| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبد المنعم الأعسم

mm14mm@yahoo.com

 

 

 

الأحد 22/8/ 2010

 

السياسة في سيارات الاجرة

عبد المنعم الاعسم 

احسب ان الذين يستقلون سيارات النقل الشعبية “الكيّات” او”التاكسي” في بغداد حصرا، قد يفلتون بصعوبة من حديثٍ عابرٍ عما يجري في البلاد من احداث وتجاذبات سياسية، مع قائد الحافلة او مع راكب او مجموعة من الركاب، لكنه لن يفلت من هذا الحديث حين يأخذ مكانه في صدارة تاكسي يقله الى مكان قريب، او بعيد، فيما “سيطرات” الشوارع والمواكب الامنية والحكومية المتناسلة دائما، تتولى اللعب بالوقت، والاعصاب ايضا، فقد تقضي ساعة من الوقت في مشوار يُقطع في عشر دقائق في الظروف الاعتيادية، على سطح مشوي باللاهب والنار، ومن ذا يستطيع إسكات البركان؟.

بالنسبة لكاتب السطور، وربما لغالبية العاملين في الاعلام والصحافة، ممن لا يملكون وسائل نقل خاص، فان سيارات التاكسي واسطة، لي ولهم، للتنقل الآمن، ويحدث للبعض ان يجد في خط من سيارات “الكيّا” مناسبا لميزان الآمان ولميزانية المصروف، وفي كل الاحوال، لا صحة للقول الشائع في الدراسات الاعلامية المعاصرة بان الصحفي او المعلق او المراسل لم يعد بحاجة الى الخروج الى الشارع لاقتفاء المعلومات، لأن الشبكة العنكبوتية، كما يُزعم، تكفلت نقل الشارع الى ما بين يديه وتحت نظره، وهو على طاولة مكتبه.

/ اقول، لا صحة لهذا القول، واضيف، في الحالة العراقية بخاصة، فان الشارع البغدادي، بخصوصياته الاجتماعية والسياسية والسايكولوجية، يفيض على مدار الساعة بالمعلومات الغنية والاشارات والالغاز والحقائق والشائعات مما لا يتوفر في مظاريف الكومبيوتر، ولا في برقيات وكالات الانباء، واستطيع، من دون الشعور بالمبالغة او المجازفة، ان اطلق الرأي التالي: ان واحدا من اسباب “سُمْك” جلود اصحاب الازمة السياسية(الوزارية) وتعنتهم وقلة تحسسهم لغليان الرأي العام هو عزلتهم عن الشارع، وتنقلهم في المدينة عبر مواكب مظللة وسط طوق متراص من الحمايات، ولو جرب احدهم ان يستقل واسطة نقل شعبية مرة واحدة، ولو متنكرا لعرف اشياء كثيرة.

/ وعندما نتحدث عن الشارع البغدادي ، كمصطلح سياسي شائع للرأي العام وحركة المصالح والافكار وردود الافعال الشعبية، فاننا إزاء نموذج له، ومعبِرٍ عن ادق اتجاهاته، يتمثل في قائد (او رُكاب) سيارات الاجرة، واخص منهم سواق التاكسي، على اختلاف المناشئ والثقافات والظروف التي تقف وراء شخصياتهم، وبالمناسبة، فان الغالبية الساحقة لهذه الشريحة متعلمة، والبعض من افرادها موظفون، او طلاب جامعات، او اصحاب مصالح ومحال تجارية، او عاملون في الشرطة او الجيش، يسعون الى تحسين مدخولاتهم والتغلب على متطلبات المعيشة المتفاقمة.

/ قلت لسائق تاكسي، مرة، وقد اخذت مكاني جنبه: اريد الوصول الى وزارة الكهرباء.. قال، من دون مقدمات: “إستاد.. سلملي على الجماعة.. قل لهم.. هولاكو ما سوّا ببغداد مثل ما سوّيتو” وفي مرة اخرى سألت سائق التاكسي لماذا لم يدر جهاز الراديو على نشرة الاخبار، قال: “انهم يكذبون على بعضم، فهل يَصْدِقون معنا؟.

