| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. مؤيد عبدالستار

muayed1@maktoob.com

 

 

 

الجمعة 8/7/ 2011

 

اوراق الغربة (2)

ليبيا اخر المحطات العربية  .... وجها لوجه مع القذافي *

د. مؤيد عبد الستار

خلال العامين اللذين قضيتهما في ليبيا حظيت بلقاء الشاعر الكبير مظفر النواب ، كما استمتعت باللقاء الذي قدمه التلفزيون الليبي مع الشاعر الكبير الجواهري خلال زيارته الى طرابلس لاستلام جائزة القذافي عام 1989 التي أعد لها احتفالا كبيرا ، قدم فيه الجواهري احدى قصائده مع ان الجائزة فقدت قيمتها المعنوية  ، لانها منحت الى عدد كبير من الشخصيات العربية والعالمية ففقدت بريقها ، وقد ذكر ذلك صراحة الاديب الليبي المعروف علي المصراتي في جلسة خاصة جمعتنا معه . ومن حسن الصدف كنت قد تعرفت على الاديب علي المصراتي في الجزائر حين كنت ادرس في معهد اللغة العربية في تيزي اوزو عاصمة بلاد القبائل – الامازيغ – اذ دعي الى ملتقى ادب الثورة الجزائرية الذي اقامته جامعة تيزي اوز ، فكان هو من بين المدعويين ، لذلك حين عملت في ليبيا زرته مرة او مرتين وتجاذبنا اطراف الحديث فيما يخص شؤون السياسة والادب ، كان اديبا حاضر البديهة نهل من منابع الثقافة العربية ومتحدثا لبقا وجريئا في طروحاته .

ومن الادباء الذين التقيتهم في طرابلس الدكتور علي خشيم ، وكان استاذا ورئيس قسم في جامعة طرابلس .

كانت زيارة الجواهري الى طرابلس  فرصة للقاء به ولكني لم اكن اعرف الفندق الذي نزل فيه، بينما استطاع بعض الزملاء  الظفر بلقاء معه على عجالة لعدم وجود اي تخطيط او جدول زيارات لمثل هذه الفعاليات في ليبيا ، كل شئ يعتمد على الصدفة ، وقد اخبرني بعض الزملاء انهم التقوا الجواهري في لقاء سريع على غير موعد .

  اما المرة الاولى التي زرت فيها الجواهري فكانت  في دمشق ، حين زرت زميلي د. كفاح الجواهري عام 1987  في قصر السبكي الذي خصصته سوريا لاقامة الجواهري واسرته  في  دمشق،  ولكن الجواهري كان مسافرا خارج سوريا فلم اتشرف بلقائه .

بعد اسبوع من وصولي من الجزائر الى ليبيا  عام  1988 وخلال اقامتي في الفندق لم اجد فسحة لقضاء اوقات الفراغ سوى مقهى تابع للفندق المطل على البحر ، مقهى صيفي كبير ، يلتقي فيه الوافدون والعاملون المقيمون في العاصمة طرابلس مساء كل يوم ، يتبادلون الاخبار وشرب  اقداح الشاي  الاسود الملئ بالفول السوداني . لم اكن اعتدت على شاي طرابلس وهو لا يقارن بالمذاق الطيب للشاي المغربي الاخضر مع النعناع.

ام كلثوم تصدح بصوتها  الصداح  : الاطلال ، انت عمري ، سيرة الحب ...  لمسة طرب شرقية اكثر منها شمال افريقية ، خليط من المصريين والعراقيين والسوريين والسودانيين ... يتبادلون اخبار بلدانهم التي لم يجدوا فيها مكانا يأويهم او ينتمون اليه ، لاسباب اقتصادية او سياسية، اجتمعوا ليلا في هذه المقهى على البحر المتوسط في الشمال الافريقي القاحل من كل شيء.

