| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبد المنعم الأعسم

mm14mm@yahoo.com

 

 

 

الأثنين 20/12/ 2010

 

فضلات لمشروع الردة

عبد المنعم الاعسم 

لم يكن مفاجئا بالنسبة للكثير من المراقبين في لندن انحراف الشاب العراقي تيمور عبدالوهاب العبدلي الذي فتح عينيه، بعمر الصبا، على الحياة في ارقى بلدين ديمقراطيين في العالم، السويد والمملكة المتحدة، نحو التطرف الاعمى في ابشع صوره: قتل النفس وسط اناس عابرين ابرياء، لا علاقة لهم بمشاكله، وتحقيقا للانتقام السياسي، وتقربا مما يراه “جزاء عند ربهم خالدون”.
فان فكرة الانتقام الدموي في المجتمع العراقي، وفي صفوف شظاياه المغتربة اصبحت عقيدة ثقافية منفلتة وسائدة، تفاقمها اجواء الاحتقان في الساحة السياسية (وفي العملية السياسية ايضا) القابلة للتصدير الى خارج الحدود، وتغذيها مباشرة مراكز العنف والارهاب والتمويل الايديولوجي للتكفير والجهاد التي تنتشر في اوروبا، فتضيع معها المسافة بين الانتقام المشروع، كقصاص ممن اذنب، وبين التكفير العشوائي الكيفي المعلب بالطائفية والتسييس والشبهات المستعارة من نصوص قرآنية مجتزأة، وسنة ممطوطة، وفتاوى تبيح اقامة حكم القتل“الحد” بكل من يقع (او اوقعه حظه العاثر) في طريق هذا الجهاد الهمجي.
كان تيمور، كما تفيد سيرته، من اسرة متدينة، هاجرت الى السويد، في اول التسعينات لاسباب تتعلق بضيق العيش في العراق في ظل الحصار الدولي على نظام صدام حسين، وبمعنى آخر، لا وجود لاسباب سياسية وراء هجرة عائلته، وكان سيحمل اية اراء او عقائد متاحة في الحياة الاوربية من دون عناء، لكن انتقاله من السويد الى بريطانيا للدراسة في “جامعة ليوتن” المعروفة بكونها مفرخة للتطرف الاسلامي لكثرة الطلاب المتحدرين من اصول شرقية وباكستانية بخاصة، ووجود تنظيم ناشط للتطرف الاسلامي في اروقتها، اوقعه ذلك لقمة سهلة في براثن المشروع الارهابي العالمي، وقد تكرست منابت الهوس الديني الانتقامي لديه مع اندلاع حرب العراق وسقوط الدكتاتورية على يد القوات الامريكية والبريطانية، واجواء المعارضة والتضاهرات ضد الحرب.
وربما، بل من المرجح، ان“ تيمور” ادى بعض “الخدمات” او المشاركة بهجمات لم تستطع اجهزة مكافحة الارهاب الاسترشاد لها، فيما صدّرت هذه الجامعة الى تقع الى شمال لندن وفي حي تقيم فيه جالية باكستانية محافظة ، وطوال سبع سنوات، انتحاريين باكستانيين وجزائريين وخليجيين كثيرين الى العراق، ومنها انطلق مفجرو انفاق لندن والكثير من مرتكبي اعمال الارهاب في اوربا والشرق الاوسط، واليها يتوجه الباحثون والصحافيون للوقوف على حقائق التيارات الدينية المتشددة وتعيين اتجاهاتها وشحناتها.
اقول، لم يكن الاعلان عن إقدام شاب عراقي على ارتكاب جريمة مروعة في وسط العاصمة السويدية، قادما من لندن، مفاجئا لاحد ممن يعرفون ”احوال” الجيل الجديد من ابناء الجاليات المسلمة في اوربا وبريطانيا، فهم يتلقون من بلدانهم الاصلية خلاصات مضطربة ومشوشة و”معلبة” وموجهة عما يجري فيها من صراعات وحروب، وثمة شريحة منهم (تتسع باضطراد) تشعر بالسخط على حكومات البلد الام، وتحملها مسؤولية الضعف والمجاعة والضياع التي تعانيها، من جهة، وهي مرتابة وسلبية حيال وطنها الثاني الذي تقيم وتتعلم فيه، وتنالها ، يوما بعد آخر، اجراءات العزل والريبة والتمييز في نطاق الحملة على الارهاب ومحاولات تفكيك شبكاته ومراكزه الايديولوجية والبشرية.