الى ذلك، لم يعد سواق التاكسي جواسيس للسلطة الحاكمة، او مشتبه بتعاونهم مع اجهزتها الامنية، كما كان في السابق، حيث تُروى قصص ووقائع عن فخاخ امنية كان ابطالها سواق تاكسي، ولم يعد الراكب يرتاب، الآن، من سائق التاكسي ويظن به الظنون، بل ان تجربتي الطويلة مع هذه الشريحة الشعبية الكادحة كشفت لي ان سمعة الحكومة ليست طيبة لدى غالبية العاملين في هذا القطاع الحيوي من دورة الحياة اليومية، هذا على الرغم مما يقال(اكرر: يقال) بان فئات سياسية متنفذة صارت تستورد سيارات كثيرة توزعها على “انصار” يترزقون منها ويقومون بواجب الدعاية لأصحاب النعمة.

تنبغي الاشارة الى حالات الجرائم المنظمة واختطاف مواطنين يجري اطلاقهم باموال، او قتلهم لإخفاء الجريمة حيث نفذت بواسطة سيارات الاجرة، ويعتقد ان هذه الحالات تدنت في السنتين الاخيرتين مع الحملة على بؤرة المليشيات والعصابات المنظمة.

الاختناق المروري، شديد الوطأة (ويسمونه : القافل) اكثر ما يثير استياء واعصاب سواق التاكسي. يحدث هذا خلال ساعت الدوام وانتهائه، وقد ينهمرون بسيل من الشتائم على نظام السيطرات الامنية والمرورية، وعلى كل من يرد بخواطرهم (في تلك اللحظات) من اسماء السياسيين والمسؤولين، وفي اهدأ الاحوال، وأكثرها استسلاما، يعبّرون عن سخرية مريرة حيال جدوى وجدية الاجراءات الاحترازية لكبح اعمال العنف والارهاب، والامر ببساطة يخص رزقهم اليومي وضمان معيشة عائلاتهم، عدا عن لوازم السيارة من صيانة وتعمير، فكلما زادت حالات الإقفال المروري تدنـّت مواردهم الى ادنى منسوب لها، وتراهم في حال الافلات من الزحام الخانق يتصرفون بتوتر واضح، فيسابقون الريح ويزاحمون السير ويتجاوزون الاشارات والضوابط، وقد يتسببون، في حالات عديدة، بحوادث مرورية مروعة.

مرة، قال لي سائق تاكسي وهو في ذروة استيائه، إذ توقفَ السير قرب ساحة المسرح الوطني خلال ساعة الظهر اللاهبة، فيما دويّ انفجار وصلنا صوته من مكان قريب: أظنك، أستاذ، قادم من الخارج؟ قلت : نعم، كنتُ في الخارج. قال: اين كنت تعيش؟ قلت: في اوربا؟ قال بخليط من الشفقة والنقد: لا يبدو انك مسؤول او موظف كبير، فما الذي جاء بك، استاذ، الى هذه الفوضى والاخطار والخرافات وانقطاع الكهرباء؟ وهنا حاولت تصريف الحديث بعيدا عن حراجة اللحظة بين عراقيين يعانيان من ضغط مهول على انسانيتهما، ولا يهم من اين تحدرا الى تلك اللحظة المشحونة بالخيبة والتهديد، قلت: نحن الآن سوية في هذه المحنة، ولا مفر من ان ننتظر انتهاء الازدحام. سكت برهة ثم عاد ليقول: لم تجبني، استاذ، عما جاء بك الى هذه المحنة، وانت في مكان آمن ومتمدن؟ فحاولتُ ان استوعب توتره في جواب قد يحوّل الحديث الى مجرى هادئ وصبور، لكني، كما يبدو، اخفقت في مسعاي، إذ كان جوابي ينطوي على نوع من البطر في موقف لا يحتمل مثل هذا الاستفزاز.. قلت له مازحا: جاء بي حب الوطن.

/ الفت الرجل الي فجأة وكأنه يراني لازل مرة قائلا: استاذ فوّرت دمي.. ارجوك تِنزل من السيارة.