 انتقلت من الجزائر الى ليبيا وكان العديد من العراقيين يقيمون ويعملون فيها منذ سنوات  ، حصلوا على فرص عمل في مجالات مختلفة اهمها التعليم والمعاهد الصناعية والمستشفيات ، معظمهم ترك العراق  بسبب الحرب العراقية الايرانية ، ومنهم من اكمل دراسته في البلدان الاوربية ، وعلى الاخص في اوربا الشرقية وروسيا وفضلوا عدم العودة الى الوطن .

ابو امير عرفته  في الجزائر ، كان  يعمل في جامعة تلمسان،  انتهى عقد عمله في الجزائر وغادر الى اوكرانيا قبل عامين ، التقيت به هنا في المقهى :

-         كيف الاحوال ابو امير ، هل تقدمت بطلب عمل  ؟

-         نعم وانا في انتظار الموافقة .

ابو امير متخرج من جامعات اوكرانيا ، تزوج هناك من روسية ، عمل في الجزائر وغادر عائدا الى اوكرانيا عند انتهاء عقد عمله في الجزائر، بعد قضاء عامين في اوكرانيا جاء الى ليبيا بحثا عن فرصة عمل لان الوضع الاقتصادي  في اوكرانيا لا يشجع على البقاء هناك بسبب بدء تفكك الاتحاد السوفيتي  ، وهو لا يستطيع العودة الى العراق لانه  معارض للسلطة.

بعد ايام التقيته في نفس المقهى ، اخبرته عن حصولي على عقد عمل في جامعة ناصر .سـألته عن امره ، فاجابني ساخرا:

-         عزيزي اذا شهادتي مختومة بـ ( جاكوج ومنجل )  بهذا الحجم – واشار راسما دائرة كبيرة باصابع يديه  - فكيف احصل على فرصة عمل  !!

-         وما ذا ستعمل ؟

-         ساعود الى اوكرانيا ، لا مجال هنا .

بعد قضائي اربعة اعوام من العمل في جامعة تيزي اوزو  وبسبب الازمة الاقتصادية التي عصفت بالجزائر  اواسط الثمانينات ، اخذت الحكومة تقلص وتلغي عقود عمل الاجانب العاملين في الجامعات في محاولة لاحلال الخريجين الجزائريين بدلا من  المتعاقدين العرب والاجانب من اجل تقليص ميزانية المدفوعات من العملة الصعبة الدوفيز  ( استعاروا الكلمة من الفرنسية ).

الدوفيز  كان حلم كل جزائري ، لان العملة المحلية كانت غير ذات قيمة في الخارج .

سبقني   العديد من الزملاء  في مغادرة الجزائر قبل او بعد انتهاء عقودعملهم ، اغلبهم غادروا نحو بلدان اللجوء مثل كندا وبريطانيا وهولندا والمانيا والسويد .

حصلت على تاشيرة دخول الى بريطانيا من السفارة البريطانية في الجزائر واشتريت تذاكر سفر الى لندن . تهيأت للمغادرة والسفر الى بريطانيا .

قبل ان نغادر الى بريطانيا انا وزوجتي بايام قليلة  – وكان قد مضى على زواجنا عام واحد فقط – اخبرني أحد الزملاء اللذين عادوا  للتو من ليبيا ، بان هناك حاجة للاساتذة في جامعات ليبيا، وان الاجواء الشرقية الجميلة وكثرة العاملين العرب والعراقيين تجعلك لا تشعر بالغربة التي يشعر بها الانسان في البلدان الاوربية  التي تتميز ببرودة الطقس والعزلة .

 واضاف :  في ليبيا الشمس مشرقة  اغلب ايام السنة ويحظى العراقيون باحترام كبير.

قررت السفر الى ليبيا بحثا عن فرصة عمل جديدة هناك ، فالغيت سفري الى بريطانيا وسافرت الى طرابلس ، عام 1988.