المفاجأة في ما حدث لتيمور تتمثل في انه فجر سيارته في ستوكهولم التي احتضنته يوم جاءها صبيا من العراق واسكنته ورعته.. لا في لندن التي تعلم فيها واخذ منها فايروس التطرف.
وبموازاة ذلك راح الكثيرون في السويد، كما في بعض عواصم اوربية، ينقبون في تحدر الانتحاري، وخلص البعض الى انه لم يكن عراقيا في الاصل، بل فلسطيني - اردني، ربما انتحلت عائلته هوية (ولهجة) عراقية للعبور الى حق اللجوء، في وقت (بداية تسعينات القرن الماضي) كانت السويد وبلدان المهجر الاخرى تفتح ابوابها لكل عراقي يؤكد (والبعض يزعم) انه تعرض الى قمع نظام صدام حسين، او انه مهدد في وطنه بالملاحقة والموت، وفي هذا الملف الكثير من الكلام والروايات، وفي النتيجة، لا تغيّر جنسية الانتحاري، عراقية ام فلسطينية، من حقائق الاغواء الجهادي الاجرامي لشريحة من شبيبة المهاجرين (بمن فيهم المولودون في المهجر) الذين يسقطون في وحل التطرف الديني ويأخذوا نزعته الاجرامية من بيئة المساجد التي تحول الكثير منها الى بؤر للفكر الاسلامي المتطرف والمغلق.
ومما ينفع (للتحليل) في هذا السياق ما يشير اليه اشخاص موثوقون (لي) التقوا تيمور في لندن، مفتتح العام الفين، وتسامروا معه، من انه لم يكن، حين ذاك، قد حمل اي عارض للتطرف الديني، ولم يكن متدينا حتى، وان انقلابه جاء من ضغط ايديولوجي هائل عاناه من حلقة اصدقاء اسيويين (حميمين) في الجامعة كانوا قد سبقوه الى الاتصال بجماعات ودعاة يروجون الى هوس الجهاد المسلح، والسخط على “المجتمع الغربي الكافر” وفكرة الانتقام والانتحار “لنيل رضى الله” فيما قدمت السياسات الامريكية حيال الدول الفقيرة (غير المحبوبة لدى الرأي العام الاوروبي) الزيت المناسب لماكنة التجييش وايديولجيته.
وتتفق الدراسات والتقارير والشهادات الميدانية، من جانب آخر، على السلبية المتنامية لدى شبيبة العائلات المهاجرة (لاسباب كثيرة، في صدارتها ما تعانيه من التهميش) حيال مشكلات بلادها، من جانب، وحيال موجبات التعايش والتفاعل مع بلاد المهجر وحضارتها وثقافتها، من جانب آخر، ويذهب البعض من الدارسين الى توصيف هذا الجيل الضائع بين هويتين متناقضتين، متصارعتين في نسيج ثقافته وسلوكه، بـ”الجيل المأزوم” في حين استقبل هذا الجيل طوال السنوات العشرين الاخيرة بارتياح وتفاعل واحتضان (واضطراب) عاصفة الاسلام الجهادي المسلح، ومشروع تدمير الغرب، وبلغ ذروة حماسته لها عندما استيقظ على هول الهجوم على مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من ايلول 2001 فقد حظي هذا العمل الارهابي غير المسبوق بجرأته، ودقة توقيته وتنفيذه، باعتزاز وفخر الشرائح المنبوذة من هذا الجيل، ودفع الكثير من افراده الى الانخراط في نشاطات عنف وجهاد دموية وهمجية.
وشاءت المفارقات السوداء، ان ترينا كيف انبرت جماعات قومية ويسارية في الشرق الاوسط الى الترحيب بهذا التحول، فيما عكفت مراكز لها (واقنية اعلامية نافذة)على وضع هذا التحول في اطار كفاح الشعوب ضد الامبريالية، دون ان ترصد كفاية (ولا تريد ان ترصد) طابع الردة الحضارية والفكرية والاجرامية لهذا المشروع، كما شاء حظ العراق ان تكون اراضيه الميدان المناسب لتطبيقات حركة الردة هذه، بكل سبل تدمير الحياة والمدنية، فيما المفارقة الاكثر سوادا هنا نراها في الزعم بان هذا الجهاد المسلح التدميري كان هدفه طرد الاحتلال والحكم الطائفي، فيما هو ادام الاحتلال وكرس الطابع الطائفي للمشهد السياسي.
