامني وانفاع طاحونة الفتنة الطائفية.
ان اخطر هذه الجماعات البعثية هي التي اندست في مراكز الدولة وشكلت جيوبا وعيونا للاعمال الارهابية الدموية في اكثر المرافق اتصالا بعملية الاستقرار والبناء وشبكة الخدمات، ومن الطبيعي ان يكون نظام المحاصصة السياسية الذي فرض قواعد التعيين في الملاكات الحكومية بعيدا عن الكفاءة والحيدة والمساواة وغياب الحد الادنى من التفاهم بين احزاب العملية السياسية وانتشار الفساد عموديا وافقيا قد ساعد في خلق بيئة تسهل تسلل العناصر البعثية المرتبطة بالمشروع الارهابي الى مفاصل امنية وسياسية وحزبية خطيرة، ولم يكن ممكنا للجماعات المسلحة ان تقوم بالهجمات ذات الطبيعة الاستراتيجية والاستعراضية والتي تتسم بالاختراق والدقة من دون مشاركة هذه العناصر المندسة في التخطيط والتنفيذ.
لا موجب لتكرار القول بان ثمة العدد الاكبر من اعضاء حزب البعث لم يتورطوا في اعمال الارهاب، ولا حتى في الارتباط بفلول الحزب، وقبل هذا لم يتورطوا في نهج ايذاء الشعب واذلاله، وقد اختارت هذه الشريحة مزاولة حياتها الطبيعية، غير ان التجييش الطائفي الاعمى وضعها تحت التهديد المستمر وفرض عليها حياة الحذر والخوف، تزداد دائرته بازدياد حالة التوتر وانعدام الامن وسيادة حكم المليشيات ومحاكم الشوارع الكيفية بالاضافة الى الاستمرار في هز سوط قانون اجتثاث البعث في وجوههم.
على ان ثمة جمهرة مهمة من البعثيين السابقين، قادة وكوادر وشخصيات، ممن نكّل بهم صدام حسين، لم ينخرطوا في المشروع الارهابي ولا في التحالف مع مجرمي القاعدة، ولا حضوا على حمل السلاح والقتل، وقد ابدوا في مرحلة مبكرة من العهد الجديد استعدادا للمشاركة في العملية السياسية، ومدّوا اقنية اتصال باحزاب العملية السياسية، واصدروا صحفا محلية، وكان يمكن لهذه الجماعة ان تلعب دورا مهما في تكوين حركة سياسية، في خارطة التعددية، تمييزاً عن منهج ودكتاتورية وجرائم صدام حسين في وقت احوج ما تكون له العملية السياسية في العراق، غير ان انكفاء بعض شخصيات هذا التجمع الى خانة “المقاومة” ربما بسبب تهديدات بالقتل من قبل فلول صدام، وحملة التهديد والتشهير المنظمة التي اطلقتها فئات طائفية مرتبطة ببعض احزاب الاكثرية البرلمانية زاد في عرقلة امكانيات الحوار معها قدما نحو المصالحة الوطنية.. المصالحة التي سنختم بها هذه المعالجة.

المصالحة العمياء
لايمكن لأية مبادرة تستهدف تحقيق مصالحة وطنية عراقية ان تنجح من دون ان يكون للبعثيين مكان فيها، لكن ايّ من البعثيين نعني، وبكلمة اخرى، أيّ من البعثيين مستعد لأن يندمج بالحياة السياسية التعددية، سواء تحت اسم البعث او اي اسم آخر؟
تلك هي القضية، في وقت لم تجر مطالعة ميدانية قانونية سياسية للتقرب من هذا الوسط الذي يمكن تسميته مجازا بـ”الوسط البعثي الايجابي”وتعيين مناسيبه وحدوده، في وقت نطالع ونسمع طشّاراً من المعلومات والتقارير والتسريبات تفيد ان جهات امريكية فتحت، فعلا، خطا من الاتصالات مع اصحاب صدام حسين، وعندي ان هذا يقفز من فوق مبدأ المصالحة الى ما يمكن تسميته-لو صح- الصفقة الكارثية.
قبل الخوض في هذا المفصل الاشكالي، ينبغي القول بان الحاكم المدني الامريكي بول برايمر والطبقة السياسية المتنفذة في حكومات ما بعد صدام اغلقت، منذ الايام الاولى للتغيير، باب المصالحة مع البعثيين أيا كان لونهم وموقفهم وعلاقتهم بالصدامية، وشمل ذلك الحزبيين الذي انقلبوا على الدكتاتور وتركوه يواجه مصيره منفردا، وكانت القيادة الكردية اكثر حكمة في استباق حدوث الشرخ في المجتمع الكردستاني عندما اعلنت عفوا عاما عن المتعاونين مع الدكتاتورية باستثناء اولئك الذين تلطخت ايديهم بدماء ابناء شعبهم، وهم قلة، وكان من الحكمة، بل ومن ضرورات التغيير والتعجيل بانهاء الوجود العسكري الاجنبي، ان يصدر في بغداد عفو شامل وان يترك للقضاء النزيه والعادل النظر في معاقبة من نفذوا جرائم بائنة ضد المواطنين او من تمادوا في تركيع واذلال وتدمير روح الشعب وسرقة لقمة عيشه وثروته، وهم يشكلون نسبة ضئيلة من ثلاثة ملايين عضو ونصير حزبي، وليس ثمة تجنٍ على مبادرة رئيس الوزراء نوري المالكي القول انها جاءت متأخرة ثلاثة اعوام عجاف، كما لا يقلل من شان هذه الملاحظة الرد عليها بالقول ان حكومة المالكي جديدة العهد، فهي امتداد للحكومات السابقة بكل ما يعنيه الامتداد من معنى.
تنطلق مبادرة المالكي من ضرورة “تعميم روح المواطنة المخلصة للعراق التي يتساوى عندها كل العراقيين في حقوقهم وواجباتهم” غير ان الاشارات الى “الوسط البعثي الايجابي” الذي ينبغي التعاطي معه تكاد تكون غامضة وهلامية وربما لا وجود لها إلا اذا افترضنا بان عبارة “الاطراف المترددة” التي ذكرت عرضا في برنامج المصالحة تعني هذا الوسط حصرا، مقابل وجود ملازم مهينة وذات طابع امني مقيت في هذا السياق، مثل: “ ويتعهد (الساعي الى العفو) بدعم الحكومة الوطنية المنتخبة وإتباع القانون” في حين جاءت معالجة اثار قانون اجتثاث البعث هي الاخرى متناقضة وناقصة وتنطوي على رغبة بابقاء القانون المثير للجدل والاختلاف، واقتصار البحث على “ اعادة النظر في هيئة اجتثاث البعث بموجب ما نص عليه الدستور” ما يعني استمرار “ثقافة” الاجتثاث، بل واستمرار تقنينها “وفق الدستور”.
وبايجاز، فان منطلقات برنامج المالكي للمصالحة (برغم تأخره) سليمة من حيث توصيف الضرورات لبناء مجتمع جديد تسوده روح التسامح والثقة، لكنه اخفق في المرور الى الحلقات الاكثر تماسا بقضية خطيرة هي قضية مصالحة المجتمع لنفسه، وبايجاز اكثر، يمكن القول انه من دون استعداد المجتمع ومكوناته وفئاته السياسية للتضحية بامتيازات ومواقع ومكاسب، تضحية متقابلة وطوعية، فان المراهنة على المصالحة مثل مراهنة صياد يفتح اصبعيه لساعات بانتظار ان يمر طير من بينهما للقبض عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
..وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــــــــ
“ لا يمكنك ان تصافح القبضة ”.
                                         انديرا غاندي