وصلت طرابلس مع بعض الكتب وحقيبة ملابس والة كاتبة يدوية من نوع بروذر يابانية اشتريتها في الجزائر بما يقابل مائة دولار، كانت الة نادرة في العالم العربي ويصعب الحصول عليها .

 ذهبت لابحث عن غرفة في أحد الفنادق وهي قليلة  فلم اجد مكانا.

 بعد جهد كبير حصلت على غرفة في فندق يتميز بغلاء اسعاره قريب من البحر في العاصمة طرابلس .

اصر صاحب الفندق على ان اضع التأمينات  بالدينار الليبي ورفض ما قدمته من عملة اجنبية معي ، ولم يكن في الفندق بنك لتصريف العملات ، اتصلت  بالصديق  ابي فراس هاتفيا ، لحسن الحظ كان لديه هاتف بمنزله لانه ممثل لمنظمة عربية في طرابلس، جاء وقدم التامينات مشكورا لادارة الفندق ، فحصلت على غرفة .

لاحظت عدم وجود مطاعم في المدينة  فاضطررت الى تناول الطعام  في مطعم الفندق يوميا، مما ولد لدي السأم من الطعام الذي كان غالبا من الدجاج المشوي حتى علق احد الظرفاء باننا سنصبح – واوية / بنات اوى -  بسبب اكل الدجاج المستمر .

خلال الشهر الاول من اقامتي حصلت على عقد عمل في جامعة ناصر وهي ضمن جامعة الفاتح في طرابلس ، وبسبب عدم توفر السكن عقدت الجامعة اتفاقا مع الفندق كي نقيم فيه  انا واسرتي الصغيرة  – رزقنا ولدا خلال تلك السنة – .

يقيم الشاعر مظفر النواب في طرابلس ، ولكنه يقضي أغلب ايام السنة في دمشق . كان اشهر عراقي في ليبيا ، وكانت اشعاره وقصائده التحريضية السياسية التي تتلاءم وتطلعات ليبيا تذاع من الاذاعة الليبية  باعتبارها  بلد الثورة العالمية .

كنت من المعجبين بشعر النواب مثل أغلب أبناء جيلي ، فقد تعرفت على اشعاره اواسط الستينات ، حين كانت تردنا قصائده المدهشة من سجن العمارة ، وتوزع بين الشباب ، ثم اشتهرت قصائده في السبعينات مثل  حن وانا احن ، وقصيدة للريل و حمد .

ظلت قصائده الشهيرة من ديوان للريل وحمد  مثار اعجاب ونقاش بين الشباب  قبل صدورها في  ديوان، كانت تتداول سرا رغم خروج النواب من العراق ، واذكر اني قبل مغادرتي بغداد  عام 1979 استعرت ديوان للريل وحمد من احد زملائي واستنسخته في ليلة واحدة في دفتر خاص واعدت الكتاب اليه ليرافقني  الدفتر  في سفرتي التي غادرت  فيها الى الهند .

في ليبيا تجد كل شيء يدور حول الكتاب الاخضر ، اصبح  اشبه بدستور للبلاد ، او قل اشبه بانجيل الشعب الليبي  المجبر على الايمان به ومناقشته ليل نهار،  رغم ان افكاره عجيبة غريبة مثل مقولة( السود سيسودون العالم ) او (التمثيل تدجيل ) او  ( الدجاجة تبيض والدينار لا يبيض ) وقس على ذلك من تخريف ، وهو نقل مشوه لافكار وفلسفات مختلفة ، و فهم ساذج  للاقتصاد ودور النقد ، لانه ينظر بعين المنتج الامي الذي لا يرى دور النقد في الاقتصاد العالمي ولايعرف غير التبادل البضاعي البدائي ولا يعلم ان الدينار قوة اقتصادية تستطيع انتاج البيض من خلال توظيف النقد في دورة الانتاج  الاقتصادية الزراعية .

