| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبد المنعم الأعسم

mm14mm@yahoo.com

 

 

 

الأربعاء 14/4/ 2010

 

بعد السقوط..
ما الذي سقط؟ وما الذي لم يسقط؟

عبد المنعم الاعسم 

نعم، سقط رجل مستبد من علياء السلطة الى المزبلة، ففي التاسع من ابريل 2003 كان موعده مع نهاية الشوط، أو كما قال مندوبه لدى الامم المتحدة محمد الدوري آنذاك: "انتهت اللعبة" وهو تعبير يجمع بين الذهول الذي عم العالم حيال هذه الحرب التي حطت ركابها في ساحة تحرير بغداد ، وبين التسليم لزمن قاهر لا يعود الى الوراء، مثل اي حالة موت.
كان سقوط الرجل مدويا، في الزمان والمكان، وكان سيكون اكثر دويا واثرا لولا تلك المراهقات السياسية للكثير السياسيين القابضين على سلطة ما بعد السقوط، ولولا نعرات التشفي والانتقام الطائفية وسلسلة المحاكمات، هابطة المضمون والاداء والمستوى، ولولا "خربطات" برايمر ونزقه، وتخبطات جيش الدولة الغازية، وكل ذلك ترك لـ"ساقط" هامشا يلعب فيه برهاوة، هو، ليعيد تركيب الهزيمة الشنعاء التي مني بها باقل كلفة من الصفاقة، وغيره، لكي يحاولوا احياء ارث عتيق من النحيب على الاطلال وعلى ضياع الاندلس، ثم ليجعلوا منه ذكرى آسفة، او عنوانا لاعادة عقارب التاريخ الى الوراء.
لم يكن صدام حسين يتصرف، ولا لمرة واحدة، انه سيترجل عن السلطة، بل انه لم يكن يعتقد ان قوة على الارض بمقدورها القائه خارج اللعبة، وقد عبر عن هذا الوهم القاتل في ما لا حصر له من المواقف، فعدا عن الاف النصب والجداريات التي انتشرت في ساحات بغداد والمدن العراقية وحرصت على "تخليد القائد" فانه دس اسمه، صريحا او مؤشرا له، في رقائق وزخارف واحجار دينية وآثارية ترفعه الى مصاف الانبياء، وتختزله الى اية سرمدية من آيات الكون، ولنقف سريعا عند "جامع ام المعارك" الذي تركه "على العظم" فالمنارات اشبه براجمات الصواريخ، على ارتفاع 43 مترا بعدد ايام القصف الجوي في حرب الكويت فيما عدد المنارات الداخلية الاربع تشير الى شهر ولادته (نيسان) وارتفاعها البالغ 37 مترا يؤرخ العام الذي ولد فيه، فيما الفسقيات البالغ عددها 28 فسقية فهي يوم ميلاده، وهكذا اختصر هذا البناء الذي شاء له ان يكون اكبر جامع في العالم الى مفردة تشكيلية تتحدى القدر، وتنتصر عليه.
عندما سئل عدي، ولده، مرة من مراسل اجنبي عن رأيه في "خلافة الوالد" ضحك استهزاءا من عقل المراسل، قائلا: عمره طويل، وعندما كان يزور العتبات المقدسة كان يحرص على سماع رواية انه من سلالة النبي، وفي التاريخ كان الاسكندر الكبير قد فرض على الكهنة الاعلان عن كونه ابنا للالهة زيوس.