***
يستطيع اي سياسي، او اي شخص (إعلامي. باحث. مراقب) مهتم بمعرفة اتجاهات ومزاج الرأي العام العراقي، في بغداد مثلا، ان يفتح قلب سائق سيارة التاكسي، ويستطيب خاطره وثقته وانشغاله، ليكون في صورة الاحداث وعلى مقربة، وتماس، من لوعة الملايين وشكاواهم، ومن جانبي، فقد رصدتُ، افكارا ومعلومات واشارات (وحتى تحليلات) ثمينة وخطيرة عما يجري من صراعات بين الزعامات السياسية والكتل، وايضا، عن معاناة وتفكير واحلام شرائح المحرومين والمهمشين والعاطلين عن العمل وضحايا العنف والحروب من الامهات والارامل والاطفال كانت تفرّ تلقائيا من افواه وافئدة سواق تاكسي في شوارع بغداد .

وثمة البعض منهم ممن أفاجأ بانه يعرفني، كمعلق سياسي، لا يتوانى عن القول “انك اخطأت سيدي” في بعض الاراء التي طرحتها عبر الكتابة او الاقنية الاعلامية، وثمة مرة طلب مني سائق تاكسي كان ينقلني الى مكتب احدى الفضائيات في بغداد ان اتوسط له ليقوم عبر الشاشة بتحليل الازمة السياسية الوزارية.. قال “صدقني، سأرفع رأسك” ولم اكن لأشك في ذلك، ولو تم هذا الامر لصاحبي لتكررت، ربما، تكررت حكاية شائعة عن سائق اينشتاين حيث فاجأه قائد سيارته، وهو في الطريق لالقاء محاضرة في احدى الجامعات بالقول “سيدي، اراك مرهقا، فدعني احاضر بالنيابة عنك.. هيئتي تشبه هيئتك، وشعري مثل شعرك، فقط نتبادل القبعات، كما اني اعرف بالضبط ما ستقوله، فقد حفظته جيدا بعدما رافقتك مئات المرات في مئات المحاضرات” وهكذا اقتنع عالم نظرية النسبية بالفكرة، وتقدم السائق الى المنصة وجلس اينشتاين الذي ارتدى قبعة الرجل في الصفوف الخلفية، وسارت المحاضرة على ما يرام إلى أن وقف بروفيسور متنطع وطرح سؤالا من الوزن الثقيل على المحاضر، وهو يحس بأنه سيحرج به أينشتاين، هنا ابتسم السائق المستهبل وقال للبروفيسور: سؤالك هذا ساذج إلى درجة أنني سأكلف سائقي الذي يجلس في الصفوف الخلفية بالرد عليه.

احد السائقين شكا مرة من انقطاع الكهرباء تماما في حي شعبي كامل وطوال ثلاثة ايام، في اسوء ايام الصيف واكثرها حرارة، إذ هب “الشرجي” الحارق على بغداد والعراق كله. قال لي والعرق يتصبب منه: قل لاصحابك. اوقفته عن الكلام معترضا على كلمة “اصحابك”: فما ادراك من انا، ومن هم اصحابي؟” قال “لا تزعل.. انتم القادمون من الخارج اصحاب بعض، او تعرفون بعضكم”.

ملاحظة: سواق سيارات التاكسي يعرفون بفراسة عجيبة العراقيين القادمين من الخارج من سواهم.

ثم استأنف الرجل كلامه بعد ان افحمني بايضاحه: “قل لهم، ليأخذوا النفط والخزينة والوظائف والسلطة والدولة كلها، لا نريد شيئا منها، وليعطونا كهرباء فقط. ان اطفالنا تُشوى وتذوب من الحر، واليوم، الليلة الثالثة مرت علينا لم نعرف خلالها النوم. حرام عليكم يا جماعة”.

في هذا الملف ثمة روايات كثيرة لعب فيها سائق التاكسي دور الضمير، واقدار لا حصر لها قلـَبَها سائقو تاكسي، صعودا الى الذرى او نزولا الى القاع. جيتا كينغزلي كتبت روايتها “سائق الشاحنة الطيب” عن رجل وفي احبه ملايين القراء لشهامته، فيما سائق الاميرة ديانا الفرنسي هنري بول كان متهورا وقاتلا بحسب تقرير اللورد ستيفنسون، اما سائق التاكسي في مسلسل “الاجنحة” الايطالي “انطونيو سكارباسي” فيهمس لزعيم سياسي يقله الى بناية البرلمان: عفوا سيدي، لا ااخذ اجرة من اناس يسيئون استخدام اصواتنا الانتخابية.. فلوسكم حرام”.