 تميزت  افكار القذافي  بالامية والجهل وهو  يحاول فرضها على ليبيا لانه القائد الاوحد الذي اتخذ لقب المعلم والقائد المفكر ليهيمن على المجتمع الليبي ، فاصبح مثار سخرية القاصي والداني في ليبيا وخارجها. وكانت الكثير من النكات شائعة على الالسن تسخر من مقولاته وافكاره الغريبة.

اينما ذهبت تصطدم بمقولات الكتاب الاخضر ، فعلى سبيل المثال تقرأ  شعارات مستلة منه على لافتات الطرق السريعة  بدلا من اسماء المناطق ، مثلا بدلا من لافتة تدل على مدينة الزاوية تقرأ سطرا من عبارات الكتاب الاخضر وعليك معرفة ان تلك العبارات  تعني الشارع الذي يقودك الى  مدينة الزاوية حين تريد الخروج من الطريق السريعة  ،  وحين سألت عن سبب ذلك قالوا ان هذه الشعارات كتبت بدلا من اسماء المناطق كي لا يعرف المهاجمون اذا هاجموا ليبيا الطريق الى مبتغاهم ، ستضللهم  بدلا من ارشادهم الى مناطق العاصمة طرابلس . بمثل هذه السذاجة يحاولون الضحك على  عقول الناس .لايعلمون ان الاجهزة الحديثة الموجودة في الطائرات  والسيارات تستطيع الاستدلال على اية  نقطة بموجب برنامج علمي يعتمد على الاحداثيات الجغرافية والاجهزة المتطورة والاقمار الصناعية.

 كانوا يحاولون ايضا التمويه بكتابة اسماء وهمية للمؤسسات لتضليل الاعداء فيما اذا هاجموا ليبيا ، كان احد زملائنا من المهندسيين العراقيين يعمل مع الخبراء الروس في مؤسسة نووية بدائية تقع  في تاجوراء قرب العاصمة طرابلس ، كتبت الادارة على اللافتة الدالة على المؤسسة النووية : ثانوية الصناعة والتدريب المهني ....!!   .

 بعد أشهر قليلة  حصلت على شقة صغيرة في الحي الجامعي في مساكن تسمى العمارات الايطالية ، وهي بنايات تتكون من اربعة طوابق ، مشيدة من مواد حديثة على طريقة الابنية الجاهزة الرخيصة  ، شققها صغيرة مزودة بمكيفات هواء – اركندشن – تساعد على تخفيف حرارة الصيف اللاهب.

الغريب ان الماء الصالح للشرب لم يكن متوفرا في البيوت  ، كنا نضطر الى جلبه من مزارع قريبة .

في الجماهيرية الليبية العظمى  تواجهك مختلف المشاكل اليومية ، على سبيل المثال لا توجد محلات لبيع المواد الغذائية ، فاذا احتجت الى السكر عليك انتظار توزيعه من قبل الجمعية الاستهلاكية ، وحين يتوفر في الجمعية عليك ان تشتري  كيسا كبيرا ، لذلك كنا نشتريه ونقتسمه مع بعضنا ، فماذا نصنع بعشرين كيلو سكر .

هناك مشكلة الخبز ايضا، فهو غير متوفر الا في اوقات معينة وفي افران قليلة محدودة ...واغلب الخبازين كانوا من تونس او مصر .

كما يعاني الناس من صعوبة المواصلات ، فلا وجود لشبكة نقل سريعة داخل المدينة ، وبدلا عن ذلك تتوفر سيارات الاجرة التاكسي ، وتقرأ في محطات الوقوف شعرات  تثير السخرية مثل:  المركوب حاجة ضرورية ....الخ .

غالبا ما تعرض البضائع المستوردة في سوق كبير  يسمى سوق الجماهيرية ، وهو سوبرماركت عصري البناء ولكنه لا يحتوي على الموادالضرورية التي يحتاجها المواطن ، وحين ترد البضائع يهجم عليها الناس ولا تعرف كيف تحصل على ما يُعرض لسرعة نهبه من قبل طوابير الناس التي تشتري اي شيئ يقع تحت ايديها بسبب النقص الكبير في البضائع الضرورية .