ان الكثير من المتابعين لسقوط نظام صدام حسين اعتقدوا ان احدا من العراقيين لن ياسف على رحيل ذلك العهد الذي ترك من الذنوب والخطايا بحقهم ما لا يستحق الاسف، بل اقله الازدراء ، كما اعتقد البعض منهم (في الغرب بخاصة) بان الطبقة السياسية الجديدة التي تصدرت الحكم منذ التاسع من نيسان قبل سبع سنوات ستأخذ العبر من نتائج تشبث صدام بالسلطة، وتهميش المعارضين والشرائح المتذمرة، غير ان الصراحة والموضوعية تلزمان القول ان تلك الفرضيات لم تتحقق على الارض، إذ اكتوت شرائح آمنة بعواصف الغبار الطائفية وبتردي الخدمات وانعدام الامن والاستقرار ودفعَ العشرات من الالوف من العائلات ثمنا باهضا من التضحيات والتنكيل في مجرى انتشار الاعمال الارهابية والاستئصال الطائفي الامر الذي جعل الكثيرين يحنون الى العهد السابق بالرغم من مساوئه الوفيرة.
من جانب آخر كرر الكثير من السياسيين واصحاب القرار ممارسات صدام حسين وطريقته في ادارة الشؤون العامة والاستئثار بالسلطة والتصرف بالمال العام، بل واهداره، وتكوين البطانات والحبربشية من ابناء القرية والعشيرة، فضلا عن التعالي على المواطن، ومخاطبته من وراء حزام الحراسات السميك، والصارم، وينبغي ان نضيف الى هذه الحقائق حقيقة اخرى لا تقل اهمية وخطورة وتتمثل في إبقاء الغالبية الساحقة من القوانين التي اصدرها صدام حسين، والتي شكلت قيدا على حياة الملايين العراقية بما اتسمت به من زجر وكيفية.
في هذه المفارقة التاريخية، وتناقضاتها وفجاجاتها، بدا ان الدكتاتور صدام حسين سقط ولم يسقط .. سقط، كنظام سياسي لا رجعة له، لكنه استمر في جانبين،الاول، في ما يتعلق بانصار واتباع بقوا ينفخون في "امل" انهيار التغيير وعودة السلطة اليهم، والثاني، استمرار فن الحكم الصدامي في الممارسات والاساليب والاخلاقيات وقواعد الحكم، وحتى في اضراب الرؤيا للعلاقات مع العالم والدول المجاورة.
على ان التطبيقات الكيفية والطائفية والمضطربة لاجتثاث البعث واستهداف بعض الاجراءات خصوما سياسيين خلقت هي الاخرى اجواء يستطيع معها غلاة المجرمين في العهد السابق يظهرون كما لو انهم ضحايا لنزعة الانتقام وشفاء الغليل، الامر الذي اضاف تعقيدا لمسار التغيير، ووضع منجزاته في مهب الريح، وطرح سؤالا وجيها على الوجه التالي: ما الفرق بين هذه الاجراءات الاستئصالية واجراءات صدام حسين التي لاحقت المعارضين، واجتثت ارادة الشعب ايضا؟.
في نهاية الامر هُزم البعثيون، لكن البعث لم يُهزم. هذا وجه آخر من المعادلة التي تسقيم تماما مع الحقيقة حين نؤكد بان البعثيين المعنيين هم اصحاب خط صدام حسين ، وان البعث الذي نخصه هنا هو البعث الصدامي الذي حكم العراق بعد العام 1968فان قرارات الاجتثاث شملت قادة وكوادر واعضاء الحزب الحاكم سابقا، وعبَرت من فوق منهج وثقافة وسلوك البعث في التجييش والاستفراد بالسلطة وهوس الشعارات وقهر واخضاع ارادة الملايين (والخوف منها) ورهنها في سجون "مصلحة الامة" او "المعركة القومية" وغيرهما.
يلزم ان نذكر ان التجربة الالمانية في "اجتثاث" الحزب النازي، وهو لا يختلف كثيرا عن حزب صدام، كانت ستنفع في التعامل مع قضية حزب البعث، إذ اُعلن هناك عن عفو عام عما يزيد عن عشرين مليون من اعضاء الحزب النازي ممن لم يرتكبوا اعمالا جرمية بحق المدنيين، واقتصر القصاص على 700 من كوادر وقيادات الحزب، فقط، بواسطة محكمة نورنبيرغ الخاصة، ودون المساس بحقوق عائلاتهم، فيما وضعت خطة تربوية وسياسية منهجية، وطويلة الامد، لمعافاة جيل الماني كامل من ثقافة الكراهية والتجييش والشوفينية البغيضة، وقد استمرت الحملة التي شارك فيها خبراء ومختصون وعسكريون سابقون وقسس واكاديميون حوالي خمسين سنة، واتسمت بالصبر والعلاج الجسماني والفكري والسايكولوجي، من دون عزل او محاربة في العيش او حجر او تنكيل.