على ان الرسالة الصادقة والوجدانية التي وجهها الى الاعلام والد زوجة الارهابي تيمور صديقي المهندس الدكتور علي ثويني قد تكون وثيقة تحليلية مهمة للباحثين، ومفتاحا لكشف (وتفكيك) بعض خلفيات الانحراف الذي انقذف اليه بعض ابناء جيل المهاجرين، الشرقيين بخاصة، وقد تنفع في تهجئ هذا "السحر" الهمجي الذي يوقع بفتيان وفتيات في غفلة التواطؤ مع مشروع الردة.
واحسب اني "امون" على الصديق ثويني، وعلى القراء، فاعرض عليهم مقتطفات ضافية من الرسالة، رفدا لمحطتين سابقتين توقفت خلالهما على جوانب من "التباس" تحول ابناء الجاليات الى العنف الاسلامي الاعمى، واحتاج الى التأكيد مرة اخرى على صدق الجمرة التي تقف وراء هذه الكلمات.. يقول:
" أن كل ما حدث أمر شخصي يتعلق بمارق مسجى على الجرم، ومغرِر به من جهات مجهولة، والأهم أنه جاحد لجميل بلده السويد، الذي آوانا وأحسن وفادتنا، وقدم لنا ما لم يقدمه عرب وعجم ، مسلمون وغير مسلمين! لذا أعلن من منبركم هذا أن علاقتي به وحتى مع أهله قد انقطعت بشكل نهائي منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم نعد نسمع عنهم شيئا، غير شحيح الوصل الهاتفي مع ابنتي منى التي مكثت مغررا بها ولا علاقة لها بأي أمر، وعوملت مثل (أمة أو جارية) كما يراد لها بعقلية السلفيين الإسلاميين، فلم تعلم عن تحرك زوجها المجرم ولا نواياه المستترة ولا المعلنة ولا أهدافه المستترة ولم يخبرها عن خصوصياته وعلاقاته وسفرياته المشبوهة".
ويعرض موقف ابنته، منى، زوجة الارهابي المجرم، بالقول: "كانت تخشاه وتشكك في تحركاته، وتتحاشى الافتضاح وتنحى نحو التستر، والمهادنة، مما سبب لها إشكالات ومماحكات أقتربت من القطيعة أحيانا، جعله يرغب في تركها والاقتران بـ(أخرى) تكون مطواعة ومجردة من الوعي الذي تتمتع به ابنتي التي تعلمت في أحسن المدارس وأرقاها ونهلت من الثقافات الفرنسية والسويدية والإنكليزية وأتقنت ست لغات من ضمنها العربية، وهي في نهاية المطاف قد حصلت على شهادة الماجستير في إختصاصها، علم النفس التربوي".
ثم يلفت النظر الى ما هو اكثر خطورة في هذه الفجيعة التي المّت بابنته الطيبة، وذلك ما تعلق بالجيل الشاب من المهاجرين الذين يتوقدون حماسا وتترشح بعض شحنات هذا الحماس الى التطرف الديني.. يقول "وهكذا أتمنى على سلطات المهجر توجيه هذا الحماس نحو الإندماج السلمي والإيجابي بعيدا عن الإزدراء و الإحتواء والتهميش والعنصرية، الذي وضعوه فيه على جريرة ما وضعونا نحن فيه الجيل المهاجر الأول" ويدوس على مكابدته حين ينظر الى جسد الانتحاري السائر الى "لحده المخزي" دون ان تأخذه شفقة على مصيرة او مصير ابنته "بل بالعكس أعده إطلاق حرية لابنتي من براثن التغرير وعملية غسل الدماغ والترهيب من نقمة الله من خلال مفاهيم دينية بائدة".

ـــــــــــــــ
كلام مفيد
ـــــــــــــــ
"
هؤلاء عبادك قد أجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وقربا اليك"
                                                        الحلاج

 

free web counter