اما خطوط الهاتف فتلك لوحدها بحاجة الى فصل ساخر ، لعدم توفر الهواتف في المدينة عدا مركز حكومي للبدالة  وسط المدينة ، عليك ان تسلم هويتك والرقم الذي تطلبه وتجلس في قاعة الانتظار حتى ينادي عليك الموظف المسؤول ويصلك بالهاتف المطلوب .... بمثل تلك الاساليب البالية يحاولون الحفاظ على كراسيهم .

اما الكتب والمنشورات فليس لها سوى بعض المكتبات الفقيرة في العاصمة طرابلس ، وحين نظمت جامعة الفاتح معرضا للكتب كانت اغلبها كتب عامة جلبت من المكتبات المصرية.

رغم الشواطئ الممتدة على مساحة تزيد على الالف كيلومتر على البحر المتوسط ، الا انه يصعب العثور على بلاج تستطيع السباحة فيه ويتعذر على الاسر  السباحة صيفا في بلاج على البحر.

 كان لنا بعض الزملاء من خريجي الاتحاد السوفيتي يعملون مع الخبراء الروس في بعض المشاريع ، اقاموا  بلاجا بسيطا مسيجا بالخشب على الساحل قرب طرابلس ، كنا احيانا نذهب للسباحة معهم هناك  ، لذلك لا توجد اية  افاق للسياحة في ليبيا رغم رمالها الذهبية وساحلها الجميل المقابل للسواحل اليونانية والايطالية .

ظهر أحد الايام كنت اتجول في احدى الحدائق قرب ساحل البحر في طرابلس ، كانت فيها مقهى صغيرة ، التقيت  الشاعر مظفر النواب هناك ، جلست معه وتحدثنا ،اذكر  سألته عن ديوانه الذي طبع في الاردن فاخبرني انه غير راض عنه لانه طبع دون ان يراجعه و فيه سقطات و اخطاء كثيرة ، كما اخبرني انه سيقدم امسية  شعرية في جامعة الفاتح .

 حضرت تلك الامسية بعد ايام ، قرأ فيها النواب قصائد مختارة من شعره . كانت قاعة الجامعة تغص بالعراقيين والعرب ، واذكر انه قرأ قصائد مؤثرة ، وشيقة ، من بينها قصيدة بائع الفرارات .. التي اداها بروح تعبيرية كبيرة مثلما تغنى ببعض قصائده فكانت ندوة رائعة.

ومن عجيب الصدف اني التقيت به في السويد بعد حوالي عشرة اعوام  في ندوة وقراءات شعرية قدمها في مدينة لوند جنوب السويد .

ومن الشخصيات السياسية التي التقيت بها في ليبيا السياسي الراحل صالح دكلة ، زار طرابلس عام 1990 ، تجولنا  بعض الوقت معا في طرابلس ، غادر بعدها الى دمشق ، وفيما بعد التقيته في لندن عدة مرات خلال عقد التسعينات قبل رحيله الابدي  رحمه الله .

عام 1989 حدث توتر شديد  مع امريكا جراء سقوط طائرة لوكربي ، هددت امريكا بقصف ليبيا وتهيأت الطائرات وسادت لغة التهديد حتى ان سكان طرابلس عاشوا في هلع طيلة اسبوعين ، وكانوا يعجبون منا حين نأتي الى الجامعة دون خوف ، لذلك كانوا يسألوننا باستغراب قائلين : انتم العراقيون ألا تخافون من قصف الطائرات ؟ ويستدركون ليضيفوا : آه ... لقد خبرتم الحرب مع ايران ... لذلك لاتخافون!!!