من زاوية معينة بدا لبعض الشرائح السياسية والطائفية الجديدة التي تصدرت المسرح السياسي بعد التغيير ان مشكلتها مع النظام السابق ليست سلوكية في جوهرها، بل هي من النوع الذي يتصل بالصراع على السلطة، وإحلال عشرات الالوف من الاتباع، وبأدوات طائفية، محل موظفين خدموا نظام الحزب الواحد، ولوحظ ان منطقة ما شهدت انتقالا شفافا لشبيبة البعث الصدامي نحو تشكيلات محلية مسلحة دون ان تشعر بغربة الشعارات السياسية الجديدة التي تقاتل تحتها.
/والذي لم يسقط هنا، حقا، هو الرغبة الحقيقية لبعض الفئات الدينية النافذة في تفكيك الاثار السياسية والسايكولوجية والثقافية لهيمنة الحزب الواحد على الحياة العامة ومصائر الملايين العراقية، واحسب ان سبب الهروب من هذه المسؤولية يعود الى الخشية من دمقرطة المجتمع التي، وحدها، تهئ المناخ لشفاء الاجيال العراقية من لوثة عبادة الطاغية، ومن دونها يستحيل خلق مجتمع متوازن وسلام اهلي وطيد، هذا عدا عن الشراكة، غير الخافية، في الاعجاب الضمني بحكم الفرد والسعي بمختلف الاساليب الى فرض هذا الحكم، وفي تقويم السنوات السبع الفائتة امثلة حية(وقل معارك طاحنة) لنزعة الاستفراد بالحكم.
في المحصلة، لا اعرف متى سيأتي اليوم الذي سنراجع فيه حقبة صدام حسين بموضوعية، على قاعدة ما له وما عليه.. ما ينبغي ان يسقط ويُحتقر ويدان من جرائم وسياسات ونهج وحروب وثقافة وحملات انفال وعقاب جماعي وتمييز وفن حكم، وما ينبغي ان يبقى ويحافظ عليه من تشريعات وبنايات وشوارع وسبل ادارة وبعض اجراءات الردع ضد العصابات والفاسدين والتجاوزعلى القوانين؟.
احسب ان الشق الاول من المعادلة ذي الصلة بذنوب صدام حسين ومخلفاته الدكتاتورية الاجرامية تحققَ بطريقة شابها الكثير من الانفعال والانتقائية والخلط وانعدام التحسب القانوني وضعف البينات والتهم وعجالة الاحكام، بعيدا عن التدقيق الاحترافي الصبور في الخطايا المتوارثة، وتشخيص نوعية الجرائم وحماية المساءلة من شبهة الطائفية وشفاء الغليل، الامر اذي اضر بالصورة الجاهزة عن معاناة العراقيين في ظل نظام البطش والشوفينية والعدوان.
وكان الحساب سيكون اكثر تطابقا مع قواعد الحق، والقصاص اكثر عدالة، لو ان الحكم على عهد صدام حسين وعليه شخصيا جرى من قبل عقول حكيمة وفي سياق من التمعن والاحتساب وتقدير ردود الافعال، بل وسيكون ذلك في صالح عهد الدولة الجديدة التي كانت احوج ما تكون الى الصبر في بناء العهد والنفوس والقيم الجديدة، بدل ان تصنع من الطاغية مفردة محرجة تستخدمها ضد العراق منظمات العفو وحقوق الانسان سوية مع حكومات وفئات منبوذة ومطلوبة هي الاخرى القصاص.
وإذ حدث ما حدث، فان الهجمة الارهابية، وحرب الردة، وثقل الوجود العشكري الاجنبي، وطوال السنوات السبع العجاف، حالت جميعها دون اعادة ترتيب قواعد الحساب والمساءلة على نحو بنّاء ومتكامل وخال من الفجوات، وفاقمها ايضا الصراع الفئوي الذي رهن الحساب والمساءلة في السباق على السلطة ومحاولات تسقيط الخصوم او إضعاف سلطة القرار، وانشغلت الطبقةالسياسية في سلسلة مديدة من التجاذبات حول حدود القصاص "والاجتثاث" الذي ينبغي ان ينزل بـ"من لطخت اياديهم"
وفي هذه الحمية، صار الحديث عن وجود مفردات "ايجابية" للعهد السابق ينبغي حمايتها، هنا وهناك، بمثابة مغامرة قد تكلف صاحبها الحساب، او العقاب، او العزل، بالرغم من ان المراقب يمكن ان يعدد الكثير من تلك المفردات التي دخلت في اقنية البناء الجديد للدولة، بل ان بعضها الكثير صار يُستثمر من مرافق وفعاليات وتكيات، تذكرنا بالسمك "الماكول والمذموم" في الامثال الشعبية، ولو لم تكن رسالة هذه الكلمة التحريض على الوعي الجديد لأوردنا المعنيين بالاسماء.
بكلمة، فان العراق الجديد، لا يعني، ان كل شئ فيه من اختراع التاسع من نيسان، ولا يعني (وهو المهم) ان كل ما توارثناه جذام.

ـــــــــــــــ
كلام مفيد
ـــــــــــــــ
"اذا لم تعلم الى اين تذهب فكل الطرق تفى بالغرض
"
                                                           مجهول
 

جريدة (الاتحاد) بغداد

 

free web counter