ان سواق سيارات التاكسي، في بغداد بخاصة، شريحة اجتماعية محورية، فهي تمتد على جميع القطاعات الدينية والقومية والمذهبية، وعلى جميع التصنيفات الثقافية، وهي تتحدر من منابت مختلفة ومتناقضة، ريفية ومدينية ومهمشة، وحين تسأل اي شغيل في هذا القطاع عن شؤونه وظروف انتمائه الى سياقة سيارة اجرة فانك ستحصل على بيانات متضاربة، وغير ذي نسق، لكنها في جميع الاحوال لن تخفي ما هو مشترك بين الجميع: العوز والقلق الامني، معبّرٌ عنهما باكثر العبارات وضوحا وتدور حول “لقمة العيش والايام القادمة” وهل ثمة مصادر لحرائق العالم وانقلاباته وثوراته غير الخبز والمستقبل؟.

قال لي سائق تاكسي، بعد نجاتنا من تفجير في مدخل شارع الرشيد كنا سنتوجه اليه، لكنا تحولنا عنه (قبل التفجير بدقائق) الى مدخل اخر من ساحة الباب الشرقي: “سلمنا هذه المرة، فما الضمان ان نسلم في المرة المقبلة؟” آنذاك تلقى اتصالا مذعورا من زوجته: “الانفجارات في كل مكان.. اين انت؟ لم ارسل الاولاد الى المدرسة.. تعال .. اليوم لا نريد لقمة الخبز.. وغدا الله كريم”. التفتَ اليّ الرجل فاطلق سؤاله المدوّي.. ”وتاليها؟” ومن جانبي لم اجد جوابا، فهربت منه الى متابعة الفوضى التي حدثت: السيارات والبشر وصافرات سيارات الاسعاف والشرطة. الكل على الارصفة فيما الشوارع تختنق، والشتائم تتطاير الى الجهات الاربع، واعمدة الدخان ترتفع الى سماء مستسلمة تماما لهذا المسلسل من الجرائم المروعة التي تـُرتكب باسم “مقاومة المحتل”. عاد الرجل لإطلاق اسئلته القلقة والمقلقة معا: “هل هي القاعدة وجماعة حزب البعث، حقا؟ ثم كيف تصل سياراتهم المفخخة الى قلب بغداد؟” تركت الرجل يصارع اسئلته، وفضلت قطع هذا الجحيم المروي مشيا على الاقدام، وهذا ما يحدث للكثيرين.

في ذلك اليوم قرأت تصريحا لمدير المرور اللواء جعفر الخفاجي يقول فيه ما يشبه المفارقة المسلية قائلا: ” ان بغداد افضل مدينة بالعالم من حيث قلة الحوادث المرورية” واحسب انه يقصد بان السبب يعود الى بطء حركة السير في الشوارع، وبهذا المعنى فاننا ينبغي ان نصدقه، لكن المعطيات الاخرى تثير شكوكا جدية في هذه المعادلة، فان الغالبية الساحقة من السواق لا يملكون إجازات سوق مهنية، وان شرطة المرور لا تخضع السائق للسؤال عن اجازته حتى في حال مخالفته الفاقعة لقواعد المرور، والامر مرتبط حسب دائرة المرور (تصريح الخفاجي) بمشروع تحديث شبكة المرور واعتماد التقنيات الجديدة و “على أساسه يتم طبع إجازات السوق وطبع أرقام السيارات وطبع السنويات... وسبب تأخر المشروع هو الشركة الأجنبية المنفذة لهذا المشروع”.

/ في احدى المرات، توقف سائق التاكسي الذي يقلني من مدينة الكاظمية الى الكرادة، عند منزل في الطريق فخرج منه صبي، احسب انه لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر، نزل السائق، وترك المقود للصبي قائلا له “وَصِل عمك للكرادة”. وفي الطريق ابلغني الشاب بانه تعلم السياقة منذ اربع سنوات، وانه يساعد والده في المهنة، احيانا، منذ سنتين.

/ قال الصبي، فجأة ”عمي، ليست هناك حكومة.. كلهم منشغلين بـ...” وسكتَ ملتفتاً اليّ، والى حقيبتي، باحترام جم.

اظن ان الصبي اعتقد باني واحد من اولئك السياسيين المنشغلين عن الناس بـ..


جريدة(الاتحاد) بغداد
 

free web counter