كان الليبيون يتهيأون للحرب على طريقتهم الخاصة ، يحاولون خزن ما يستطيعون من مواد غذائية والحصول على اكبر كمية من بنزين السيارات  كي يغادروا الى الصحراء ان  قصفت طرابلس ، لانهم خبروا القصف سابقا عام 1986 حين امر الرئيس الامريكي ريغان قصف ليبيا ، وبالذات العاصمة طرابلس بشكل كثيف ، فاضطروا للهرب الى الصحراء  دون تخطيط فاصيب الكثير منهم جراء حوادث اصطدام السيارات ببعضها .

كان الرعب والخوف من قصف الطائرات المتوقع يخيم على الناس في طرابلس .

باشرت العمل في جامعة ناصر / كلية الاداب ، وكانت الايام تحمل لنا غرائب العيش في ليبيا ، ولكن وجود الخبراء الروس خفف عنا بعض العبء في الحياة اليومية الرتيبة ، والحرمان الذي فرضه القائد الاوحد على الشعب الليبي ، فلا تكاد تجد اي مظهر من مظاهر التقدم والحياة العصرية ، مثلا لا توجد دور سينما ، ولا توجد ملاعب  كرة قدم ، ولا توجد دار اوبرا او مسرح ، سوى قاعات للاجتماعات لاتنعقد فيها سوى الندوات البائسة، اجتماعات اللجان الثورية . هناك بعض البنايات المعدة لاغراض الاحتفالات  ولكنها غير مستغلة او تستغل حين الحاجة التي يقررها القائد .

احيانا تصحو صباحا فتجد اضرابا  حكوميا عاما مفاجئا ، وهو ماحدث يوما حين فتحت التلفزيون فلم اجد محطة بث التلفزيون الليبية ، ظننت ان عطلا ما اصاب التلفزيون ، ولكني حين بحثت عن محطات اخرى مثل المحطات الايطالية وجدتها تبث بشكل اعتيادي - طبعا تكرم علينا الخبراء الروس الذين يعملون في ليبيا باسرار الحصول على قنوات ايطاليا بواسطة ربط صينية من المعدن او لوح معدني بعد تخريمه بعدة ثقوب خلف – الهوائي/ الاريل  – واضافة تنراسستر او مقاومة معينة  الى الهوائي  يساعد على استلام القنوات الايطالية فنحصل على القنوات الايطالية احيانا ، وكنا نستمتع في قضاء بعض الاوقات مع البرامج الايطالية الجميلة بدلا من متابعة خطب القذافي الجوفاء المستمرة على التلفزيون الليبي .

علمنا فيما بعد ان انقطاع البث الليبي  حصل رسميا  لمناسبة مضت عليها اعوام طويلة ،وهي مناسبة نفي الليبيين الى ايطاليا ايام الاستعمار الايطالي ، وان ليبيا اعلنت الحداد على هؤلاء المنفيين بهذه المناسبة الاليمة وتطالب الكشف عن مصير المرحلين المنفيين الى ايطاليا وتعويض ليبيا عن ما جرى لهم بسبب النفي ، على اساس انهم خدموا كعبيد في المزارع الايطالية .

وهكذا كان القذافي يفتعل المناسبات ليشغل فيها الليبيين دون ان يكون جادا في الدفاع عن حقوقهم او تحقيق الرفاه لهم ، فرغم الثروة النفطية الكبيرة وقلة عدد نفوس ليبيا ، الا انهم يعيشون في فقر وبؤس وفاقة وحرمان من ابسط وسائل الحياة المعاصرة .

ليس مستغربا  ان لاتجد مغنيا اومغنية في ليبيا ، فلا يوجد شئ اسمه فن او فنون ، لقد قضى القائد المجنون على أية فرصة لتطور الفنون في ليبيا ، فلا غناء ولا رقص و لا فنون سوى اقوال وصور القائد والندوات التي يعقدها خبراء  قادمون من جميع اصقاع العالم للحديث عن الكتاب الاخضر ويرحلون وهم يحملون هداياهم من الدولارات.

حتى عندما يختارون فرقا من الدول الاخرى لمهرجان اواحتفال ما كمناسبة اعياد الفاتح من سبتمبر وهي اعياد الثورة ، فانهم يختارون فرقا لا حياة فيها ويجلبون من  الفنانين من اصبح طي النسيان ، لانهم لايريدون ان يعيش الشعب الليبي مثل بقية شعوب العالم في الحاضر وانما يجب عليه ان يبقى اسير الماضي والجهل والتخلف ليستطيع القذافي حكمه الى الابد.

احيانا يقدم التلفزيون الليبي حفلة ترقص فيها امرأة تضع البرقع على رأسها ليغطي وجهها والنصف الاعلى من جسدها ، ترقص تهز وسطها على قرع الدربكة في دائرة يتحلق حولها مجموعة من الشباب يصفقون ويدور عليهم رجل يحمل عصا بيده يبعدهم عن التقرب من المرأة الراقصة خوف التحرش بها .

من نافلة القول عدم وجود اية صناعة في ليبيا ، فالاشياء تستورد من جميع الدول ، وعليك مراجعة اسواق الفاتح من سبتمبر وهي اسواق كبيرة – سوبر ماركت – وسط العاصمة طرابلس غالبا ما تكون خالية من البضائع الضرورية وعليك انتظار قدوم الباخرة من ايطاليا محملة بالبضائع عسى ان تجد ما تريد .

اما اشهر شعار تسمعه في ليبيا فهو : طز ..طز  امريكا .. طز في الدولار ، تجده مكتوبا في كل مكان على الجدران ويتغنون به اما استهزاءً بالقذافي الذي اطلق هذا الشعار او لعدم وجود شعار اخر يستطيعون ترديده.

حتى الاشهر الليبية اخترع لها القذافي اسماء تربك المواطن ، لها اسماء مثل شهر الطير ، شهر جز الصوف ... الخ .

حين جئت الى ليبيا قادما من الجزائر كانت الحرب العراقية الايرانية قد توقفت ، فحاولت السفارة العراقية فتح قنوات مع العراقيين لتحسين صورة النظام ، قدمت السفارة التسهيلات في الجزائر وليبيا للعراقيين المعارضين مثل منح جوازات السفر وتسجيل ابناء المهاجرين العراقيين  في سجلات النفوس العراقية ومنح تاشيرات زيارة الى  الوطن ، ولم يكن ذلك دون تخطيط لاستدراج المواطنين الى حلبة النظام والحصول على معلومات عن العراقيين خارج الوطن ومعرفة ذويهم في الداخل كي يكونوا وسيلة ضغط عليهم في المستقبل ، وبالفعل حصل اغلب العراقيين على جوازات سفر جديدة ، وغامر البعض بالسفر الى العراق ومنهم  الدكتور الساعدي الذي ارسل اسرته الى العراق ولكن الحكومة منعتهم من العودة الى ليبيا ، فاضطر الى كتابة رسالة استعطاف الى صدام نشرها في جريدة القدس او جريدة العرب  كما اذكر يطلب فيها اعادة اسرته لانه شيخ كبير بحاجة الى رعاية.  وهناك من ذهب ولم يعد ، والبعض ذهب او ارسل اسرته ليشترى ما يستطيع من بيوت لرخص ثمنها بسبب الحالة الاقتصادية المتردية في العراق . ومما يجدر ذكره ان قنصل السفارة العراقية كان من مدينة الكوفة ، كان متعاونا مع العراقيين ويحاول خدمتهم بتلبية ما يريدون من اوراق وجوازات سفر ، ولكنه استدعي للعراق فيما بعد واعدم ، ولا ادري صحة تلك المعلومات لاني لم استطع التاكد منها .

عرفت في ليبيا مجموعة كبيرة من الكفاءات التدريسية العراقية في مختلف الفنون والعلوم ، تجدهم في المؤسسات العلمية القليلة مع الخبراء الروس  وفي الجامعات ، امثال الفنان يحي الشيخ والفنان نافع الخطيب ، وهما يعملان في معهد الفنون الجميلة / الرسم ، والفنان فاضل السوداني  في المسرح والدكتور حميد السعدي في القانون ، والشاعر عبد الله بشيو في الادب ، والدكتور عدنان جواد في الكيمياء ، والطبيب صباح مرعي والطبيب علي ميرزا  والدكتورة عطية الخطيب ، والدكتور مفيد الناصح  اختصاصي اسماك اضافة الى كونه فنانا ملحنا ومغنيا ، وغير هؤلاء كثير من الاطباء والمهندسين والاساتذة الذين يضيق المجال في تعدادهم .

صباح أحد الايام اعلمونا في الجامعة ان القذافي يريد الاجتماع بنا ، وعلينا ان نحضر صباحا الى قاعة الاجتماعات في الجامعة للاستماع الى محاضرة القائد .

حرصت على الذهاب كي ارى الاجراءات التي يستخدمها القذافي في لقائه وكيفية حراسته وتوزيع المدرسين على القاعة  وما الذي سيتحدث فيه ، خاصة وانهم نصبوا صحونا للبث والارسال اللاسلكي كنت اشاهدها لاول مرة في ليبيا.

دخلت القاعة وكان على الباب حرس يحملون عصا الكترونية للتفتيش عن الاسلحة ، ورغم اني كنت من اوائل الداخلين الى القاعة الا اني شاهدت عددا  كبيرا من الاشخاص يجلسون في القاعة ، شغلوا حوالي ربع القاعة ، فتعجبت من وجودهم دون ان الحظ  دخولهم معنا ، او خضوعهم للتفتيش .

جلست وسط القاعة كي ارى القذافي عن قرب واتفحص ملامحه ، عسى ان اتمكن من استشراف شخصيته الغريبة التي تقود  البلد بمثل هذا الاسلوب .

بعد دخوله وقف الجميع لتحيته وتعالت هتافات وتصفيق المكلفين بمثل هذه الفعاليات ، جلس واتخذ      الجميع اماكنهم ، وبعد السلام بادر بسؤال غريب لاتباعه الذين احتلوا القاعة قائلا : كم واحد فيكم من المخابرات ؟ في استهزاء منه على اساس انهم يفعلون ذلك دون تعليمات صادرة منه. لم اشاهد حارسات يرافقنه في تلك المناسبة ، وكان يرتدي بدلة بيضاء وفوقها عباءة سوداء خفيفة .

تحدث في قضايا وامور لها علاقة بالجامعة والسياسة وكان يشرق ويغرب حسبما يريد ، طلب منه بعض الليبيين ما يعن لهم من طلبات تتعلق بالجامعة ، ولكنه اثار قضايا غريبة مثل وجوب ارتباط كلية الزراعة بوزارة الزراعة وفصلها عن رئاسة الجامعة ، فعن لي ان أساله : بهذه الحالة هل يجب علينا ان نربط قسم اللغة الانجليزية بالسفارة البريطانية لا برئاسة الجامعة ، ولكني عدلت عن طرح مثل هذا السؤال لعدم تأكدي من وجود قسم لغة انجليزية في الجامعة ، خاصة وانهم احرقوا قبل سنوات قليلة الكتب الانجليزية في الشوارع كما اخبرني البعض بسبب الهجوم الامريكي على ليبيا !!

كان ذلك اللقاء هو اللقاء الوحيد الذي جلست فيه أمام القذافي وجها لوجه ، وكان حقا لقاء فارغا جعلني اعجل بخروجي من ليبيا ، وبالفعل تمكنت من مغادرة ليبيا الى السويد عام 1990. وكانت تلك اخر محطة عربية  اقيم فيها ، غادرتها دون عودة ...


* فصل من سيرة ذاتية للكاتب بعنوان : اوراق الغربة


 

free web counter